الرسل ومأساة التغيير: تحليل فلسفي واجتماعي لعبء الحرية
الرسل ومأساة التغيير: تحليل فلسفي واجتماعي لعبء الحرية
رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح
مقدمة: الرسالة النبوية كمشروع تحرري شامل
تُعد الرسالات السماوية، في جوهرها الفلسفي والاجتماعي، مشاريع تحرر شاملة تتجاوز البعد العقدي المحض لتلامس أعمق أبعاد الوجود الإنساني: الروحي، والسياسي، والاجتماعي. لم يكن هدف الأنبياء والرسل مجرد نقل الناس من عبادة إلى عبادة، بل تحريرهم من كل أشكال العبودية التي تكبل إرادتهم وتصادر كرامتهم. يمثل هذا المشروع التحرري صراعاً أزلياً بين منطق الكرامة الإلهية ومنطق القهر البشري، بين سلطان القيم الإلهية وسلطة الطغيان والاستبداد. غير أن هذا المسعى النبيل يصطدم دوماً بما يمكن تسميته بـ “مأساة التغيير”، وهي ظاهرة نفسية واجتماعية تتمثل في ممانعة الشعوب للتغيير واستثقالها لـ “عبء الحرية”، وهو ما يتطلب تحليلاً معمقاً لجذور هذه المأساة.
أولاً: نموذج موسى (عليه السلام) ومفارقة التحرر الناقص
تُقدم قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل نموذجاً مكثفاً لهذه المأساة التاريخية. لقد نجح موسى في تحقيق التحرر السياسي والجسدي لشعبه من قبضة فرعون، الذي كان يمثل قمة الاستبداد والطغيان. لكن التحرر الخارجي لم يوازيه تحرر داخلي. فبعد عبور البحر والنجاة، لم يستطع المجتمع الذي اعتاد على نظام العبودية الهرمي أن يتكيف مع متطلبات الحرية والمسؤولية.
تجلت هذه المفارقة في حادثة طلبهم من موسى أن يجعل لهم إلهاً كما للآخرين، وفي عبادتهم للعجل الذهبي. هذا السلوك لا يعكس مجرد انحراف عقدي، بل هو تعبير عن “الحنين إلى الاستبداد” و”الخوف من الحرية” بالمعنى الذي حلله عالم النفس الاجتماعي إريك فروم في كتابه الشهير الخوف من الحرية [1]. فالحرية، في جوهرها، هي مسؤولية واختيار، وهي تضع الفرد أمام فراغ وجودي يتطلب منه اتخاذ القرارات وتحمل تبعاتها. بالنسبة لشعب اعتاد على أن يفكر له الطاغية ويقرر له النظام، فإن التحرر يمثل عبئاً ثقيلاً ومخيفاً، فيفضل العودة إلى “الأمان الزائف” الذي يوفره نظام القهر، حتى لو كان هذا الأمان على حساب الكرامة والوعي. لقد استبدلوا عبودية فرعون الخارجية بعبودية العجل الداخلية، وهي عبودية النفس والهوى والمادية.
ثانياً: القابلية للاستعباد كعائق حضاري (مالك بن نبي أنموذجاً)
إن جوهر مأساة التغيير يكمن في “القابلية للاستعباد”. هذا المفهوم يجد صداه الأعمق في فكر المفكر الجزائري مالك بن نبي، الذي صاغ مصطلح “القابلية للاستعمار” [2]. يرى بن نبي أن الاستعمار ليس مجرد قوة خارجية غازية، بل هو نتيجة تفاعل بين عامل خارجي (المستعمِر) وعامل داخلي (القابلية للاستعمار) في نفسية المجتمع المستعمَر.
يمكن توسيع هذا المفهوم ليصبح “القابلية للاستبداد/الاستعباد”، وهو استعداد نفسي واجتماعي للخضوع والرضا بالدون. هذه القابلية تتشكل عبر تراكم تاريخي من الاستبداد الذي يفتك بالإرادة الفردية والجماعية، ويحول الإنسان من “فاعل” إلى “مفعول به”. إنها حالة من “العبودية الوجدانية” حيث يصبح الخضوع قيمة، والخوف منهجاً، وتغدو الحرية خطراً يهدد الاستقرار النفسي والاجتماعي المكتسب في ظل القهر.
ثالثاً: ثنائية الرفض: السلطة والشعب
الرسول واجه ثنائية الرفض: رفض من السلطة ورفض من الشعب. هذا التحليل يلامس عمق الصراع السياسي والاجتماعي:
1.رفض السلطة (الطاغية): هو رفض طبيعي من كل نظام استبدادي يرى في مشروع التحرير النبوي تهديداً مباشراً لامتيازاته وسلطانه. هذا الرفض هو صراع على السلطة والموارد.
2.رفض الشعب (المستعبَد): هو الرفض الأكثر مأساوية، لأنه صراع على الوعي والإرادة. الشعوب التي ترسخت فيها قيم الخضوع تجد في الرسول الذي يدعوها إلى التغيير الجذري شخصاً يهدد راحتها السلبية. إنهم يخشون ثمن الحرية، الذي هو:
- المسؤولية: فالحرية تعني تحمل نتائج الأفعال.
- المخاطرة: فالتغيير يتطلب التضحية بالأمان المادي والاجتماعي.
- الجهد المعرفي: فالحرية تتطلب يقظة دائمة ووعياً مستمراً.
رابعاً: التحرير الحقيقي: من الثورة السياسية إلى الثورة الوجدانية
ان عملية التحرير ليست مجرد معركة ضد الطغاة، بل هي معركة ضد القابلية للاستعباد. وهذا يضعنا أمام ضرورة التمييز بين نوعين من التغيير:
1.التغيير السياسي: وهو تغيير المنظومة ولكنه غير كافٍ.
2.التغيير الوجداني (الإصلاح): وهو تكوين “الإنسان الجديد” الذي يدرك معنى الرسالة ويتحمل مسؤولية الأمانة.
لقد كان الرسل مربين قبل أن يكونوا قادة سياسيين. فمشروعهم يبدأ من تطهير النفس من أثقال الذل والمادية والوثنية الحديثة. إن التغيير الحقيقي هو تحول في الوعي، يولد فيه إنسان “يأنف الخضوع لغير الله”، وهو ما يمثل أقصى درجات التحرر الروحي الذي ينعكس بالضرورة على السلوك السياسي والاجتماعي.
خاتمة: عبء الحرية ومتطلبات النهوض
إن مأساة الأمم التي تُمنح فرصة التغيير ثم ترتبك أمام متطلباته، فتعود إلى حنينها القديم، تظل درساً تاريخياً وفلسفياً عميقاً. إن التغيير ليس انتقالاً في الأنظمة فحسب، بل هو تحول في “الذات” و”الوعي”. والدرس الأبرز من مسيرة الرسل هو أن التحرير الحقيقي يبدأ من الداخل. فالحرية ليست هبة تُمنح، بل هي حالة وجودية تُكتسب بجهد روحي ومعرفي مستمر. وعندما يغيب هذا الجهد، يتحول التحرر إلى عبء، وتصبح العودة إلى الاستبداد، القديم أو الجديد، خياراً نفسياً مريحاً، وإن كان مدمراً على المدى الطويل.
إرسال التعليق