آخر الأخبار

حين تتحول الحقول إلى مرآة لخيبات الوطن

حين تتحول الحقول إلى مرآة لخيبات الوطن

رصدالمغرب / لبنى موبسيط


على بعد ثلاثين كيلومترا فقط من الصخب المديني لأكادير تمتد آيت ملول، وهي مدينة لا تعرفها الخرائط بقدر ما يعرفها المشهد الصامت لنسائها الواقفات عند “الموقف”، حيث مع إشراقة الصباح الأولى، يتحول هذا الفضاء الترابي إلى بوابة عبور نحو يوم طويل من العمل الشاق، وإلى مسرح مكشوف تتداخل فيه الهشاشة الإنسانية مع قسوة الحاجة.

فتيات في مقتبل العمر وأرامل ومطلقات وأخريات يخفين ملامحهن تحت أثواب باهتة تآكل لونها من فرط الشمس والاستعمال، جئن من مدن بعيدة، مثل الخميسات، بني ملال، قلعة السراغنة، مراكش، آسفي… ومن دواوير سوس نفسها. كلهن يلتقين في المكان ذاته، وفي المصير ذاته، ليجدن في انتظارهم شاحنة صغيرة أو “بيكوب” أو عربة يجرها جرار فلاحي في بعض الأحيان، لينقلن إلى ضيعة مجهولة، حيث لا قانون يحمي ولا عين تراقب.

ورغم أن مدونة الشغل تبشر بحقوق العاملات، إلا أن الواقع يفضح المسافة الشاسعة بين النص والممارسة. ففي الضيعات البلاستيكية، يتكرر المشهد ذاته، حيث أجور هزيلة لا تتجاوز 50 أو 70 درهما في اليوم، مقابل ساعات عمل طويلة تحت حرارة لا ترحم، و“كابران” يمسك بخيوط السلطة داخل فضاء لا تربطه بالدولة سوى الاسم. وهنا تصنع هشاشة المرأة، لا من قلة القوة الجسدية، بل من غياب الحماية القانونية والاجتماعية، وفراغ رقابي ترك بلا مساءلة.

وفي ظل هذا الغياب، تفسح الأرض الخصبة المجال لاستغلال أبشع، حيث هناك تحرش لفظي وابتزاز ونظرات جارحة، وشروط “انتقاء” تعيد للأذهان مشاهد أسواق النخاسة القديمة. والمفارقة أن هذه الظواهر تتعايش مع خطاب نسوي حضري يملأ القاعات والمهرجانات والشعارات اللامعة، لكنه لا يصل قط إلى “الضيعة”، ولا يسمع أنين النساء الزاحفات على ركبهن لتنقية العشب.

آيت ملول اليوم ليست فقط مركزا فلاحيا، بل إنها نقطة جذب لآلاف الأسر التي نزحت نحو الضواحي بحثا عن لقمة عيش أقل كلفة. وهناك في تجمعات سكنية عشوائية، تتولد مشكلات صحية واجتماعية عديدة، تتسع معها دائرة الفقر وتضيق دائرة الأمان، وبينما تنمو الحقول وتنتعش الصادرات، تظل كرامة المرأة العاملة تتآكل بصمت.

الصورة قاتمة، نعم! لكنها قبل أن تكون فاجعة فردية، هي مرآة لسياسات تنموية لم تضع المرأة القروية في مركز الاهتمام، وهي أيضا سؤال مفتوح موجه للدولة، للأحزاب، للنقابات، وللمنظمات النسائية، وهو كيف يمكن لبلد يتباهى بتنمية فلاحية متقدمة أن يسمح في الوقت نفسه باستمرار هذا الشكل من “الاسترقاق الحديث”؟

نساء “الموقف” لا يطلبن امتيازات فوق العادة ولا وعودا منمقة، لأن كل ما يبحثن عنه هو عمل يليق بكرامتهن، وقانون يطبق فعلا لا نظريا، وحماية تضمن أن لا يتحول البحث عن لقمة عيش إلى جرح يومي مفتوح.

وإلى أن تتحقق تلك الأساسيات، ستظل آيت ملول تفتح طرقاتها كل صباح على مشهد يختزل بأسى حقيقتين متناقضتين، وهما وطن يسعى للنمو، ونساء يهدرن في الظل.

إرسال التعليق