آخر الأخبار

المنهج النبوي في ضبط العلاقة بين الوحي والسياسة

المنهج النبوي في ضبط العلاقة بين الوحي والسياسة

رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح 

تتناول هذه الدراسة أحد أهم الأحاديث النبوية المؤسسة لمنهج التعامل مع القضايا السياسية والعسكرية في الإسلام، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي: «لا تُنزِلْهُم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكمَ الله فيهم أم لا» (رواه مسلم). تهدف الدراسة إلى استخلاص الدلالات الأصولية والسياسية لهذا التوجيه، وتوظيفها في نقد الخطابات المعاصرة التي تخلط بين الاجتهاد البشري والقطع الإلهي، وتحديداً خطاب الحاكمية والتطرف. وتخلص الدراسة إلى أن الحديث يرسخ مبدأ نسبية القرار السياسي، وينفي عنه صفة العصمة أو القداسة، مما يمثل أساساً نظرياً لتهذيب الفكر السياسي الإسلامي المعاصر.

1المقدمة: الإشكالية والأهمية

يمثل التراث النبوي مصدراً لا غنى عنه لفهم المنهج الإسلامي في إدارة شؤون الدولة والمجتمع. ومن بين نصوص هذا التراث، يبرز حديث بريدة بن الحصيب في سياق حصار حصن، كمنارة منهجية تضيء العلاقة الشائكة بين النص الديني (الوحي) والممارسة السياسية (الاجتهاد). فالنص النبوي يوجه القائد العسكري إلى عدم نسبة قراره التفاوضي أو العسكري إلى “حكم الله” على سبيل القطع، بل إلى “حكمه” الشخصي القابل للخطأ والصواب.

هذه الدراسة تسعى إلى الإجابة على التساؤل الرئيس: كيف يضبط التوجيه النبوي في حديث «لا تُنزِلهم على حكم الله» العلاقة بين الوحي والسياسة، وما هي دلالاته النقدية للخطابات الحركية والجهادية المعاصرة؟

  1. الإطار النظري: الحديث بين فقه السيرة والأصول

 

الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم، عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، ضمن وصية النبي صلى الله عليه وسلم لقائد الجيش. وقد أجمع شراح الحديث، كالإمام النووي، على أن النهي عن إنزالهم على حكم الله محمول على التنزيه والاحتياط، لئلا يقع المجتهد في غير مراد الله فينسبه إليه، فيكون ذلك افتئاتاً على الشريعة 1.

التمييز بين “حكم الله” و”حكم المجتهد”

يمثل الحديث النبوي: «لا تُنزِلْهُم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيبُ حكمَ الله فيهم أم لا» مفتاحًا لفهم التمييز بين حكم الله بوصفه حقيقة قطعية ثابتة لا يدركها البشر إلا بنص صريح، وبين حكم المجتهد الذي لا يتجاوز كونه فهمًا بشريًا ظنيا محكوما بشروط الواقع وحدود المعرفة. هذا التمييز لم يكن مجرد قاعدة فقهية، بل شكل أساسا لمنهج سياسي وأصولي عميق يحرر المجال السياسي من القداسة، ويجعله مجالا للاجتهاد والتقدير والمصلحة، حتى في زمن النبوة نفسها.

يؤكد الحديث أن تنزيل حكم بشري على أنه “حكم الله” خطأ منهجي خطير، لأن الحكم الحقيقي لله لا يعرف إلا بوحي قطعي الدلالة والثبوت، وما عداه يدخل في مساحات الاجتهاد. وقد تجلّى هذا في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم حين رفض اعتبار اجتهاد الصحابي حكما إلهيًا، وفي مواقف أخرى مثل قصة تأبير النخل التي قال فيها: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وفي اختلاف الصحابة حول أسرى بدر، وفي صلح الحديبية الذي جاء تقديرًا لمصلحة عليا لا تنطلق من وحي مباشر، وفي تقسيم غنائم حنين بدافع سياسي واجتماعي. بل إن الخلفاء الراشدين أنفسهم اجتهدوا في تعطيل بعض الأحكام أو تغيير آليات تطبيقها مراعاةً لظروف الأمة، ما يدلّ على أن مقاصد الشريعة هي الميزان الأعلى، وأن النصوص الظنية تُنزَّل وفق المصلحة.

هذا الفهم العبقري هو ما صاغه أبو الحسن الندوي في منهجه التحليلي حين رأى أن الوحي يقدم المبادئ والقيم الكلية مثل العدل، وصيانة الحقوق، وحماية المجتمع، بينما تبقى تفاصيل السياسة وإدارة الواقع مجالًا للاجتهاد البشري. فالوحي يرسم الأفق، والإنسان يملأ الفراغ التنفيذي وفق ظروف الزمان والمكان. وبذلك لا تُرفع القرارات السياسية إلى مرتبة العصمة، ولا تُنسب إلى الله إلا الأحكام القطعية التي لا تتبدل.

إن إدراك الفارق بين حكم الله القطعي وحكم المجتهد الظني ضرورة معاصرة لفهم السياسة الشرعية وتحصين الدين من التوظيف السياسي. فالخلط بينهما يولّد التطرف، ويغلق باب الحوار، ويمنح الجماعات السياسية قداسة زائفة. أما التمييز الواضح فيعيد السياسة إلى مجالها الطبيعي: قرارات بشرية قابلة للنقد والمساءلة، تستلهم المقاصد الكبرى دون أن تدّعي امتلاك الإرادة الإلهية. وهكذا يصبح الاجتهاد ممارسة مسؤولة، ويستعيد الدين دوره في توجيه القيم دون أن يتحول إلى أداة صراع أو ساحة للمزايدة.

 

  1. الدلالات السياسية والمنهجية للحديث

نفي العصمة عن القرار السياسي

إن توجيه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي بأن ينزل الأسرى على حكمك أنت مع التنبيه على احتمال الخطأ («فإنك لا تدري أتصيبُ حكمَ الله فيهم أم لا»)، يرسخ مبدأ عدم قداسة القرار السياسي.

يظهر التوجيه النبوي القائل بعدم إنزال الخصوم على حكم الله والاكتفاء بما يراه القائد من اجتهاد بشري رسالة عميقة في ضبط العلاقة بين الوحي والعمل السياسي إذ يكشف أن القرارات المتخذة في الشأن العام ليست أحكامًا نهائية منزلةبل هي اختيارات بشرية قابلة للمراجعة والنقد. فالقائد ايا كان موقعه يتحمل مسؤولية قراره أمام الله وأمام التاريخ بما يعني أن السلطة ليست تفويضا مطلقا ولا مسوغا لاحتكار الصواب أو الادعاء بأن الرأي المتخذ يمثل الإرادة الإلهية. ومن هذا المنطلق تتأسس المسؤولية الفردية في القرار السياسي إذ ينزع عنه طابع القداسة ويعاد إلى مجاله الطبيعي بوصفه اجتهادا بشريا يخضع لموازين المصلحة وقد يخطئ أو يصيب.

هذا التوجيه يرتبط كذلك بطبيعة السياسة نفسها فهي مجال ظني متغيرلا يقبل القطع ولا يبنى على الجزم بامتلاك الحقيقة النهائية. ولذلك جاء التحذير النبوي من نسبة الاجتهاد البشري إلى الله حتى لا تتحول المواقف السياسية إلى نصوص مقدسة أو إلى أدوات لإسكات النقد والمحاسبة. فعندما يقر النبي بأن الصحابي لا يدري هل يصيب حكم الله أم لا فإنه يفتح الباب أمام الوعي بأن القرارات السياسية مهما بدت راجحة تبقى ضمن دائرة الظن وأن صوابها يحتاج إلى نقاش وتقدير وتقييم مستمر.

وتنعكس هذه الدلالة على بنية التفكير السياسي في الإسلام إذ يدعو الحديث إلى تحرير العقل من وهم امتلاك الحقيقة في الشؤون المتغيرة ويمنع تحويل الآراء البشرية إلى مسلمات تلزم الآخرين باسم الدين. فهذا التوجيه يعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي فالوحي يضع المبادئ والقيم العامة أما تنزيلها على الوقائع المتغيرة فهو عمل بشري اجتهادي لا ينبغي تضخيمه ولا نسبته إلى الله على سبيل القطع. بهذا يتحرر العقل المسلم من ضغط القداسة التي قد تولد الاستبداد أو تمنح الرأي الواحد سلطة مطلقةكما يعيد للتجربة السياسية إنسانيتها القائمة على الحوار والمراجعة والتعلم من الخطأ.

وبذلك تتكامل الدلالات الثلاث المسؤولية الفردية، وظنية الاجتهاد السياسي، والتحرر من ادعاء الحقيقة المطلقة لتمنح هذا التوجيه النبوي عمقه الحركي في الواقع المعاصر؛ فهو يحمي السياسة من التقديس، ويحمي الدين من التوظيف، ويمنح المجتمع مساحة واسعة للنقد والمحاسبة، ويضمن بقاء القرار السياسي عملاً بشريًا منفتحًا على التصويب والتطوير.

 

. ظنية الاجتهاد السياسي وفتح باب النقد

تقوم الفكرة المركزية لظنية الاجتهاد السياسي على اعتبار السياسة فعلا بشريا متغيرا محكوما بحركة الواقع وتقلب المصالح لا مجال فيه للقطع ولا لادعاء امتلاك الحقيقة النهائية. فكل قرار سياسي مهما بدا محكماً أو راجحاً، يظل في نطاق الظن والترجيح، وهو ما يمنع تحوله إلى مقدس ويجعل النقد والمحاسبة ضرورة لا غنى عنها لضبط الممارسة السياسية. إن هذا الوعي المنهجي يمثل صمام الأمان الذي يحفظ المجال السياسي من الاستبداد، ويمنع تسييج الرأي البشري بسياج قدسي يحرم مناقشته أو مراجعته.

وقد أدرك علماء الفكر الإسلامي هذا البعد المتغير للسياسة منذ القرون الأولى، فميز الأصوليون بوضوح بين القطعي الذي لا يقبل الجدل، والظني الذي هو مجال الاجتهاد. فالسياسة في جوهرها فقه موازنة وترتيب أولويات وتقدير مصالح ومفاسد، وهي عناصر بطبيعتها نسبية ومتغيرة بتغير الزمان والمكان. لذلك قال الغزالي والجويني وغيرهما من كبار العلماء إن معظم مسائل الخلافة والحكم تدور في إطار الظن الذي يحكم فيه بالأغلب، لا في إطار القطع الذي لا يقبل الاحتمال. هذا التواضع المعرفي يعكس فهماً عميقاً لطبيعة الفعل السياسي، ويحفظه من الانزلاق إلى ادعاء المطابقة المطلقة لحكم الله.

ومن هنا تتضح خطورة خطاب السياسة القطعية الذي سعى اصحابها إلى تصوير القرار السياسي بوصفه تجسيدا مباشرا لإرادة الله وهو خطاب رسخه بعض المفكرين الحركيين المعاصرين وجرى توظيفه في صراعات سياسية وأيديولوجية واسعة. فإسناد القداسة إلى القرار البشري يفضي حتما إلى تعطيل النقد وتكريس الطاعة العمياء وفتح الباب أمام الاستبداد الفكري والسياسي. وقد تناول مفكرون معاصرون هذه الإشكالية بالنقد والتحليل، فأكد محمد سعيد العشماوي على سبيل المثال على ضرورة التمييز بين الشريعة بوصفها مبادئ ثابتة والتشريع أو السياسة بوصفهما مجالاً بشرياً اجتهادياً دائماً خاضعاً للتغيير والمراجعة. فرفع القرار السياسي إلى مرتبة المقدس ليس سوى خلط بين ما هو رباني مطلق وما هو إنساني نسبي، وهو خلط يستغل في تبرير القمع ومنع المعارضة.

وتتجاوز ظنية الاجتهاد السياسي مجرد نقد خطاب الحاكمية لتطال أيضاآليات العمل داخل الحركات السياسية نفسها. فحين يتحول رأي القائد أو المرشد إلى ما يشبه الحقيقة الملزمة التي لا تراجع، تقع الحركة في الشرك ذاته الذي تنتقده في الأنظمة السلطوية. إن الاعتراف بظنية الاجتهاد يعني التخلي عن لغة الجزم واعتماد لغة الترجيح، والقبول بتعدد الفهوم داخل الجماعة وإتاحة المجال للنقد والمراجعة باعتبارهما شرطين لبقاء أي حركة سياسية في حالة صحة وتجدد.

وتكشف المقارنة بين منهج الظنية ومنهج القداسة عن فروقات جوهرية؛ فالقرار السياسي في الأول بشري نسبي قابل للخطأ وتستند شرعيته إلى العقل والمصلحة والموازنة أما في الثاني فيصوَر كقرار إلهي مطلق يعامل بمنطق العصمة مما يؤدي إلى الاستبداد والجمود ومنع النقد. إن ترسيخ الظنية يفتح الباب لتعدد الآراء، ويجعل القرار السياسي قابلاً للتصحيح، ويمنح المجال العام دينامية صحية بينما يؤدي ادعاء القداسة إلى إغلاق الأفق وإسكات المخالفين.

إن استحضار ظنية الاجتهاد السياسي ليس مجرد تنظير فلسفي أو فقهي بل هو مشروع لإعادة الاعتبار للإنسان في المجال السياسي وتحويل القرار من فعل فوقي محاط بهالة من العصمة إلى عملية بشرية مفتوحة للنقاش والتطوير. وهي دعوة لبناء ثقافة سياسية قائمة على التواضع المعرفي واحترام الاختلاف وإعلاء قيم النقد والمحاسبة، باعتبارها الأساس الذي تقوم عليه الممارسات السياسية السليمة. فعندما يتحرر القرار السياسي من القداسة المزعومة، يصبح المجال العام أكثر شفافية وعدلاً وتوازنا ويستعيد المجتمع قدرته على المشاركة الفاعلة في توجيه مساره.

 

  1. الخاتمة والاستنتاجات

يعد حديث «لا تُنزِلهم على حكم الله» نصاً محورياً في الفقه السياسي الإسلامي، حيث يقدم إطاراً منهجياً لضبط العلاقة بين الوحي والاجتهاد.

الاستنتاجات الرئيسية:

1.القرار السياسي اجتهاد بشري ظني: لا يجوز لأي سلطة سياسية أو حركية أن تضفي صفة القطع أو القداسة على قراراتها، حتى لو كانت مستنبطة من نصوص شرعية.

2.الحديث أساس لنقد الغلو: يمثل الحديث أداة نقدية قوية ضد خطاب التعصب الذي ينسب الاجتهادات البشرية إلى الذات الإلهية، وهو ما يعد أصل الغلو والاستبداد باسم الدين.

3.ترسيخ المسؤولية المدنية: يلقي الحديث المسؤولية كاملة على عاتق القائد، مما يرسخ مبدأ المساءلة والمحاسبة في الشأن العام.

إن إعادة استحضار هذا التوجيه النبوي وتحليله في سياق النقاشات المعاصرة حول التطرف والسياسة الشرعية هو شرط أساسي لتهذيب الخطاب الديني وتجنيب المجتمعات مظاهر الغلو والاستبداد.

 

إرسال التعليق