آخر الأخبار

الإصلاح المفقود بين الشعارات والواقع

الإصلاح المفقود بين الشعارات والواقع

رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح 

تمهيد

منذ عقود والمشهد السياسي المغربي يعيش على إيقاع خطاب الإصلاح. من القمة إلى القاعدة، من المؤسسة الملكية إلى الحكومة، من الأحزاب السياسية إلى الجمعيات الحقوقية والمدنية، الكل يتحدث عن الإصلاح ويجعله شعارا مركزيا. غير أن السؤال الجوهري الذي يتكرر بإلحاح: إصلاح من؟ وإصلاح ماذا؟
لقد أصبح الإصلاح مفهوما عائما، يتردد في الخطب الرسمية والبيانات الحزبية دون أن يجد تجسيدا ملموسا على أرض الواقع. وبدل أن يتحول إلى مشروع وطني، تحول إلى مجرد كلمة فضفاضة تستعمل لتأجيل الأزمات، أو لتبرير الفشل، أو حتى لإعادة إنتاج نفس البنية السلطوية والاقتصادية التي تكرّس الفساد.

  1. الإصلاح بين الخطاب والواقع

غالباً ما يقدم الخطاب الرسمي نفسه باعتباره تعبيراً عن الإرادة العليا في إحداث التغيير، عبر التأكيد على الإصلاحات الدستورية، تنظيم الانتخابات الدورية، وإطلاق المبادرات التنموية الكبرى. لكن الممارسة العملية أثبتت أن هذه الخطب ذات طابع مناسباتي، تُلقى في محطات محددة أو في لحظات سياسية حرجة، ثم لا تجد ترجمة فعلية على الأرض. فالمغاربة الذين علقوا آمالاً كبيرة على هذه الخطب باعتبارها خارطة طريق لإصلاح شامل، سرعان ما اكتشفوا أن الوعود لم تتجاوز كونها شعارات مرتبطة بزمن إلقائها، دون أن تتحول إلى برامج ملموسة تعالج الاختلالات البنيوية.

وتتجلى الفجوة بين الخطاب والواقع في أن أغلب المشاريع التي يتم الترويج لها تنتهي في يد فئة محدودة من المقربين من دوائر القرار. على سبيل المثال، برنامج الحزام الأخضر الذي كان يُفترض أن يكون مشروعاً وطنياً بيئياً وتنموياً، تحول في الواقع إلى فرصة اقتصادية استفاد منها بعض النافذين، ومن بينهم شخصيات سياسية بارزة مثل عزيز أخنوش وشبكة مصالحه. الأمر نفسه ينطبق على مشاريع استثمارية وتنموية أخرى غالباً ما تُمنح لمقربين أو تُستعمل كأوراق سياسية أكثر منها كآليات إصلاحية.

الخرجات الاحتجاجية الأخيرة في أكادير مثّلت لحظة دالة على هذا التناقض؛ إذ عبّر المواطنون عن خيبة أملهم من الخطابات الرسمية التي لا تعكس معاناتهم اليومية ولا تقدم حلولاً عملية لمشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية. هكذا يتضح أن الفجوة بين الخطاب والواقع لا تقتصر على ضعف تنزيل الإصلاحات، بل تتعلق ببنية سياسية واقتصادية جعلت من الخطاب مجرد وسيلة لتسكين المطالب وشراء الوقت، بينما الواقع يستمر في إعادة إنتاج نفس أنماط الفساد والاحتكار.

 

  1. فشل التجارب السياسية

منذ بدايات ما سمي بالانتقال الديمقراطي في المغرب خلال التسعينيات، شكلت الحركات السياسية الإسلامية والحركات الراديكالية ركيزتين أساسيتين في معادلة التغيير. لكن التجربة أظهرت أن كليهما اصطدم بجدار البنية العميقة للدولة، ما جعل رهانات الإصلاح أو الثورة عاجزة عن اختراق المنظومة.

  1. الحركات الإسلامية: شعار “الإصلاح من الداخل”
  • تبنت هذه الحركات خطاباً إصلاحياً براغماتياً يقوم على الانخراط في المؤسسات الرسمية (البرلمان، الحكومة، الجماعات المحلية).
  • : حين وصلت إلى السلطة التنفيذية (كما في تجربة حزب العدالة والتنمية بعد 2011)، اصطدمت بثلاثة عوائق كبرى:

السلطة الفعلية: القرارات الاستراتيجية بقيت بيد المؤسسة الملكية وأجهزتها.

الإكراهات الاقتصادية الدولية: المغرب مرتبط بالمؤسسات المالية الدولية التي تفرض وصفات جاهزة (التقشف، رفع الدعم).

محدودية الأداة الحزبية: الحزب لم يكن يمتلك أدوات أو شبكة نفوذ داخل الدولة تمكنه من فرض سياسات مستقلة.

  • النتيجة: خرجت هذه الحركات من التجربة مثقلة بخيبات كبرى:
    • فقدت رصيدها الشعبي بسبب عجزها عن تحقيق وعودها الانتخابية (محاربة الفساد، تحسين المعيشة).
    • تعرضت لانقسام داخلي وتراجع في الحضور السياسي (خسارة العدالة والتنمية المدوية في انتخابات 2021 مثال صارخ).
  1. الحركات الراديكالية: وهم التغيير الجذري
  • طرحت خطاباً صدامياً يرى أن الإصلاح مستحيل من داخل النسق السياسي، وأن الحل يكمن في الثورة أو القطيعة الكاملة مع الدولة.
  • ماذا وقع
    • واجهت قمعاً شديداً، إما عبر السجن والملاحقة أو عبر الاختراق والتفكيك.
    • اصطدمت بالتحولات الإقليمية بعد 2011، حيث فشلت الثورات العربية في تحقيق انتقالات مستقرة، ما عزز خطاب “الاستقرار أولاً”.
  • ففشلت في بناء بديل سياسي قادر على تعبئة الجماهير بشكل مستدام. بعض الحركات تراجعت إلى الهامش أو تحولت إلى العمل الدعوي/الخيري، فيما جرى تجريم أو وصم أخرى بالعنف أو الإرهاب.
  1. المنظومة العميقة للفساد: المستفيد الدائم

ما يجمع بين التجربتين هو أن المنظومة القائمة (المخزن، البيروقراطية، شبكات المصالح) ظلت صامدة. بل أكثر من ذلك، تمكنت من إعادة إنتاج نفسها من خلال:

  • استيعاب الخصوم: تحويل الإسلاميين إلى جزء من اللعبة المؤسساتية.
  • إضعاف البدائل: تفتيت الحركات الراديكالية وتجفيف منابعها الاجتماعية.
  • إعادة تدوير الخطاب: تبني شعارات الإصلاح والتنمية في الخطاب الرسمي مع غياب إجراءات جوهرية.

 

  1. طبيعة منظومة الفساد تحت أنظار المخزن

الفساد في المغرب لا يمكن اختزاله في سلوكيات فردية أو خروقات عرضية، بل هو منظومة قائمة الذات، مترابطة الأبعاد، تُعيد إنتاج نفسها باستمرار. هذه المنظومة تُعتبر إحدى الركائز التي يقوم عليها البناء السياسي والاجتماعي في ظل المخزن، إذ تتغذى من تشابك المصالح بين النخب الاقتصادية والسياسية، وتجد في غياب المحاسبة بيئة خصبة للاستمرار. ويمكن الوقوف على أبرز تجلياتها في أربعة مستويات رئيسية:

  1. الاقتصاد الريعي
  • الاحتكار والامتيازات: تُمنح قطاعات استراتيجية مثل المحروقات، العقار، الصيد البحري، المناجم، والصفقات العمومية إلى فئة ضيقة من الفاعلين الاقتصاديين المحسوبين على الدوائر المخزنية. هذه الامتيازات لا تقوم على التنافسية أو الكفاءة، بل على الولاء السياسي وقرب أصحابها من مراكز القرار.
  • إنتاج التبعية: الاقتصاد الريعي لا يقتصر على كبار الفاعلين فقط، بل يُغذّي شبكة واسعة من المستفيدين (منتخبين محليين، رجال أعمال متوسطين، وسطاء…)، ما يجعل جزءا مهما من النخب مرتبطا عضويا باستمراره.
  • تعطيل التنمية: هذه البنية الريعية تحدّ من فرص الاستثمار المنتج والابتكار، وتُفضي إلى اقتصاد هشّ يقوم على توزيع الريع بدل خلق الثروة، وهو ما يفسر ضعف تنافسية الاقتصاد الوطني على المستوى الإقليمي والدولي.
  1. الإدارة العمومية
  • الزبونية والمحسوبية: يتم توزيع المناصب والمسؤوليات داخل الإدارة على أساس الولاءات السياسية أو القرابة العائلية، أكثر مما هو قائم على الكفاءة أو الاستحقاق.
  • غياب المحاسبة: رغم التنصيص الدستوري على ربط المسؤولية بالمحاسبة، إلا أن الواقع يكشف عن غياب تام للمساءلة الحقيقية، حيث يتم غالبا الاكتفاء بإجراءات شكلية أو نقل المسؤولين من منصب إلى آخر بدل محاسبتهم.
  • البيروقراطية كأداة تحكم: تُستعمل الإجراءات الإدارية المعقدة كآلية للابتزاز وتحصيل الرشاوى، مما يحوّل الإدارة من فضاء لخدمة المواطن إلى جهاز يكرّس الفساد ويُغذّيه.
  1. الأحزاب السياسية
  • تفريغ الوظيفة التمثيلية: الأحزاب فقدت وظيفتها الأصلية كوسيط بين الدولة والمجتمع، وصارت في كثير من الحالات مجرد أدوات لتصريف السياسات الرسمية وإضفاء شرعية ديمقراطية شكلية عليها.
  • الفساد الانتخابي: شراء الذمم، استعمال المال الحرام، والتحكم في لوائح الترشيحات من خلال “التزكيات” جعل العملية الانتخابية نفسها جزءا من منظومة الفساد.
  • إنتاج النخب الموالية: يتم دفع قيادات حزبية إلى الصدارة بناء على قدرتها على التوافق مع المخزن لا على أساس قوتها الشعبية أو مشروعيتها الفكرية والسياسية.
  1. القضاء
  • الاستقلالية المنقوصة: رغم بعض الإصلاحات المؤسساتية، يظل القضاء خاضعا للتوجيهات المباشرة وغير المباشرة، ما يجعله أداة للتحكم أكثر منه سلطة مستقلة.
  • الانتقائية في المحاسبة: الملفات الكبرى المتعلقة بالفساد نادرا ما تُفتح بجدية، بينما يتم التركيز على قضايا صغرى لتقديم صورة زائفة عن محاربة الفساد.
  • أثر ذلك على الثقة: غياب الثقة في استقلالية القضاء ينعكس على صورة الدولة، ويُكرّس لدى المواطنين قناعة بأن “العدل يُستعمل كسلاح للضغط لا كميزان للإنصاف”.

 

منظومة الفساد في المغرب إذن ليست مجرد انحرافات عرضية، بل هي آلية من آليات الحكم؛ تُستعمل لضبط التوازنات، وتوزيع الولاءات، وضمان استمرار النفوذ المخزني. هذه البنية تُفرغ الإصلاحات من محتواها، وتُحوّلها إلى مجرد شعارات تجميلية، فيما يبقى الواقع خاضعا لقواعد غير مكتوبة، أساسها الريع، الزبونية، وغياب المحاسبة الفعلية.

 

الإصلاح الغائب بين الشعارات والضرورة الوجودية4

منذ عقود طويلة، ظل شعار الإصلاح يتردد في الخطاب الرسمي المغربي كإشارة إلى الإرادة السياسية في التغيير، وكوعد بانتقال تدريجي نحو الحكامة الرشيدة. غير أن الواقع يثبت أن هذا الشعار ظل غالبًا بلا مضمون حقيقي، إذ لم يتجاوز حدود الكلمات المطمئنة أو المبادرات التجميلية التي تلامس السطح دون النفاذ إلى الأعطاب البنيوية. إن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم: لماذا يغيب الإصلاح الفعلي؟ وما هي مقوماته التي لم تتحقق بعد؟

أول ما يعيق الإصلاح هو غياب التشخيص الصريح للمعضلات العميقة التي تكبل الدولة والمجتمع. فبدل تسمية العوائق بمسمياتها، يجري أحيانًا الاكتفاء بتبريرات تقنية أو ظرفية من قبيل ضعف الموارد أو تأثيرات السياق الدولي. والحال أن المعضلة الحقيقية تكمن في أعطاب بنيوية: تركيز السلطة في يد نخب محدودة، تغوّل البيروقراطية، استمرار الاقتصاد الريعي، وضعف استقلالية القضاء، وسيادة ثقافة سياسية تعلي من شأن الطاعة أكثر مما تحتفي بالمساءلة والنقد. الإصلاح لن يبدأ إلا حين يُعترف بهذه الحقائق بلا تجميل ولا مراوغة.

العنصر الثاني الغائب هو تحميل المسؤولية للفاعلين الحقيقيين في إنتاج الأزمة. فغالبًا ما تُحمَّل الحكومات المتعاقبة مسؤولية الإخفاق، بينما يعرف الجميع أن القرار السياسي والاقتصادي يظل في يد مراكز النفوذ التي تحمي الفساد وتعيد إنتاجه. الاقتصار على التضحية ببعض الوزراء أو الموظفين الصغار لا يعدو أن يكون التفافًا على جوهر الأزمة، ما دام “الكبار” الذين يملكون مفاتيح السلطة والثروة في مأمن من أي محاسبة. الإصلاح الجاد يعني بالضرورة أن لا أحد فوق القانون مهما كان موقعه.

كما أن أي إصلاح حقيقي لا يمكن أن يظل قرارًا فوقيًا، بل يتطلب إشراكًا حقيقيًا للمجتمع بكل مكوناته. فالنقابات بما تمثله من صوت للشغيلة، والجمعيات المدنية بما تحمله من قضايا حقوقية وتنموية، والمثقفون بما يمتلكونه من قدرة تحليل ونقد، والحركات الاجتماعية بما تعكسه من نبض الشارع… كلها أطراف لا غنى عنها لإعطاء الإصلاح عمقًا اجتماعيًا وديمقراطيًا. بغير هذا الانفتاح، يتحول الإصلاح إلى مجرد أوراش تقنية تفقد مشروعيتها.

ثم إن المحاسبة والشفافية تظل الركيزة التي يقاس بها صدق أي مشروع إصلاحي. فلا معنى لخطاب محاربة الفساد إذا لم تُعتمد آليات مؤسساتية تضمن المراقبة والمساءلة، وتُخضع الجميع للقانون بلا استثناء. الشفافية في تدبير المال العام، استقلال القضاء، إعلام حر قادر على فضح الانحرافات… كلها شروط تجعل من الإصلاح ممارسة يومية ملموسة، لا مجرد شعار موسمي.

غير أن ما يجعل الحاجة إلى الإصلاح اليوم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، هو أنه لم يعد ترفًا سياسيًا أو مطلبًا نخبويًا، بل صار شرطًا وجوديًا لبقاء الدولة والمجتمع معًا. استمرار الفساد يهدد أولاً الثقة المجتمعية، إذ لم يعد المواطن يرى في المؤسسات أداةً للتعبير عن إرادته، بل مجرد واجهة شكلية. هذا التآكل في الثقة يؤدي إلى العزوف عن المشاركة السياسية، وإلى انتشار اللامبالاة والاحتجاجات غير المؤطرة، مما يضع شرعية الدولة على المحك.

ويهدد ثانيًا التماسك الاجتماعي. فالفساد يزيد الفوارق الطبقية بشكل صارخ، حيث تراكم الأقلية المحظوظة ثروات عبر الريع والامتيازات، بينما تغرق الأغلبية في الهشاشة والبطالة وتدهور الخدمات العمومية. هذا الاختلال يولد شعورًا بالظلم وانعدام العدالة، ويخلق استعدادًا دائمًا للاحتقان الاجتماعي.

أما ثالثًا، فإن الفساد يقوض المستقبل التنموي برمته. فلا نموذج اقتصادي قادر على النجاح في بيئة تغيب عنها النزاهة، حيث تهرب الاستثمارات، وتهاجر الكفاءات، وتُختزل السياسات العمومية في توزيع الغنائم. بهذا المعنى، يصبح الفساد ليس فقط عائقًا أمام التنمية، بل تهديدًا استراتيجيًا يحكم على المستقبل بالانسداد.

خلاصة القول: إن الإصلاح الغائب لم يعد خيارًا يمكن تأجيله أو الالتفاف عليه. إنه رهان مصيري تتوقف عليه شرعية الدولة، واستقرار المجتمع، وإمكانات التنمية. الإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف بالمعيقات البنيوية، ويُقاس بمدى قدرة الدولة على محاسبة الفاعلين الحقيقيين، وإشراك المجتمع في القرار، وإرساء آليات شفافة للمساءلة. بغير ذلك، سيظل شعار الإصلاح مجرد واجهة تخفي واقعًا مأزوما يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم.

 

إرسال التعليق