
الانتخابات في المغرب: بين الوجوه المتكررة وشرعنة الفساد
رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح
مع اقتراب موعد الانتخابات في المغرب، يعود المشهد السياسي ليحمل نفس الوجوه، ونفس الشعارات المستهلكة، ونفس الوعود التي لم تثمر سوى المزيد من خيبات الأمل والانتكاسات. فمن المثير للاستغراب – بل للقلق – أن نجد أحزاباً ابتُلي بها المغاربة طيلة عقود، ما تزال تتصدر المشهد السياسي، رغم الفضائح المتلاحقة التي طالت رموزها، سواء من برلمانيين أو رؤساء جماعات، بل وحتى وزراء ومدراء ومسؤولين كبار في الدولة.
إن المشهد الراهن يعكس أزمة عميقة في النظام السياسي المغربي، حيث تحولت الانتخابات إلى طقس مفرغ من مضمونه الحقيقي، أداة لتجميل وجه السلطة وإعطاء انطباع زائف بأننا أمام تجربة ديمقراطية.
المفارقة العجيبة أن المجتمع المغربي، رغم كل الفضائح التي تطفو على السطح يوماً بعد يوم – من فضيحة دكتور كلية ابن زهر إلى صفقات مشبوهة، ومن اختلاسات وتلاعبات بالمال العام إلى تهم الفساد التي تلاحق العديد من أعضاء الحكومة والبرلمان – لا يزال في كثير من قطاعاته صامتاً، وربما مستسلماً.
لكن الأخطر من ذلك هو أن الانتخابات، بدل أن تكون وسيلة لتغيير الوضع ومحاسبة المفسدين، أصبحت أداة لشرعنة استمرارهم في مواقع السلطة.
التصويت على نفس الأحزاب ونفس الوجوه، رغم كل ما عُرف عنها من فساد وتواطؤ، ليس مجرد فعل معزول، بل هو تزكية غير مباشرة لمنظومة الفساد، ومشاركة – بقصد أو بغير قصد – في صناعة واقع بائس تُكبله المصالح الضيقة وشبكات الريع والمحسوبية. غير أن هذه المنظومة لا تُنتج نفسها تلقائياً، بل تجد دعماً وحماية ممنهجة من طرف أجهزة الدولة، وعلى رأسها وزارة الداخلية، التي ظلت، منذ عقود، تمارس دور “المُخرج الخفي” للعملية الانتخابية، فتُدير المشهد وفق منطق الضبط والتحكم، لا وفق مقتضيات التنافس الحر والنزيه.
فالتواطؤ هنا ليس مجرد انحياز حزبي عفوي، بل هو آلية ممنهجة تُمارسها الدولة عبر أعوان السلطة – من قياد وباشوات وولاة – الذين يتحولون خلال المحطات الانتخابية إلى أدوات ضغط وتوجيه، تتلاعب بالخريطة الانتخابية، وتعيد ترتيب الأولويات بما يخدم مصلحة السلطة، لا مصلحة الشعب. هؤلاء الأعوان، عبر شبكاتهم المحلية، يُمارسون تأثيراً مباشراً على الناخبين، من خلال التهديدات أو الإغراءات أو توجيه الرسائل الضمنية، بما يضمن استمرار الأحزاب الموالية في الواجهة، وتهميش القوى التي قد تُشكل تهديداً لمنظومة التحكم.
إضافة إلى ذلك، تُمارس وزارة الداخلية لعبة “الكوطا” – التوزيع المسبق للمقاعد – حيث يتم رسم النتائج قبل فتح صناديق الاقتراع، فتُعطى مقاعد معينة لأحزاب مُحددة، ليس وفق إرادة الناخبين، بل وفق حسابات توازنات السلطة. فالانتخابات في هذا السياق ليست غاية في حد ذاتها، بل أداة تكتيكية لإعادة تدوير نفس الأحزاب، وصناعة واجهة ديمقراطية تُخفي واقعاً تسوده الزبونية والمحسوبية والتحكم من وراء الستار.
هذا الوضع ليس جديداً على المغرب؛ فهو امتداد لمسار طويل من الفوضى المنظمة التي بدأت منذ عهد الحسن الثاني، حين تم تحويل الانتخابات إلى مسرحية موجهة، تُستخدم لامتصاص الغضب الشعبي وتنفيس الاحتقان دون إحداث تغيير حقيقي في موازين القوى. فقد ظلت وزارة الداخلية تمثل الدولة العميقة التي تُمسك بخيوط اللعبة السياسية، وتُحدد سقف التغيير الممكن، وتُفرغ المؤسسات المنتخبة من مضمونها، لتحولها إلى أدوات تنفيذ لسياسات تُرسم خارج إرادة الشعب. ورغم كل الشعارات المرفوعة عن الإصلاح والديمقراطية، ما زال هذا النهج مستمراً، ليبقى المغرب سجين حلقة مفرغة من إعادة إنتاج الفساد والريع، وتكريس واقع سياسي مغشوش، يُحبط آمال التغيير الحقيقي.
في هذا السياق، يصبح التصويت على نفس الأحزاب ونفس الوجوه ليس فقط تعبيراً عن قلة الوعي أو اليأس، بل أيضاً مشاركة – مقصودة أو غير مقصودة –وإن كان الأمل في التغيير ممكناً، فإنه لن يأتي إلا من خلال كسر هذه الحلقة، وكشف آليات التحكم، وبناء وعي شعبي ناقد يرفض أن يُستعمل كأداة في لعبة أكبر منه، لعبة تُحركها مصالح نخبة ضيقة على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب.
علينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا: إن السكوت عن هذه المسرحية المتكررة، أو المشاركة في إعادة انتخاب نفس الأحزاب والوجوه الفاسدة، هو شكل من أشكال الزور الانتخابي الذي لا يقل خطورة عن التزوير المباشر.
كيف يمكن لشعب يريد التغيير أن يصوت لمن خان الأمانة؟ كيف يمكن أن نأمل بمغرب جديد ونحن نمنح الشرعية لمفسدين عاثوا في الأرض فساداً؟
إن الانتخابات لا تعني شيئاً في غياب وعي جماهيري حقيقي، يدرك أن التغيير لا يأتي من صناديق انتخابية تتحكم فيها الماليات الفاسدة والشبكات الزبونية، بل من الرفض الصريح لهذا الواقع، والمقاطعة الواعية التي تفضح اللعبة وتكشف زيف الديمقراطية الشكلية.
إن مواجهة هذا الواقع تبدأ أولاً بوعي جماهيري حقيقي بحقيقة اللعبة السياسية في المغرب. فلا يمكن أن نستمر في التظاهر بأن الانتخابات وسيلة للتغيير، بينما هي أداة لإعادة تدوير نفس الفاعلين.
يجب أن يرفض الشعب المغربي التواطؤ مع هذا المشهد، سواء بالمشاركة في انتخابات شكلية، أو بتصويت عقابي يعيد إنتاج نفس الوجوه، أو بالصمت القاتل.
بل الأجدر هو أن نبدأ بفتح نقاشات عميقة حول مستقبل الديمقراطية في المغرب، وجدوى استمرار هذه الأحزاب، بل وجدوى استمرار هذا النظام الحزبي المفرغ من أي مضمون إصلاحي.
إن إعادة إنتاج نفس الأحزاب الفاسدة هو خطر يهدد مستقبل البلاد، ويعمق أزمة الثقة بين المواطن والدولة. والمطلوب اليوم هو بناء وعي جماعي يرفض المشاركة في تزكية الفساد، ويرفض أن يكون شريكاً في مسرحية انتخابية بلا طائل.
إن المغرب لا يحتاج إلى انتخابات شكلية، بل إلى ثورة وعي حقيقية، تضع حداً لهذا العبث، وتؤسس لمستقبل سياسي نظيف، يتجاوز هذه الوجوه التي استهلكت مصداقيتها، وانتهت صلاحيتها.
إرسال التعليق