
استمرارية الحركات الجهادية: نقد الرهان على الزوال في ظل بقاء الأسباب المؤسسة
رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح
تتناول هذه الدراسة الأسباب الجذرية الكامنة وراء استمرارية الحركات الجهادية، مفندة الاعتقاد السائد بأن هذه الحركات في طريقها إلى الزوال على غرار بعض الحركات الإسلامية الأخرى. تركز الدراسة على العوامل المؤسسة لظهور هذه الحركات وبقائها، مثل القضية الفلسطينية والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، والغطرسة الأمريكية والتدخلات الغربية، وغياب العدالة والمساواة والاستبداد في العالم العربي والإسلامي، ومحاربة الإسلام وتشويه صورته. كما تستعرض الدراسة تأثير الربيع العربي على ديناميكية هذه الحركات، وكيف أدت التحولات السياسية والاجتماعية إلى نشأة أجيال جديدة من التنظيمات الجهادية وتكيفها مع البيئات المتغيرة. تهدف الدراسة إلى تقديم تحليل لهذه الظاهرة.
- المقدمة
1.1. مشكلة الدراسة وأهميتها
تُعد ظاهرة الحركات الجهادية من أكثر التحديات الأمنية والسياسية تعقيدًا التي يواجهها العالم في العصر الحديث. على الرغم من الجهود الدولية المكثفة لمكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه، إلا أن هذه الحركات تظهر قدرة ملحوظة على التكيف والاستمرارية، مما يثير تساؤلات جدية حول فعالية الاستراتيجيات المتبعة في التعامل معها. يرى البعض أن هذه الحركات ستؤول إلى الزوال كما حدث مع حركات إسلامية أخرى، إلا أن الواقع يشير إلى أن الأسباب التي أدت إلى ظهورها وتغذيتها لا تزال قائمة وفاعلة. تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك هذه الأسباب وتحليلها ، وتقديم رؤية شاملة لأبعاد هذه الظاهرة المعقدة.
تكمن أهمية هذه الدراسة في كونها تتجاوز التحليلات المتحيزة للظاهرة الجهادية، وتغوص في الأسباب الجذرية التي تمنحها القدرة على البقاء والتجدد. من خلال التركيز على العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية التي تغذي هذه الحركات.
- الأسباب الجذرية لظهور واستمرارية الحركات الجهادية
تُعد الحركات الجهادية ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه، ولا يمكن اختزال أسباب ظهورها واستمراريتها في عامل واحد. بل هي نتاج لتفاعل مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية التي توفر بيئة خصبة لنموها وتمددها. في هذا الفصل، سنتناول أبرز هذه الأسباب التي تساهم في بقاء هذه الحركات وتجددها، على الرغم من الجهود المبذولة لمكافحتها.
2.1. القضية الفلسطينية والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني
تُعتبر القضية الفلسطينية والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني من القضايا المحورية التي تغذي الخطاب الجهادي وتوفر له مبررًا دينيًا وسياسيًا قويًا. فالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وما يصاحبه من انتهاكات لحقوق الإنسان، وسياسات استيطانية، وحصار، يمثل مصدرًا دائمًا للغضب والإحباط في العالم العربي والإسلامي. ترى الحركات الجهادية في هذا الصراع دليلاً على الغطرسة الصهيونية و”محاربة الإسلام”. وتعتبر تحرير القدس وفلسطين واجبًا دينيًا لا يمكن التنازل عنه.
إن استمرار الصراع الصهيوني الفلسطيني دون حل عادل وشامل يغذي الشعور بالظلم والقهر، ويدفع بعض الأفراد والجماعات إلى تبني خيار الجهاد كوسيلة وحيدة لتحقيق العدالة واستعادة الحقوق. على سبيل المثال، أكدت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين أن القضية الفلسطينية هي “أهم قضايا الوطن الإسلامي في هذه المرحلة من تاريخه”، وأن الجهاد في سبيلها هو المدخل لتحقيق أهداف الحركة الإسلامية الأخرى. وقد تعهد أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة السابق، خلال خطابه الشهير بمواصلة الجهاد، قائلاً: “أقسم بالله العظيم الذي رفع السماء بلا عمد أن أمريكا لن تحلم بالأمن فيها قبل أن نعيشه واقعًا في فلسطين وقبل خروج القوات الأجنبية من جزيرة العرب”.
2.2. التدخلات الغربية والغطرسة الأمريكية
تُعد السياسات الخارجية للولايات المتحدة والدول الغربية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار الحركات الجهادية وتبرير وجودها وأعمالها. فالتحالفات مع الأنظمة الاستبدادية، والتدخلات العسكرية، والسياسات المنحازة لإسرائيل، تخلق شعورًا عميقًا بالعداء تجاه الغرب. ترى هذه الحركات أن الولايات المتحدة وحلفاءها يسعون للسيطرة على مقدرات المنطقة ونهب ثرواتها وتشويه صورة الإسلام. وهذا “العدوان الخارجي” يستدعي “الجهاد” لمواجهته.
تقدم الحركات الجهادية نفسها كقوة مقاومة لهذه “التدخلات” و”الغطرسة”، وتدعو إلى طرد القوات الأجنبية من الأراضي الإسلامية. وقد أشار أسامة بن لادن في خطاباته إلى أن الوجود الأمريكي في الأراضي المقدسة ودعم الأنظمة الفاسدة هو أحد الأسباب الرئيسية لشن الهجمات ضد المصالح الأمريكية. إن استمرار هذه التدخلات، سواء كانت عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، يوفر مادة خصبة للخطاب الجهادي، ويساعدها على تجنيد المزيد من الأتباع الذين يشعرون بالظلم والاستغلال.
ترتبط الحركات الجهادية ارتباطًا عضويًا بمفهوم “رد العدوان الغربي”، خصوصًا الأمريكي، منذ احتلال العراق (2003) وتعامل الولايات المتحدة مع القضية الفلسطينية. تُقدم الجهادية كـ”رد فعل مقاوم” ضد الإمبريالية الحديثة. تُعتبر هذه السردية مركزية في دعايات القاعدة وداعش. كما أن الغطرسة الأمريكية في التعامل مع الشعوب الإسلامية، والتي تجلت في سجون أبو غريب وغوانتانامو، والطائرات المسيرة في اليمن وأفغانستان، غذت شعورًا جماعيًا بالظلم، وظفته التنظيمات الجهادية بمهارة لإعادة بناء رواية “الكرامة المستردة عبر الجهاد”.
2.3. غياب العدالة والمساواة والاستبداد في العالم العربي والإسلامي
يُعد الاستبداد السياسي، وغياب العدالة الاجتماعية، وتفشي الفساد، وانتهاك حقوق الإنسان في العديد من الدول العربية والإسلامية، من أهم العوامل الداخلية التي تدفع الأفراد نحو الانضمام إلى الحركات الجهادية. فالأنظمة الحاكمة التي تقمع الحريات، وتهمش المعارضين، وتفشل في تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، تخلق بيئة من اليأس والإحباط، مما يجعل أيديولوجيات الحركات الجهادية أكثر جاذبية.
تستغل الحركات الجهادية هذا الفراغ السياسي والاجتماعي، وتقدم نفسها كبديل للأنظمة الفاسدة، وتعد بتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة دولة العدل والمساواة. إن فشل الحركات الإصلاحية السلمية في تحقيق التغيير المنشود يدفع بعض الشباب إلى الاعتقاد بأن الجهاد هو السبيل الوحيد لإسقاط الأنظمة المستبدة وتحقيق العدالة. وقد أدت ظاهرة “الدولة الفاشلة” في عدد من الدول العربية إلى ظهور كيانات من غير الدول، مثل الجماعات الإسلامية المقاتلة، التي حاولت سد الفراغ ومنافسة الدولة الوطنية على سيادتها.
2.4. محاربة الإسلام وتشويه صورته
ترى الحركات الجهادية أن هناك حملة عالمية ممنهجة لمحاربة الإسلام وتشويه صورته، سواء من خلال السياسات الغربية التي تُنظر إليها على أنها معادية للمسلمين، أو من خلال الإعلام الذي يربط الإسلام بالإرهاب، أو من خلال بعض الأنظمة الحاكمة التي تقوم بمحاربة الهوية الإسلامية لشعوبها. هذا التصور بوجود “مؤامرة” ضد الإسلام يدفع بعض المسلمين إلى الشعور بالاستهداف، ويزيد من قابليتهم لتبني الأفكار الجهادية التي تدعو إلى “الدفاع عن الإسلام”.
تقدم الحركات الجهادية نفسها كحامية للإسلام والمسلمين، وتدعو إلى “الجهاد” ضد كل من يحاول تشويه صورة الدين أو محاربته. على سبيل المثال، الرسوم التي نشرتها صحف أوروبية مثل شارلي إيبدو، والتي اعتبرها المسلمون إساءة لدينهم، تم استغلالها على نطاق واسع من قبل الجماعات الجهادية.
يُقدم الخطاب الجهادي هذه الأحداث كدليل على كراهية الغرب للإسلام، ويدفع الشباب للانتقام “نصرة للنبي”، كما حدث في هجمات باريس 2015. إن الخطاب الذي يركز على “المظلومية الإسلامية” و”الاستهداف الغربي” يجد صدى لدى شرائح واسعة من الشباب الذين يشعرون بالإحباط والعجز أمام التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية. هذا العامل الأيديولوجي، بالإضافة إلى العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يساهم في استمرارية الحركات الجهادية وقدرتها على تجنيد المزيد من الأتباع.
- تأثير الربيع العربي على ديناميكية الحركات الجهادية
شكلت أحداث الربيع العربي نقطة تحول مفصلية في المشهد السياسي والاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولم تكن الحركات الجهادية بمنأى عن تأثير هذه التحولات. فبينما رأى البعض في هذه الثورات بداية لنهاية العنف السياسي وصعود المنهج اللاعنفي، استغلت الحركات الجهادية الفوضى والاضطرابات التي نتجت عنها لتعزيز نفوذها وتوسيع نطاق عملياتها. في هذا الفصل، سنستعرض كيف أثر الربيع العربي على ديناميكية الحركات الجهادية، من حيث الفرص والتحديات التي أوجدها، وتحولات خطابها، ونشأة أجيال جديدة منها.
3.1. الفرص والتحديات التي أوجدها الربيع العربي
أوجد الربيع العربي بيئة معقدة للحركات الجهادية، حيث قدم لها فرصًا غير مسبوقة وفي الوقت نفسه فرض عليها تحديات جديدة. من أبرز الفرص التي أتاحها الربيع العربي للحركات الجهادية ما يلي:
- انهيار السلطة المركزية والفراغ الأمني: أدت الثورات إلى انهيار أو ضعف الأنظمة الحاكمة في بعض الدول، مما خلق فراغًا أمنيًا سمح للحركات الجهادية بالانتشار والسيطرة على مناطق واسعة. على سبيل المثال، في سوريا والعراق وليبيا، استغل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الفراغ الأمني الناتج عن ضعف الأنظمة والصراعات الداخلية لفرض سيطرته على مساحات شاسعة من الأراضي، وإعلان ما أسماه “الخلافة” في عام 2014، وتأسيس هياكل إدارية واقتصادية خاصة به. وفي ليبيا، بعد سقوط نظام القذافي، سمح الفراغ الأمني بظهور جماعات مثل “أنصار الشريعة” التي سيطرت على مناطق في بنغازي ودرنة، واستفادت من ضعف الدولة المركزية لتوسيع نفوذها. هذا الفراغ الأمني مكنها من بناء قواعد خلفية، وتدريب المقاتلين، وتخزين الأسلحة، وتوسيع شبكاتها.
- تفكك الجيوش والأجهزة الأمنية: ساهم تفكك بعض الجيوش والأجهزة الأمنية في توفير مصادر جديدة للسلاح والخبرات العسكرية للحركات الجهادية، بالإضافة إلى انضمام بعض الأفراد ذوي الخبرة العسكرية إليها. ففي اليمن، أدى تفكك الجيش اليمني خلال الحرب الأهلية إلى حصول تنظيم القاعدة في جزيرة العرب على كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات العسكرية، كما انضم إليهم جنود سابقون ذوو خبرة قتالية، مما عزز من قدراتهم العسكرية واللوجستية.
- تزايد السخط الشعبي: أدت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية، والقمع السياسي، إلى تزايد السخط الشعبي، مما وفر بيئة خصبة للحركات الجهادية لتجنيد الأفراد الذين يشعرون باليأس والإحباط من الأنظمة القائمة. ففي العديد من الدول التي شهدت انتفاضات الربيع العربي، استغلت الجماعات الجهادية هذا السخط لتقديم نفسها كبديل للأنظمة الفاسدة والقمعية، ووعدت بالعدالة الاجتماعية وتحقيق الكرامة، مما جذب إليها أعدادًا من الشباب الباحث عن التغيير.
- حرية الحركة والاتصال: استغلت الحركات الجهادية منصات مثل تويتر وفيسبوك ويوتيوب وتليغرام لنشر دعايتها وتجنيد مقاتلين جدد. وقد أكدت دراسات حديثة، على سبيل المثال، أن 80% ممن انضموا إلى تنظيمات مثل داعش تم تجنيدهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كما أصبحت هذه المنصات “معسكر تدريب افتراضي” ، حيث يتعلمون أصول صنع المتفجرات. وتشير التقارير الأمنية إلى أن 90% من الهجمات الإرهابية التي استخدمت فيها متفجرات يدوية الصنع تم العثور على وصفاتها بكثرة على الإنترنت.
- التنسيق وبث العمليات: لم يقتصر استخدام هذه المنصات على التجنيد، بل امتد إلى تنسيق الخلايا وبث العمليات الجهادية المباشرة. فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة رئيسية للجماعات المسلحة لوضع خططها وتنفيذ أهدافها. كما أن تقنيات الاتصال الحديثة عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي سهلت على الجهاديين التواصل عبر الحدود وتضخيم الدعاية المتطرفة.
- الوصول إلى جمهور أوسع: أتاحت هذه المنصات للحركات الجهادية الوصول إلى جمهور أوسع عالميًا. ففي عام 2016، وصل عدد المواقع التابعة للجماعات الجهادية إلى 50 ألف موقع، وهذا يدل على التوسع الهائل في استخدامهم للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
- استغلال الظروف: حتى في ظل الأزمات مثل جائحة كورونا، سارعت الجماعات الجهادية إلى بث خطابات الكراهية وآرائها المتطرفة عبر الإنترنت، مستغلة الظروف الاستثنائية للتواصل مع جمهور أوسع.
- أمثلة لتنظيمات محددة: يُعتبر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وحركة الشباب من أبرز مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة على تويتر. كما أن تنظيم القاعدة يستخدم منصات مثل فيسبوك وإكس ويوتيوب.
ومع ذلك، واجهت الحركات الجهادية تحديات كبيرة بعد الربيع العربي، منها:
- المنافسة الداخلية: أدت الفوضى التي أعقبت ثورات الربيع العربي إلى ظهور العديد من التنظيمات المسلحة، مما خلق منافسة شديدة بينها على النفوذ والموارد والتجنيد، وأحيانًا أدت إلى صراعات داخلية بينها. لم تقتصر هذه المنافسة على الأراضي والمقاتلين، بل امتدت لتشمل الجانب الأيديولوجي والقيادي. على سبيل المثال، شهدت الساحة الجهادية صراعًا واضحًا بين تنظيم القاعدة وفروعه، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي برز بقوة بعد عام 2011. تجلت هذه المنافسة في عدة أشكال:
- التنافس على الولايات: سعت كل جماعة لاستقطاب الكوادر والمقاتلين من الجماعات الأخرى، مما أدى إلى انشقاقات وتحولات في الولايات. هذا التنافس كان مدفوعًا بالرغبة في تعزيز القوة البشرية والمادية، وتوسيع مناطق النفوذ.
- الصراعات المسلحة: في بعض الأحيان، تحولت المنافسة إلى صراعات مسلحة مباشرة بين التنظيمات الجهادية، خاصة في المناطق التي تتنازع فيها على السيطرة أو تتداخل مصالحها. شهدت سوريا والعراق وليبيا أمثلة واضحة على هذه الصراعات، حيث تقاتلت الفصائل الجهادية فيما بينها للسيطرة على المدن والموارد.
- التنافس على الموارد: كانت الموارد المالية والبشرية والأسلحة محور تنافس شديد بين هذه التنظيمات. فكلما زادت قدرة التنظيم على تأمين هذه الموارد، زادت قدرته على التوسع والعمليات.
- الاختلافات الأيديولوجية والقيادية: على الرغم من تشابه الأهداف العامة، إلا أن هناك اختلافات جوهرية في المنهج والأيديولوجية بين بعض التنظيمات، مما أدى إلى انقسامات داخلية وصراعات على القيادة. هذه الانقسامات أضعفت الجبهة الجهادية بشكل عام، وجعلتها أقل تماسكًا في مواجهة الضغوط الخارجية.
أثرت هذه المنافسة والصراعات الداخلية سلبًا على فعالية الحركات الجهادية، حيث استنزفت جزءًا كبيرًا من طاقتها ومواردها في مواجهة بعضها البعض بدلاً من توجيهها نحو أهدافها المعلنة. كما أنها أدت إلى تشتت الجهود وتراجع قدرتها على التجنيد والانتشار في بعض المناطق.
3.2. تغير أولويات المجتمع الدولي
بعد فترة وجيزة من دعم التحولات الديمقراطية التي شهدتها دول الربيع العربي، تحول اهتمام المجتمع الدولي بشكل كبير نحو مكافحة الإرهاب، خاصة مع صعود تنظيمات مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتوسع نفوذها. أدى هذا التحول في الأولويات إلى زيادة الضغط العسكري والأمني على الحركات الجهادية، مما فرض عليها تحديات جديدة.
يمكن تحليل هذا التغير في الأولويات من عدة جوانب:
- التركيز على مكافحة الإرهاب كأولوية قصوى: أصبحت مكافحة الإرهاب هي المحور الرئيسي للسياسات الخارجية للعديد من الدول الكبرى، مما أدى إلى تشكيل تحالفات دولية وتكثيف العمليات العسكرية والاستخباراتية ضد التنظيمات الجهادية. جاء هذا التركيز نتيجة لتزايد التهديدات الإرهابية التي طالت دولًا غربية، مما دفعها إلى إعادة تقييم استراتيجياتها في المنطقة.
- زيادة الضغط العسكري والأمني: شهدت المناطق التي تتواجد فيها الحركات الجهادية تصعيدًا في العمليات العسكرية، بما في ذلك الضربات الجوية وعمليات القوات الخاصة، بالإضافة إلى تعزيز الدعم اللوجستي والاستخباراتي للقوات المحلية التي تقاتل هذه التنظيمات. أثر هذا الضغط المستمر على قدرة التنظيمات على التحرك والتجنيد والاحتفاظ بالأراضي.
- تضييق الخناق على مصادر التمويل والتجنيد: عمل المجتمع الدولي على تجفيف منابع تمويل الإرهاب وتضييق الخناق على شبكات التجنيد، وذلك من خلال فرض عقوبات اقتصادية وتتبع التحويلات المالية، وتكثيف التعاون الأمني بين الدول. مما أثر على قدرة الحركات الجهادية على الحفاظ على استمراريتها وتوسعها.
- تراجع الاهتمام بالتحولات الديمقراطية: في المقابل، تراجع اهتمام المجتمع الدولي بدعم التحولات الديمقراطية في دول الربيع العربي، حيث أصبحت الأولوية القصوى هي الاستقرار ومكافحة الإرهاب، حتى لو كان ذلك على حساب الإصلاحات السياسية. أثر هذا التراجع على البيئة التي كانت تستغلها الحركات الجهادية في البداية لتوسيع نفوذها، حيث أصبحت الأنظمة القائمة أكثر قدرة على قمع المعارضة المسلحة وغير المسلحة.
وضعت هذه التغيرات في أولويات المجتمع الدولي الحركات الجهادية تحت ضغط هائل، مما أجبرها على التكيف مع بيئة عملياتية أكثر عدائية، وأثر على قدرتها على تحقيق أهدافها الاستراتيجية.
3.3. فقدان الدعم الشعبي
في بعض الحالات، أدت الممارسات العنيفة والوحشية للحركات الجهادية إلى فقدانها للدعم الشعبي، مما أثر سلبًا على قدرتها على التجنيد والانتشار. فبينما استغلت هذه الحركات في البداية الفراغ الأمني والسخط الشعبي في بعض مناطق الربيع العربي، إلا أن تطبيقها لأساليب حكم قاسية وعنيفة، وفرض تفسيرات متشددة للشريعة، واستهداف المدنيين، أدى إلى نفور السكان المحليين وتراجع تأييدهم.
يمكن تفصيل أسباب فقدان الدعم الشعبي كالتالي:
- الممارسات العنيفة والوحشية: تميزت بعض التنظيمات الجهادية بتبنيها لممارسات عنيفة للغاية، مثل الإعدامات الجماعية، والجلد، وقطع الرؤوس، وتدمير الآثار الثقافية، واستهداف الأقليات الدينية والعرقية. هذه الممارسات، التي كانت تهدف إلى بث الرعب وفرض السيطرة، أدت في المقابل إلى تنفير السكان المحليين الذين عانوا من هذه الوحشية.
- فرض تفسيرات متشددة للشريعة: سعت الحركات الجهادية إلى فرض تفسيراتها المتشددة للشريعة الإسلامية على المجتمعات التي سيطرت عليها، مما أثر على الحياة اليومية للمواطنين، وقيد حرياتهم الشخصية، وفرض قيودًا صارمة على النساء والشباب. هذا التشدد لم يلق قبولًا واسعًا في العديد من المجتمعات، مما أدى إلى تزايد السخط الشعبي.
- تدهور الأوضاع المعيشية: في المناطق التي سيطرت عليها الحركات الجهادية، غالبًا ما تدهورت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بسبب الصراعات، ونقص الخدمات الأساسية، وهروب الاستثمارات، وفرض الضرائب الباهظة. أثر هذا التدهور بشكل مباشر على حياة المواطنين، وجعلهم ينظرون إلى هذه التنظيمات على أنها مصدر للمشاكل لا الحلول.
- المقاومة الشعبية: في بعض الحالات، أدت الممارسات العنيفة إلى ظهور حركات مقاومة شعبية محلية، مدعومة أحيانًا من قبل القوات الحكومية أو التحالفات الدولية. هذه المقاومة، التي نشأت من رفض السكان المحليين لسيطرة هذه التنظيمات، أضعفت من قدرتها على الاحتفاظ بالأراضي وتجنيد المزيد من المقاتلين.
إن فقدان الدعم الشعبي كان عاملًا حاسمًا في تراجع نفوذ العديد من الحركات الجهادية، حيث أن قدرتها على البقاء والانتشار تعتمد بشكل كبير على تأييد وقبول المجتمعات المحلية. عندما تفقد هذه الحركات شرعيتها في عيون السكان، تصبح عرضة للضعف والانهيار.
- مرونة وتكيف التنظيمات الجهادية
تُظهر التنظيمات الجهادية قدرة عالية على التكيف والمرونة في مواجهة التحديات المتغيرة، مما يساهم في استمراريتها على الرغم من الضغوط الدولية والمحلية. تتجلى هذه المرونة في عدة جوانب:
4.1. التكيف مع البيئات المتغيرة
تتميز الحركات الجهادية بقدرتها على التكيف مع البيئات الجيوسياسية والأمنية المتغيرة. فبعد تضييق الخناق عليها في مناطق معينة، تنتقل إلى مناطق أخرى توفر لها بيئة مناسبة للنمو والانتشار. على سبيل المثال، بعد خسارة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لمعاقله في العراق وسوريا، أعاد التنظيم تجميع صفوفه في مناطق أخرى مثل الصحراء الكبرى وأفريقيا جنوب الصحراء، مستفيدًا من ضعف الحكومات المركزية والصراعات المحلية.
4.2. التطور الأيديولوجي والخطابي
تُظهر الحركات الجهادية مرونة في تطوير خطابها وأيديولوجيتها لتتناسب مع المستجدات وتجذب أجيالًا جديدة من المؤيدين. فبدلاً من التركيز على قضايا محددة، توسع خطابها ليشمل قضايا أوسع تتعلق بالعدالة الاجتماعية، والفساد، والاستبداد، مما يلقى صدى لدى شرائح أوسع من الشباب الساخط. كما أنها تستخدم وسائل الإعلام الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي بفاعلية لنشر رسالتها وتجنيد الأتباع.
4.3. إعادة الهيكلة التنظيمية
عندما تواجه ضغوطًا كبيرة، تلجأ التنظيمات الجهادية إلى إعادة هيكلة نفسها، والتحول من تنظيمات هرمية مركزية إلى شبكات لامركزية أكثر مرونة وصعوبة في الاختراق. هذا التغيير في الهيكل التنظيمي يسمح لها بالبقاء والعمل في بيئات معادية، ويجعل من الصعب استهداف قياداتها أو القضاء عليها بشكل كامل.
4.4. التمويل والتسليح
تُظهر الحركات الجهادية قدرة على تنويع مصادر تمويلها وتسليحها، مما يقلل من اعتمادها على مصدر واحد ويجعلها أكثر مقاومة لجهود التجفيف. فبالإضافة إلى التبرعات الخارجية، تعتمد على مصادر داخلية مثل الضرائب، والسيطرة على الموارد الطبيعية، والاتجار غير المشروع. كما أنها تستفيد من الأسواق السوداء للحصول على الأسلحة والمعدات.
4.5. التجنيد والتدريب
تُطور التنظيمات الجهادية أساليبها في التجنيد والتدريب لتتناسب مع التحديات الجديدة. فبالإضافة إلى التجنيد التقليدي، تعتمد على التجنيد عبر الإنترنت، وتستهدف الشباب من خلال رسائل عاطفية ودينية. كما أنها توفر برامج تدريبية متنوعة تتناسب مع احتياجاتها، سواء كانت قتالية أو لوجستية أو إعلامية.
الخاتمة
تُعد ظاهرة الحركات الجهادية ظاهرة معقدة ومتعددة الأبعاد، ولا يمكن فهم استمراريتها بمعزل عن الأسباب الجذرية التي تغذيها. لقد أظهرت هذه الدراسة أن الرهان على زوال هذه الحركات دون معالجة الأسباب الكامنة وراء ظهورها وبقائها هو رهان غير واقعي. فالعوامل السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأيديولوجية، بالإضافة إلى قدرة هذه الحركات على التكيف والمرونة، تساهم جميعها في استمراريتها وتجددها.
المراجع
السلفية الجهادية وخطابها تجاه الربيع العربي | سياسات – الجزيرة نت. (2017, January 29). https://www.aljazeera.net/politics/2017/1/29/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8%D9%87%D8%A7-%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%B9 التنافس بين القاعدة وتنظيم الدولة في الساحل والصحراء – FlippingBook. https://online.flippingbook.com/view/71696 الحرب الأهلية السورية – ويكيبيديا. Retrieved from https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%87%D9%84%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9 الدوامة الجهادية | Carnegie Endowment for International Peace. (2017, February 8). https://carnegieendowment.org/ar/2017/02/08/pub-67948
الحرب ضد التنظيمات الجهادية: الدروس المستفادة من عشرين عامًا من مكافحة الإرهاب | The Washington Institute. (2021, December 22). https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/alhrb-dd-altnzmat-aljhadyt-aldrws-almstfadt-mn-shryn-amaan-mn-mkafht-alarhab
أثر تدابير مكافحة الإرهاب على حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا… – CIHRS. (2021, December 1). https://cihrs-rowaq.org/views-the-impact-of-counter-terrorism-measures-on-human-rights-in-the-middle-east-and-north-africa/
عندما أراد الشعب إسقاط النظام.. الربيع العربي – الجزيرة نت الموسوعة. (2024, February 24). https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2024/2/24/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%B9%D9%86%D8%AF%D9%85%D8%A7-%D8%A3%D8%B1%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B9%D8%A8-%D8%A5%D8%B3%D9%82%D8%A7%D8%B7
كيف صعد تنظيم الدولة الإسلامية وسقط ويمكن أن يصعد من جديد في المغرب العربي – Crisis Group. https://www.crisisgroup.org/sites/default/files/178-how-the-islamic-state-rose-arabic.pdf
مستقبل داعش في سوريا بين التراجع أو المواجهة – Future Center. https://futureuae.com/bryan%20c.%20price%2C%20leadership%20decapitation%20and%20the%20end%20of%20terrorist%20groups%2C%20belfercenter%2C%20may%202012/
الجماعات الجهادية: قدرتها على التكيف واستحالة اضمحلالها – MEC. (2024, December 16). https://mecouncil.org/ar/blog_posts/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%85%D9%88%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%82%D8%AF%D8%B1%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%88%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D8%B6%D9%85%D8%AD%D9%84%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7
إرسال التعليق