
لمشروع الصهيوني أو إقامة دولة على أشلاء الإنسانية -قراءة في موقف جاكلين روس من قسوة بني صهيون-
رصد المغرب / د. أحمد الفراك
مقدمة
غالبا ما يكون تناول الفلاسفة للقضايا الكبرى في عصورهم من العمق والدقة والفرادة ما يُخلد أعمالهم ويقوي أثرهم في الأجيال اللاحقة لهم، خاصة إن استطاعوا التخلُّص من ثقل التحيزات المذهبية والإيدلوجية والسياسية والتزموا في تحليلهم قدرا معتبرا من الحياد والموضوعية، والنماذج في هذا الباب كثيرة، أذكر منها موقف الفيلسوفة المشتهرة جاكلين روس من المشروع الصهيوني في فلسطين، فبعد اطلاعي على كتابها “القضية الصهيونية”[1] بدا لي أنها لامست بطريقتها الخاصة جوهر المشكلة في القضية الفلسطينية، واستطاعت أن تراعي مسافة معقولة بين ديانتها اليهودية والحركة الصهيونية التي درستها في نصوص مؤسسيها ومن خلال مقابلات ميدانية مع قادة الاحتلال الصهيوني وقراءة تصريحاتهم في مناسبات مختلفة، وانتهت إلى خلاصات مهمة تستحق أن تذكر في موضوعنا.
ننظر إذن إلى القضية الصهيونية من موقف يعبر عن مسؤولية العالم والمثقف والفيلسوف في الكشف عما يجري في العالم من شرور، والتنبيه إلى ما يحدثه الإنسان للإنسان والطبيعة وباقي الأحياء من أضرار، فننظر لليهودية والصهيونية من داخل الذات اليهودية عبر الباحثة المقتدرة جاكلين روس.
الصهيونية جرثومة فساد بالدين والعرق والعنف
معلوم أن “الصهيونية منذ بداياتها هي حركة قومية تقوم على العرقية إذ تعتبر اليهود “شعب تاريخي” وفق منظورها وتقصي أية إمكانية اندماج مدني إرادي داخل الوطن الذي تعمل لتكوينه حسب برنامجها”[2]، أو كما عرفها عبد الوهاب المسيري بكونها “حركة سياسية في العصر الحديث تطالب بإعادة توطين اليهود في فلسطين باعتبارها أرض الميعاد كوسيلة لحل المسألة اليهودية”[3].
أما جاكلين روس فقد لخصت تعريفها في ثلاث كلمات، إنها “حركة خلاص يهودية”[4]، وهو التعريف الذي يتشابه مع ما ذهبت إليه الفيلسوفة اليهودية حنا أرندت (1906-1975) التي تعتبرها “حركة سياسية يهودية” بنَت استقلالها المزعوم على المصالح المادية لشعب آخر، فهي إذن حركة يهودية عنصرية متطرفة تأسست سنة 1897م لتعبر عن رغبات وتلخص طموحات اليهود في العصر الحديث، أي أنها عبارة عن تنظيم يحمل رؤية وأهدافا ويرتب على ضوئها وسائل وأدوات ويرصد غايات خلاصية محددة تتخذ من تأويل نصوص الدين اليهودي مرجعا لها ومن الواقع مجالا للتجريب والتطبيق، وفي مقدمتها العودة إلى “أرض إسرائيل”، وقد اتخذت تسميتها (Zionism) من اسم جبل صهيون الذي يقع جنوب بيت المقدس، ثم إقامة مملكة إسرائيل الكبرى التي تمتد إلى نهر النيل، والسيطرة من خلالها على العالم تحت ملك يهودا المنتظر!
مقصد الصهيونية واضح منذ البداية وهو “إقامة دولة يهودية عنصرية” تقوم على العرق والدين والعنف، تسمح لنفسها باستعمال مختلف الوسائل الشنيعة الممكنة من أجل الوصول إلى صناعة “وطن قومي” يجمع شتات اليهود الموزعين في العالم، لذلك فهي “ولدت من الرعب”[5] والترهيب كما يؤكد الكاتب الأمريكي توماس سواريز في كتابه (State of Terror: How Terrorism Created Israel)[6]. وقد أدى “خلق إسرائيل سنة 1948 إلى مظلمة تاريخية بحق الفلسطينيين لا تزال تنتظر الإحقاق”[7] إلى يومنا هذا.
العدو الدائم للصهيونية هم العرب، وهم قوم “بدائيون يخضعون إذا غُلبوا وأهينوا”، وإن كانوا هم أهل الأرض وسكانها الذين يملكون شهادات ميلاد أجداد أجدادهم بها. لذلك تتفنَّن الصهيونية في استعمال أبشع طرائق الفتك والتعذيب والإذلال والحط من الكرامة الآدمية في حق الفلسطينيين، لتهجيرهم أو إخضاعهم أو إطماعهم، وسرقة الأرض منهم. وغالبا ما يكررون الجواب نفسه إذا فُجع العالم بفِعالهم: لـ“ردع الإرهابيين”. ليصير كل من يتشبث بأرضه إرهابيا.
وتنقل جاكلين روس تصريح أحد قادة الحرب على غزة لما سُئل عن تقتيل الأطفال ببشاعة، قائلا: “أنا أتذكر المحرقة، ونحن أمام خيارين: أن نحارب الإرهابيين أو أن نواجه المحرقة ثانية”، وتعلق عليه بقولها: “هذه هلوسة مثلما هي أيضا استغلال للمحرقة لتسويغ عنف الدولة”[8]. أليست هذه هلوسة في التفكير والخطاب لتضليل الرأي العام اليهودي وإقناعه بجدوى التقتيل الجماعي في حق الفلسطينيين أصحاب الأرض والحق؟
لا شك أن حُكْم جاكلين روس على الصهيونية ينم عن عمقٍ فلسفي صادر من باحثة أكاديمية وأديبة بارزة ومثقفة متحررة، اطلعت بتأنٍّ على أصول الأدب اليهودي ودرست الشخصية اليهودية مستعينة بخبرات مدارس علم النفس الحديث في كشف اللاوعي الصهيوني المتحكم في تفكير وتخطيط القادة الصهاينة في العالم، إذ “للشجرة الملعونة جذور سارية في الأرض، ساكنة في أرجاء المعمور”[9].
وقد استمدت روس عنوان كتابها “القضية الصهيونية” الذي كتبته عام 2004، من روح ورحم كتاب إدوارد سعيد “القضية الفلسطينية” الذي طبع عام 1979م، كما تعترف هي نفسها بذلك[10]، بل إنها جعلت إهداء الكتاب له اعترافا بفضله، وعنوانه تكريما له بعد وفاته بأسابيع قليلة. وهي من المفكرين الذين تخلصوا من سجن الغطرسة الغربية التي تتنكر للحق وتنصر الباطل في واضحة النهار، ونذكر من أمثالها بالمناسبة نعوم تشومسكي وجورج شتاينر وحنا أرندت وشاحاك وبارنباوم وغيرهم كثير.
أحيانا تقدم الصهيونية نفسها على أنها حركة غير مسؤولة وغير واقعية[11]، وربما يفتخر الصهاينة بأنهم مجانين، لأنهم لو لم يكونوا مجانين لما فكروا في الذهاب إلى فلسطين، كما قال فايتسمان أول رئيس لدولة “إسرائيل”[12]، ويقومون بالأعمال الفاحشة التي لا يقدم عليها عاقل، ويسعون وراء تحقيق حُلم ديني ونبوؤاتٍ قالوا عنها أنهم تلقوها في منامهم من رسل بني إسرائيل، وتخص قومهم وحدهم، قصد سرقة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وهي مقولة مشهورة وإن كانت في الحقيقة هي مجرد كذبة مفضوحة[13]، إذ الصوت القديم الجميل الذي كان ينادي بوطن موعود جديد “لم يدع إلى إقامة دولة على أشلاء الإنسانية”[14].
دولة الخلاص أم دولة الرعب؟
تفرد اليهود عموما بحفاظهم على خصوصيتهم من دون الناس، إذ نجدهم في كل زمان ومكان احتفظوا بشخصيتهم وثقافتهم وديانتهم[15]، غير أنهم لم يعيشوا مطمئنين إلا في فترات قصيرة جدا، لذلك تجتمع في العقيدة الصهيونية فكرة الخلاص والاستيلاء على العالم بفكرة الرعب والحرب والدمار، ومنه تستنتج روس بأن “النظرة الخلاصية إلى تاريخ العالم هي أن الشعب اليهودي لا بد من أن يعيش على حافة السكين”[16]، مهدَّد ومهدِّد، ليس معه أي سند شرعي أو سبب أرضي معقول لاحتلال أرض فلسطين بالعنف والإرهاب، فقط هناك إيديولوجية متشددة، هي إيديولوجية الخلاص والبعث الديني بتأويلاتها المختلفة، ولكنه يندفع إلى ذلك بجهالة.
ليس المسلمون وحدهم من هاله ما تقدم عليه عصابات بني صهيون في حق الإنسان، بل من اليهود أيضا من راعه ما تُقدِم عليه العصابات الصهيونية من تقتيل واغتيال وسجن وحصار، فاستنكر وتبرأ واعتبر أن السياسة اليهودية تناقض شريعة النبي موسى عليه السلام، بل تناقض جميع الديانات والشرائع والقوانين. إذ “الملاحظ أن من اليهود قلة اليوم لا تتفق مع المشروع الصهيوني ولا تعترف بالدولة اليهودية”[17]، ومن اليهود الرافضين للصهيونية الحاخام نيوزنر صاحب كتاب”اليهودية الأمريكية” الصادر سنة1972، والذي يحذر من الخلط بين الصهيونية واليهودية، ويرفض الصهيونية الاستيطانية، كما يري أن النزعة الصهيونية أخذت تعوضتدريجياً الدين اليهودي، حتى استولتعلى الخطاب الديني اليهودي وعلى رموز اليهودية الدينية.
في العقيدة الصهيونية نجد الجمع بين نشدان المستحيل وانتهاك الواقع بارتكاب الحماقات والمجازر، و“تحقيق الحلم يتطلب عمل الكثير بعنف”[18]، ذلك أن مذهب الصهيونية أو التصهيُن يتطلب من معتنقيه تضحية كبيرة ودائمة، بل مغامرة ومقامرة غير معقولة ولا عقلانية، إذ “الصهيونية تطلب أكثر مما يطاق“[19] كما كانت تردد امرأة هيرتزل. وهل يوجد أكثر من الوحشية ما يطاق؟ ولا تزال إلى اليوم “الصهيونية هي مفتاح المأساة التي تتكشف فصولها كل يوم”[20].
ذكر السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته في نيسان أبريل 1917م: “وُلدَت في أمريكا دولة فتية قوية وكانت إسبانيا قد أخرجت مستعمراتها وانتظم يهود العالم وسعوا عن طريق المحافل الماسونية للعمل في سبيل على الأرض الموعودة وجاءوا إليَّ بعد فترة وطلبوا مني أرضا لتوطين اليهود في فلسطين مقابل أموال طائلة، وبالطبع رفضت”[21]، هذا الرفض السلطاني كسر الحُلم الذي أبداه الكاتب المسرحي هيرتزل(1860م 1904م) في روايته “الأرض القديمة الجديدة”، وأفشل خطته التي قدمها بنفسه أمام السلطان، في شكل طلبٍ بجعل فلسطين وطنا قوميا لليهود مقابل أداء ديون تركيا، وزادته معاناته من انتحار ولديه، ووضع ابنته في مصحة للأمراض العقلية جنونا وهرطقة.
ولا شك أن هذه الحالة النفسية لهيرتزل ستؤسس لقناعة نفسية مفادها أن الأحلام والأوهام هي مرجعية ذهنية يدعمها تخطيط استراتيجي للفعل في الواقع يبدأ بوعود رسمية من قبيل وعد بلفور المشؤوم الذي “غرر باليهود أكثر من أي شيء آخر”[22]، ففي خاتمة روايته يخاطب الراوي كتابه بوصفه طفلا صغيرا: “أبو يعتقد بأن الحلم طريقة جيدة لقضاء وقتك على الأرض مثل أية طريقة أخرى، والحلم والفعل لا يختلفان كثيرا كما يظن في كثير من الأحيان؛ فكل أفعال البشر كانت حلما يوما ما وستصبح حلما مرة ثانية”[23]. والواقع أن الحلم تحقق بالدماء والأشلاء.
كل حرب أو عذاب يعيشه اليهود يؤوله القادة بالابتلاء الذي يسبق النصر والخلاص، وقد يطول العذاب ويُنتظر الخلاص، ويعيش الناس في كوارث العذاب والانتظار والوعد اليومي بقرب الخلاص، وقد وصف مارتن بوبر (1878-1965) إنشاء الدولة اليهودية عام 1948 بـ”الكارثة”[24]، ولهذا عُدت الصهيونية في أصلها “وعد بالكوارث ما دامت خرجت أصلا من الكوارث”[25] والانتقام وتصفية الحسابات، للظفر بتراب وخيرات “المكان الكوني” أي فلسطين، “أرض الحقيقة والشعر، أرض الورود والرؤى النبوية”[26]، ومن ثمة قيادة اليهود للعالم كله وخلاص الإنسانية كلها من جميع الشرور المحدقة بها، ما دامت الإيديولوجية الصهيونية قد فعلت فعلها في شعب محاصر بمعتقداته، لُقن أن “اليهود وحدهم هم القادرون على تنقية خبث العالم”[27].
توصيف اليهود بالقسوة التي رافقت أفعالهم في التاريخ، استنتجته جاكلين روس من تتبع تصريحات قادتهم وأفعالهم في الأرض، إذ تأكدت بأن “اليهود هم النتاج التاريخي للقسوة”[28]، وهو نفس الوصف الذي استمده عبد السلام ياسين من القرآن الكريم، فالقاسية قلوبهم هم اليهود العاقون، قتلة الأنبياء والأتقياء، قلوبهم قاسية على غيرهم نتيجة استكبارهم وعنصريتهم وادعاء تفوقهم العرقي والديني، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ}(البقرة: 74)، لا تؤثر فيها موعظة ولا تُنصت لوحيٍ من الغيب، وفي هذا الجنس من البشر “تركزت فيه كل معاني الجاهلية، وكل أسباب الفتنة، فهم الحضنة المتخصصون لداء الأمم، فهم المنتجون الرئيسيون له”[29].
وقسوة القلوب تزين وتيسر الجرأة والجسارة على التحريف والتزوير والافتراء والإفساد، فالرهبان “كانوا يفتون بما يرضي الحاكم أو الراشي، يحملون أوزارهم وأوزار من ائتموا بهم”[30]. وهناك نصوصا كثيرة في التلمود (بشقيه: الهلكة والحقدا) تحولت مع تأويلات الأحبار اللامتناهية إلى “تاريخ قومي وأخلاق”.
الدعم الأمريكي لإسرائيل، وإسرائيل مفتاح البقاء لأمريكا
بموجب قرار اتخذته عصبة الأمم ثَم فرض ما سمي بـِ”الانتداب البريطاني” على فلسطين سنة 1922، وقسمت بموجبه أرض فلسطين، وعومل الغرباء اليهود بحفاوة واهتمام خاص وهم الذين لم يتجاوز تعدادهم الـ”7%” حسب إحصائيات الأمم المتحدة، فقسم القرار غير العادل فلسطين بالتساوي بين اليهود والسكان الأصليين. ووافق الكونغرس الأمريكي في نفس السنة على قرار الانتداب تحت يافطة “ضرورة إنشاء وطن قومي لليهود”، واستمر في دعم إيجاد وإمداد الكيان اليهودي إلى اليوم سرا وعلانية. ولا يخفى هذا الدعم اللامحدود الذي يؤكده السفير الإسرائيلي السابق في الولايات المتحدة زالمان شوفان بقوله “أمريكا تناصر إسرائيل لأن شعبيهما يشتركان في صفات أخلاقية فريدة“[31]. لهذا تجد إسرائيل اليوم لا تعير اهتماما للقوانين الدولية ولا لمنظومة الأخلاق اليهودية نفسها في تنفيذ بربريتها على أرض وإنسان فلسطين.
أورد صاحب كتاب “ثمن إسرائيل”أنه “في سنة 1945، اتخذ الكونغريس قرارا آخر بالموافقة على فتح أبواب فلسطين أمام اليهود والسماح لهم باستغلال أقصى إمكانات البلاد الزراعية والاقتصادية” ليتمكنوا من المباشرة بحرية مطلقة في إعداد فلسطين لكي تصبح “وطنا قوميا لليهود”، وقد جاء قرار الكونغريس هذا أكثر شمولا من التعهد الوارد في وعد بلفور وصك الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم”[32].
أما منظمة الأمم المتحدة “فلطالما أصدرت قراراتها بإدانة إسرائيل لتنقضها الولايات المتحدة ولتضرب بها الدولة العبرية عُرض الحائط معتبرة إياها مجرد أوراق تافهة. ولأن دولة يهود هي البنت المدللة لأمريكا البروتستانتية الهائمة بالأساطير التوراتية، فهي لا تتردد -مستقوية بجهاز دعايتها الأخطبوطي التنفيذ في أمريكا- في تضخيم أعداد ضحايا هتلر، مقتبسة من الخزان التوراتي المشترك مفاهيم معبئة مثل الخروج، والمحرقة…”[33].وياللأسف نجد “الدنيا بمجالس أممها ومواقف منظماتها وتآمر مؤتمراتها، لا تحرك ساكنا”[34].
وقد تنبهت جاكلين روس إلى الحمية التي تجمع بين إسرائيل وأمريكا من خلال تقديمها للفيلم الوثائقي “العلاقة الخطرة: إسرائيل وأمريكا” الذي بُثَّ في القناة الرابعة بإنجلترا عام 2002م، وهو الأمر الذي سبقتها إلى استنتاجه حنا أرندت بقولها: “الحماقة وحدها هي التي تملي سياسة تثق بالقوى الامبريالية البعيدة للحماية بينما تستعدي الجيران”[35].
إن الصهيونية في القرن العشرين تمثل خلاصة “الشر الجذري”[36] الذي ينم عن خبث النية في الإجرام وإلحاق الأذى بالآخرين، فهي تلخص مفاسد عصرنا كله كما تؤكد حنا أرندت، ونموذجا للتدهور الأخلاقي من خلال تفكير وتخطيط الزعماء الصهاينة فيما تسميه بـ”تفاهة الشر”[37] الذين أسسوا نظاما توليتاريا لا أخلاقيا، ومشاركتهم في العنف الأعمى والمستمر ضد المسلمين.[38]
الحق الفلسطيني لا يطويه الزمن
يتضح جليا من قراءة موقفجاكلين روس أنها تؤيد الحق الفلسطيني في أرض فلسطين، وتدحض الحجة الصهيونية في الاستيطان كما تفضح الغطرسة اليهودية اليومية، حيث تقول: “إلى جانب فزعي مما ترتكبه دولة إسرائيل يوميا باسم اليهود، وتأييدي لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم أو المساواة التامة في الحقوق السياسية والمدنية”[39]، والمشروع اليهودي في فلسطين هو مشروع استعماري.
إذا كانت الدولة اليهودية تحل القضية اليهودية فكيف تحل القضية الفلسطينية؟
والظلم الذي مورس على الفلسطينيين المسلمين لا بد أن ترتد آثاره على اليهود أيضا، فالصهيونية ستفشل دوما في أن تسقط الصورة التي تسعى بحفاوة إلى أن تسقطها عن نفسها، وستفشل أيضا في إيجاد روح للدولة التي تدمر بها الأرض وتهجر سكانها أو تقتلهم.
كثير من اليهود أنفسهم يرون بأن الصهيونية هي خطيئة دينية، وأن إقامة دولة قومية دينية لليهود هي نكبة اليهود، حتى قيل أنها “دنس يضم كل أنواع الدنس الأخرى…وهرطقة تضم كل الهرطقات الأخرى”، فـ”الصهيونية تغتصب كل ما يختص به الله، وهي في نظر الأرثدوكس تخالف الأيمان الثلاثة التي تشكل قلب المعتقد الخلاصي: ألا يجري تسلق الحائط (أي يجب على بني إسرائيل ألا يندفعوا إلى الأرض كأنهم وحدة واحدة)، وألا يستعجلوا النهاية (فهذه تترك لإرادة السماء)، وألا يتمردوا على الأمم (يجب ألا يقفوا ضد إرادة العالم)”[40].
الأرض مقدسة في التصور اليهودي لأنها مُضمَّخة بالدماء، حيث يلتقي الخلاص بالدعر والخوف، فيكون علم الظهور متوازنا مع علم القبور، والحلم الذي رآه تيودور هيرتزل، والذي كان يعاني من مرض أنيميا المخ ومن حالات من الغيبوبة[41]، في منامه وبشر به وضمَّن قصته في رواية مليئة بالتخيلات والأحلام، قد تحقق في أرض الواقع بصورة ما، لكن أفلا توجد أحلام أخرى تمحو ذلك الحلم البئيس أو تنسخه بما هو أفضل منه للإنسانية، أو تُنهي صلاحيته التاريخية؟
الصهيونية تشكل في نظر جاكلين روس “إحدى صور اللاعقلانية الجماعية”، إذ تدعي أنها مُنحت صلاحية ودعما من السماء فمارست الهذيان بلا حدود في حق المستضعفين في الأرض، وتسببت في معاناة كبيرة ومستمرة لليهود والمسلمين معا، بناء على الرواية الخيالية للمُنظر الكئيب[42] تيودور هرتزل التي كتبها عام 1902م، وغيره من الرواد الأوائل للصهيونية والذين كانوا يعانون بحسب روس من أمراض نفسية رهيبة. وكما ينبغي أن نعترف ببشاعة المذابح التي وقعت في التاريخ يجب أن نعترف بأن الحركة الصهيونية حركة إرهابية نفذت ولا تزال مذابح بشرية في حق الفلسطينيين.
هذا الموقف الجريء يصنف صاحبه في قائمة “أعداء الصهيونية”، حيث العالَم في الفكر الصهيوني المعاصر إما أن يكون “صهيونيا” أو “ضد الصهيونية”، مما جر على جاكلين روس انتقادات كثيرة من المتعصبين للصهيونية.
خاتمة
أسست الصهيونية كيانا يمتزج فيه تخيل النصر بواقع الدمار، غير أنها لم تستطع أن تصنع جنة لليهود، فلا يزال سكان المستوطنات اليوم يعيشون الرعب ويرقبون الأشباح تطاردهم في الليل[43]، وبذلك تهاوي فكرة الخلاص الأبدي التي حرضت أحلام اليهود ووفرت لهم الدعم النفسي لتحمُّل اللاأخلاقي واللامعقول في استيطان فلسطين بلا هوادة، والعيش بخيرات أهلها بعد سرقتها منهم، بناء على تأويل فاسد للنصوص الدينية القديمة ووعود الزعماء وهلوساتهم.
أدانت روس الحركة الصهيونية، بل أدانت التفكير اليهودي نفسه لما اتخذ من نصوص الدين مصوغا للدمار والعنف الأعمى والهمجية والرعب، ضدا على الأخلاق والقوانين مادامت “كلمة الله تعلو على قوانين الدول” كما قال الحاخام اليهودي نير بن آرتسي وهو يربط رضا الله باستيطان الأرض وطرد المسلمين منها[44]. كما لاحظت تراجع فكرة الخلاص الديني، و“إمكانية التوقف عن الوجود”[45]. ولئن كان هناك صهاينة علمانيون فهم أيضا مشبعون بفكرة الخلاص اليهودية وما تفرضه من تضحية ومغامرة ورعب.
لم ألمس عند جاكلين روس استشرافها لمستقبل القضية الفلسطينية، غير أنها تستبعد إمكانية تعايش الفلسطينيين والصهاينة في دولتين متجاورتين، لأن اليهودي فقَد إيمانه ولم يعد له انتماء لليهودية سوى أرض فلسطين، و“لا يوجد أبشع من أن يستغني صاحب الإيمان عن إيمانه”، أما الفلسطيني في نظرها فهو متسلح بإيمانه الذي لا يفارقه، ويُقبل على الاستشهاد إقباله على الحياة.
وفي الأخير نقول: لا تزال فلسطين هي القضية[46]. ولا تزال الصهيونية جرثومة فساد في الأرض، لذلك لا خلاص على وجه الحقيقة إلا من خلال العمل المشترك الجدي في تأسيس مستقبل ممكن لا مكان فيه للعنصرية وادعاء التفوق العرقي والقومي، والجرثومة التي قامت وفق تخطيط معين وتطبيق في الأرض لا تزول بالأماني والآمال وإنما بإعداد خطة جماعية عملية بديلة وقابلة للإنجاز والتحقق.
مصادر ومراجع البحث
- شحلان، أحمد. التوراة والشرعية الفلسطينية، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجيدة، الدار البيضاء، ط1، 2003.
- ليلينتال، ألفريد. ثمن إسرائيل، ترجمة حبيب نحولي وياسر هواري، دار الكشاف، بيروت، ط 3، 1954.
- جاكلين، روس. القضية الصهيونية، ترجمة محمد عصفور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط 1، 2007م.
- المسيري، عبد الوهاب. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة، ط 1، 1999م
- المسيري، عبد الوهاب. تاريخ الفكر الصهيوني، دار الشروق، القاهرة، ط 1، 2010م.
- نصار، نجيب. الصهيونية ملخص تاريخها، غايتها وامتدادها حتى سنة 1905م، مؤسسة هنداوي، القاهرة، ط 1، 2014م
- تلمي، إفرايم وتلمي، مناحيم. معجم المصطلحات الصهيونية، ترجمة أحمد بركات، دار الجليل، عمان، ط1، 1988م.
- سواريز، توماس. دولة الإرهاب: كيف خلق الإرهاب إسرائيل الحديثة، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة (عدد 460)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط1، 2018م.
- عبد الحميد الثاني. مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة محمد حرب، دار القلم، دمشق، ط 3، 1991م.
- ياسين، عبد السلام. سنة الله، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2007م.
- ياسين، عبد السلام. الإسلام والحداثة، مطبوعات الهلال، وجدة، المغرب، ط 1، 2000م.
- غازي، خالد محمد. القدس، سيرة مدينة، عبقرية مكان، وكالة الصحافة العربية، مصر، ط 2، 2016م.
- Sand, Shlomo.Comment le peuple juif fut inventé de la bible au sionisme ? traduit de l´ hébreu par Sivan Cohen Wiesenfled et LevanaFrenk-fayard,France,2008.
- Jacques, Attali. Les juifs le monde et l´argent, fayard, Paris, 2002
- Levy, Oscar. The world significance of the Russian revolution, Oxford: B. Blackwell, 1920.
[1]– جاكلين، روس. القضية الصهيونية، ترجمة محمد عصفور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط 1، 2007.
[2]– Sand, Shlomo.Comment le peuple juif fut inventé de la bible au sionisme ? traduit de l´ hébreu par Sivan Cohen Wiesenfled et LevanaFrenk-fayard, France :2008, P: 355 – 356.
[3] المسيري، عبد الوهاب. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة، ط 1، 1999م، ص 89 – 90.
[4]– جاكلين، روس. القضية الصهيونية، مرجع سابق، ص 58
[5]– المرجع نفسه، ص 50
[6]– سواريز، توماس. دولة الإرهاب: كيف خلق الإرهاب إسرائيل الحديثة، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة (عدد 460)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط1، 2018م.
[7]– جاكلين، روس. القضية الصهيونية، م.س، ص 44
[8]– المرجع نفسه، ص 251
[9]– ياسين، عبد السلام. سنة الله، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2007م، ص 125
[10]– جاكلين، روس. القضية الصهيونية، ص 50
[11]– المرجع نفسه، ص 65
[12]– فايتسمان، حاييم. السياسة الصهيونية، ص 11، نقلا عن جاكلين روس، القضية الصهيونية، ص 66
[13]– جاكلين، روس. القضية الصهيونية، ص 92
[14]– ليلينتال، ألفريد. ثمن إسرائيل، ترجمة حبيب نحولي وياسر هواري، دار الكشاف، بيروت، ط 3، 1954م، ص 1
[15]– ياسين، عبد السلام. سنة الله، ص104
[16]– جاكلين، روس. القضية الصهيونية، ص 60
[17] – ياسين، عبد السلام. سنة الله، ص 86
[18]– جاكلين، روس. القضية الصهيونية، ص 148
[19]– المرجع نفسه، ص 149
[20]– المرجع نفسه، ص 44
[21] – عبد الحميد الثاني، مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة محمد حرب، دار القلم، دمشق، ط 3، 1991م، ص 141.
[22]– جاكلين، روس. القضية الصهيونية، ص 31
[23]– المرجع نفسه، ص 65
[24]– المرجع نفسه، ص 43
[25]– المرجع نفسه، ص 68
[26]– المرجع نفسه، ص 80
[27]– شولم، سبتاي سيفي. نقلا عن جاكلين روس، القضية الصهيونية، ص 74
[28]– جاكلين، روس. القضية الصهيونية، ص 223
[29]– ياسين، عبد السلام. سنة الله، مرجع سابق، ص66
[30]– المرجع نفسه، ص72
[31]– جاكلين، روس. القضية الصهيونية، ص 156
[32]– ليلينتال، ألفرد. ثمن إسرائيل، ترجمة ياسر هواري وحبيب نحولي، منشورات دار الآفاق الجديدة، ط 1، 2002م، ص 81
[33]– ياسين، عبد السلام. الإسلام والحداثة، مطبوعات الهلال وجدة، المغرب، ط 1، 2000، ص127
[34]– دحلان، أحمد. التوراة والشرعية الفلسطينية، مطبعة النجاح الجيدة، الدار البيضاء، ط1، 2003، ص26
[35]– أرندت، حنا. نظرة ثانية إلى الصهيونية، ص 162، نقلا عن جاكلين روس، القضية الصهيونية، ص 164
[36]– عبارة مشهور للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط
[37]– Hannah Arendt, Les origines du totalitarisme. Vol. III, Le système totalitaire Paris, Seuil, 1972, p. 201
[38]– Levy, Oscar. The world significance of the Russian revolution, Oxford: B. Blackwell, 1920.
[39]– جاكلين، روس. القضية الصهيونية، ص 60
[40]– المرجع نفسه، ص 80
[41]– المرجع نفسه، ص 78
[42]– المرجع نفسه، ص 147
[43]– المرجع نفسه، ص 57
[44]– المرجع نفسه، ص 58
[45]– المرجع نفسه، ص 60
[46]– يمكن الاطلاع على بعض ما يؤكد هذا من خلال الفيلم: “فلسطين لا زالت هي القضية” للإعلامي جون بيلجر، انظر الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=17rppuSZeng
إرسال التعليق