آخر الأخبار

الدينار هو مرآة اقتصاد يبحث عن نفسه “قراءة هادئة في لحظة الانهيار”

الدينار هو مرآة اقتصاد يبحث عن نفسه “قراءة هادئة في لحظة الانهيار”

رصدالمغرب / عبدالصمد الشرادي


في الجزائر، لم يكن تراجع قيمة الدينار حدثا مفاجئا، بل مسارا طويلا من الضعف التدريجي الذي ظل يدار بالترقيع أكثر مما يعالج بالإصلاح. لكن ما حدث خلال عام واحد، بين نوفمبر 2024 ونوفمبر 2025، تجاوز كل حدود التوقعات، حيث قفزة في سعر اليورو من 140 دينارا إلى ما يقارب 282.5 دينار رسميا، و285.0 دينارا في السوق الموازية، لكن هذا التسارع غير المسبوق ليس حدثا ماليا فقط، بل إشارة سياسية واجتماعية واقتصادية إلى بلد يقف أمام منعطف حاسم، لأن العملة ليست رقما، بل إنها نبض الثقة.

سعر صرف أي عملة يرتبط دائما بثلاث مرتكزات، وهي قوة الاقتصاد، وفعالية المؤسسات، وثقة المجتمع، حيث في حالة الجزائر، يبدو أن المرتكزات الثلاثة تعرضت للاهتزاز في الوقت نفسه، لأن المواطن البسيط لا يحتاج إلى تقرير اقتصادي ليفهم حجم الأزمة، بل يكفيه أن يقف في طابور طويل للحصول على الزيت أو الأدوية، حيث حين تتدهور القدرة الشرائية إلى النصف في أشهر، يتحول سعر الصرف من معلومة تقنية إلى جزء من الحياة اليومية، ونتيجة السوق الموازية، هو بنك مركزي بلا قانون.

لم يعد مكان مثل “بورت سعيد” مجرد نقطة لتغيير العملة، بل أصبح مؤشرا يوميا يحدد المزاج الاقتصادي العام، حيث أن الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء تعكس ضعف قدرة المؤسسات على فرض رؤيتها، وتظهر أن الاقتصاد غير الرسمي صار يلعب دورا أكبر مما يفترض في دولة تمتلك موارد طاقة هائلة، لأنه عندما تصبح السوق الموازية المرجع الحقيقي للعملة، فهذا يعني أن الدولة تخلت – طوعا أو كرها – عن أحد أهم أدوات سيادتها، فهل المشكلة في الدينار أم في النموذج الاقتصادي؟

الواضح أن الأزمة أعمق من انخفاض مؤقت أو تأثير ظرفي في أسعار الطاقة، حيث الجزائر فقدت خلال العقد الأخير جزءا كبيرا من احتياطاتها من النقد الأجنبي، بينما بقيت بنيتها الاقتصادية رهينة قطاع واحد، وهو المحروقات، وإلى ذلك، لم تتمكن الصناعة المحلية من الإقلاع، ولا القطاع الخاص من التحرر، ولا رأس المال الوطني من الإيمان بالاستثمار داخل البلد.

في التجارب الدولية، غالبا ما تكون لحظة انهيار العملة مقدمة لتحولات كبرى، وقد تكون بداية إصلاح أو بداية أزمة أعمق، لأن هناك سيناريوهات متعددة، وهي إصلاحات شجاعة تعيد الثقة وتفتح الباب أمام اقتصاد منتج، واستمرار الوضع الحالي بما يعني مزيدا من التدهور وتضخم أكبر وتوسعا للاقتصاد غير الرسمي، و تغيير سياسي تدريجي أو مفاجئ تفرضه الضرورة الاقتصادية.

السيناريو الذي ستسلكه الجزائر لا يزال رهن القرارات المقبلة، وليس بالضرورة قدرا محتوما، فما الذي يمكن إنقاذه؟ لأنه رغم كل شيء، ما تزال لدى الجزائر عناصر قوة لا يمكن تجاهلها، وهي ثروات طبيعية ضخمة و كتلة شبابية واسعة و موقع استراتيجي ورصيد من الكفاءات داخل البلاد وخارجها.

لكن هذه العناصر وحدها لا تبني اقتصادا ولا تحفظ عملة، بل المطلوب اليوم نموذج جديد، وهو اقتصاد متنوع، ومؤسسات شفافة، وبيئة استثمار محفزة، وإرادة سياسية توجه الموارد نحو الإنتاج لا نحو توزيع الريع.

الانهيار الأخير للدينار لم يكن النهاية، بل الإنذار الأخير، حيث قد يكون فرصة أيضا إذا فهم بطريقة صحيحة، لأن الأزمات الكبرى قد تكون لحظة ميلاد جديدة، بشرط أن يمتلك البلد شجاعة الاعتراف بالمشكلة وشجاعة الذهاب نحو الحلول، فالجزائر قادرة على تجاوز هذه اللحظة إذا اختارت ذلك، وأما الدينار، فسيظل يقول الحقيقة مهما حاولت الخطابات أن تخفيها.

إرسال التعليق