بريطانيا غسلت دماء دارفور لحماية حلفائها حين حذفت كلمة “إبادة”
رصدالمغرب / عبدالكبير بلفساحي
لم يكن ما نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية مجرد قصة صحفية عابرة، بل كشفا صادما عن كيفية تعامل بعض القوى الدولية مع أخطر الجرائم الإنسانية بمنطق “إدارة السمعة” لا “حماية البشر”، حيث التقرير الذي استند إلى شهادات من داخل وزارة الخارجية البريطانية، أشار إلى أن لندن تعمدت حذف كلمة “إبادة جماعية” من تقارير الإنذار المبكر بشأن الوضع في السودان، في وقت كانت فيه دارفور تحترق والضحايا يتساقطون بالآلاف.
تقول المعلومات إن بريطانيا، بصفتها “حاملة قلم” ملف السودان في مجلس الأمن، كانت تمتلك قدرة تأثير كبيرة على اللغة المستخدمة في تقارير الأمم المتحدة. غير أن تلك القدرة استخدمت (وفق التسريبات) ليس للضغط من أجل حماية المدنيين، بل لتخفيف لهجة التقارير، وتجنب الإقرار بأن ما يحدث في غرب السودان قد يرقى إلى إبادة جماعية، حيث إخفاء التحذير هو حماية، لا للمدنيين بل للمصالح، والسؤال هو لماذا؟
لأن الاعتراف بجريمة بهذا الحجم يعني فتح الباب أمام مساءلة دول داعمة أو ممولة للأطراف المتورطة، حيث في مقدمة هذه الدول، حسب اتهامات عديدة، الإمارات التي يشتبه بأنها قدمت دعما لقوات الدعم السريع، المتهمة بارتكاب عمليات قتل جماعي في الجنينة وغيرها، وبمعنى آخر، كل ذلك لحماية المصالح السياسية والتجارية والعسكرية التي تفوقت على واجب التحذير، والتي هي واحدة من أبشع الجرائم التي يعرفها القانون الدولي، بذلك فإن دارفور كانت تحترق ولندن كانت تعلم.
وما يضاعف خطورة ما كشف هو التوقيت، لأن الفترة التي جرى فيها حذف كلمة “إبادة جماعية” تزامنت مع تصاعد أعمال العنف في دارفور، وانهيار كامل للنظام الأمني، وظهور شهادات وتقارير عن قتل جماعي وتهجير قسري على أساس عرقي، حيث مع تراكم الأدلة، لم يعد السؤال هو هل كانت هناك جريمة جماعية؟ بل هو لماذا لم يتحرك المجتمع الدولي بسرعة كافية؟ ومن أعاق التحرك؟
لقد أصبح الأمن الدولي رهينة الحسابات الضيقة، وما يظهر هذا السلوك إشكالية أعمق تتجاوز السودان نفسه، لأن الآليات التي وضعت لمنع الفظائع، والهيئات التي يفترض أن ترصد مبكرا بوادر الإبادة، تتحول إلى أدوات تجميل دبلوماسي إذا خضعت لمصالح القوى الكبرى. عندها يصبح الإنسان الثمن الأول، ويترك السكان لمصيرهم القاتم.
وإذا كانت دولة مثل بريطانيا، والتي تقدم نفسها عالميا كمدافع عن القانون الدولي، تختار التلاعب باللغة لحماية حليف، فكيف لنا أن نتوقع من المنظومة الدولية أن تمنع حربا أو مجزرة أو تطهيرا عرقيا؟ والنتيجة هي عار أخلاقي وتحد قانوني،
إن تجاهل التحذيرات، أو تعديلها عمدا، لا يحول دون وقوع الجرائم، بل يعيد إنتاجها. وما حدث في دارفور يذكرنا بحقيقة مريرة، وهي أن الإبادة لا تحدث فقط بفعل الرصاص، بل أيضا بفعل الصمت المنظم، ومهما حاولت الحكومات التهرب اليوم، فإن مطالب المساءلة ستظل قائمة، سواء عبر البرلمانات الوطنية أو الهيئات الدولية أو التاريخ ذاته، الذي لا ينسى ولا يغفر للمتواطئين.
قد تبدو كلمة “إبادة” مجرد مصطلح قانوني، لكن حذفها من تقرير تحذيري يعني تغيير مصير آلاف البشر، وما كشفته “الغارديان” ليس فقط فضيحة سياسية، بل تذكير بأن اللغة (حين تستخدم في الدبلوماسية) قد تصبح أداة للستر لا للكشف، وللإخفاء لا للحماية، ودارفور لم تحترق وحدها، احترقت معها مصداقية القوى التي ادعت أنها تحمل مسؤولية حماية العالم من الفظائع، والسؤال اليوم ليس عما حدث فحسب، بل عمن سمح له أن يحدث، وعمن استفاد من السكوت عنه.
إرسال التعليق