البريطانيات المهاجرات إلى “مدينة الأحلام” من كتاب عاشقات الشهادة حسن هنية وابو رمان

آخر الأخبار

البريطانيات المهاجرات إلى “مدينة الأحلام” من كتاب عاشقات الشهادة حسن هنية وابو رمان

رصد المغرب 

في مساء يوم 16 فبراير/شباط 2015، كانت خديجة سلطانة (ابنة الـ16 عاماً) ترقص مع ابنة أخيها الأصغر منها، وتداعبها، وبقيتا تتحدثان وتتمازحان، ثمّ تركت لها غرفتها تلك الليلة، ونامت في جوار والدتها على سريرها، وكأنّها تريد أن تترك هذه الصورة المرحة في مخيّلة عائلتها[1]، عندما تغادر صباح اليوم التالي مع رفيقتيها أميرة عباسي وشاميما بيغوم (15 عاماً حينها)، إلى أراضي تنظيم الدولة الإسلامية، عبوراً بتركيا.لتتزوج لاحقاً هناك، ثمّ تُقتل، بعد ما يزيد على عام، في 22 يونيو/حزيران 2016، بقصف جويّ روسي على البناية التي كانت تعيش فيها[2].

كانت خديجة، التي تسكن مع عائلتها في حيّ بيثنال غرين، شرق العاصمة لندن، من المتميزات في المدرسة، والمتفوقات الواعدات، كما تشهد بذلك خطابات المدرسة نفسها. ولم تكن إلى فترة قريبة من سفرها متدينة، على أنّها تنتمي إلى عائلة محافظة. لكنّها وقبل أشهر من سفرها مع صديقتها، بدأت تتغير في أفكارها وملابسها واهتماماتها، وأخذت تمضي وقتاً طويلاً قبل سفرها على الآيباد الخاص بها، وأخذت تتردد مع صديقاتها على مسجد في شرق لندن.

كان سفر المراهقات الثلاث المتميزات من مدرسةBethnal Green Academy  صاعقاً لا لعائلاتهن، ولمدرستهن فقط، بل حتى على صعيد عالمي. فقد أصبحت المراهقات مشهورات، لأكثر من سبب، لعمرهن وجنسهن وخلفيتهن المريحة، وأصبحن مادة للإعلام الغربي والبريطاني خاصة لاحقاً.

على أنّ البنات الثلاثة لم يكنّ الحالة الأولى ولا الأخيرة من بين النساء والفتيات البريطانيات؛ فقبل ثلاثة أشهر فقط من مغادرتهن كانت صديقتهن وزميلتهنّ بالمدرسة،شارمينا بيغوم، تغادر هي الأخرى المنزل الذي تقيم فيه مع جدتها لوالدتها وخالها إلى أراضي التنظيم، بانتظار وصول بقيّة صديقاتها وزميلاتها.

جاء التحذير من نمو ظاهرة البريطانيات الملتحقات بالتنظيم عبر تقرير مركز لمكافحة الإرهاب( ما اسم المركز، وهل من مرجع؟) في بداية العام 2016 إذ قدّر أعداد المغادرات في العام 2015 (اللواتي بلّغت أسرهن عن فقدانهن ورجحت انضمامهن إلى التنظيم) بقرابة 56 واحدة، فيما كان تقدير المهاجرات في العام 2014 قرابة 43. وثمّة قصص عن إناث التحقن أو حاولن الالتحاق بالتنظيم في العام 2016، أي أنّنا في جميع الأحوال نتحدث عن عشرات الإناث البريطانيات ممن التحقن بتنظيم الدولة الإسلامية خلال الأعوام الثلاثة السابقة، من بين قرابة 700 بريطاني قُدّر أنّهم اتجهوا للانضمام إلى التنظيم[3].

هنالك العديد من الحالات الشهيرة والقصص المماثلة في بريطانيا، ولعل أكثرها تشابهاً بحالة الفتيات الثلاثة، من زاوية الخلفية الاجتماعية والعمر والدوافع، هي حالة أقصى محمود، التي كانت من أوائل المغادرات إلى أراضي التنظيم، وكان عمرها حينها 21عاماً، بالإضافة إلى حالة الشقيقتين التوأمتين، سلمى وزهرة حلاني، والطبيبة الماليزية شمس (28 عاماً) التي يُعتقد بأنّها عاشت – من خلال تحليل ما تنشره- في بريطانيا لمدة من الوقت. وسالي جونز، التي تبلغ من العمر 47 عاماً، وكانت عازفة غيتار، قبل أن تعتنق الإسلام وتهاجر إلى أراضي التنظيم، وكذلك الحال لدى جراس دراي، كانت 27 عاماً، عندما هربت في العام 2012 إلى سوريا، وتزوجت هناك، وهي فتاة كاثوليكية بريطانية اعتنقت الإسلام، خلال سنوات المراهقة[4].

ومن الأسماء المعروفة من أُطلق عليهن إعلامياً “شقيقات داوود”، خديجة (30 عاماً)، زُهرة (33 عاماً)، وصغرى (34 عاماً) وهن ثلاثة شقيقات هربن في يونيو/حزيران من العام 2015، وأخذن أبناءهن معهن، وتركن أزواجهن في بريطانيا، بعد أن تحايلوا عليهم بنيتهم أداء العمرة، في السعودية، لكنّهن بعد ذلك ذهبن إلى تركيا، ومنها إلى سوريا. وتتراوح أعمار فتياتهن الخمس وأولادهن الأربعة بين 3 و15 عاماً، عند مغادرتهن البلاد إلى الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية[5].

بالطبع توجد أسماء أخرى تداولتها وسائل الإعلام، ليس فقط لمهاجرات، بل أيضاً لعائدات[6]، ولمتهمات بمحاولة القيام بتفجيرات في لندن[7]. لكن بالرغم من هذه التغطية الإعلامية الواسعة، فإنّ ما هو متاح من معلومات أكثر دقة عن الأمثلة السابقة ليس كثيراً، ولا يعطينا المجال لإدراك “بؤر” التحولات النفسية، والتفاصيل الدقيقة عن المحيط الاجتماعي، لنتمكن من رسم صورة قريبة وعميقة للظاهرة النسائية الجهادية البريطانية.

مع ذلك، فقد تمّ إنجاز بعضالدراسات المتخصصة والأوراق الأكاديمية، بالإضافةإلى جهود بحثية بذلت من قبل بعض مراكز الدراسات تساعدنا في استنطاق معالم الظاهرة وسماتها الأساسية. ومن أبرز هذه الدراسات الدراسة الصادرة عن معهد الحوار الاستراتيجي في لندن، لكل من إرين ماري سالتمان Erin Marie Saltman، وميلاني سميث Melanie Smith، وتستند إلى قاعدة بيانات أعدها المعهد نفسه، ومعه المركز الدولي للدراسات الراديكالية،  لمائة حالة نسائية من 15 دولة غربية، وجاءت الدراسة بعنوان “حتى تفرقنا الشهادة: الجندر وداعش” (‘Till Martyrdom Do Us Part’: Gender and the ISIS Phenomenon)، وكذلك الدراسة السابقة للمعهد بعنوان “أن تصبح مولان: النساء الغربيات المهاجرات إلى داعش” (Becoming Mulan: Female Western Migrants to ISIS)[8].

تكمن أهمية هاتين الدراستين في أنّهما تتجاوزان الصورة النمطية والأفكار المعلّبة المسبقة، وتنخرطانفي دراسة الظاهرة عبر متغيراتها الرئيسة، وتبدأن بالعمل على تفسير الأسباب والدوافع التي تدفع بالنساء الغربيات إلى الهجرة للتنظيم، إذ تقسمها الدراسة إلى أسباب طرد (من الدول الغربية) وأسباب جذب (لدى تنظيم الدولة الإسلامية).

وبينما ترفض الدراستان، منذ البداية، الفرضيات المسبقة،التي انتشرت في الإعلام العربي والغربي على السواء، عن عرائس الجهاد، والباحثات عن المتعة، وتركزان على العوامل الموضوعية، وفي مقدمتها شعور الفتيات بالغربة، وأحياناً العزلة في المجتمعات الغربية، وبروز سؤال الهوية الإسلامية لدى الفرد. وفي المقابل تتمثّل عوامل الجذب من قبل تنظيم الدولة الإسلامية في وجود مشروع جهادي جديد، أكثر انسجاماً مع “الهوية المتخيّلة”، والدولة الموعودة في مخيال الفتيات البريطانيات، والشعور بوجود واجب يمكن القيام به من أجل الدولة الإسلامية المفترضة، أو حتى دور إنساني يمكن أن يؤديه الإنسان في هذا المجال، بالإضافة إلى تحقق مجتمع أكثر انسجاماً مع ميل بعض الأفراد إلى هويات دينية نقية أو حياة مرتبطة بتعاليم الدين وقوانينه.

وتحذّر دراسة “حتى تفرقنا الشهادة” من ربط الظاهرة بمتغيرات ثابتة، كسنّ معين أو بمستوى اجتماعي محدد، أو تعليمي. فدراسة الحسابات الإلكترونية وقاعدة البيانات تدفع إلى القول بخلاف ذلك، فنحن أمام متغيرات مختلفة، متنوعة، في السن، والخلفية الاجتماعية، والأصول، والمستوى التعليمي، والأسباب التي يُفترض بأنّها تدفع هؤلاء النساء والفتيات إلى الانضمام إلى تنظيم الدولة.

**

إذا نظرنا من خلال العدسة السابقة إلى تجربة البنات المراهقات الأربعة؛ خديجة وأميرة وشارميان وشاميما، وأخذنا معهن أقصى محمود، بوصفهن متقاربات في العمر والخلفية الاجتماعية، مع عدم إغفال التحارب النفسية، التي قد تكون متباينة، وتعاملنا معهن كأحد الاتجاهات الجديدة في النسائية الجهادية، بخاصة الداعشية، فسنجد أنفسنا أمام حالات تتراوح أعمارها بين الـ15-21 عاماً، عندما التحقن بتنظيم الدولة، من عائلات مسلمة محافظة عموماً، باستثناء أقصى محمود نسبياً، التي تعتبر عائلتها نفسها علمانية.

في هذه التجارب، وبالرغم من أغلب العائلات محافظة، إلاّ أنّ أغلب الفتيات كنَّ يعشن حياة طبيعية، من غير تشدد، قبل أن تبدأ التحولات والتغييرات باختراق أفكارهن وحياتهن. ثم بعد شهور هاجرن إلى الرقّة، على الرغم من أنّظروفهن الاقتصادية ليست سيئة، فهن من الطبقة الوسطى عموماً، بدرجات متفاوتة.

أقصى محمود، على سبيل المثال، من عائلة ذات وضع اقتصادي جيد. ففي السبعينيات انتقل والدها من باكستان، إلى مدينة غلاسكو “اسكتلندا”. امتلكت العائلة منزلاً في حي راقٍ في اسكتلندا، ونشأت أقصى في عائلة مكونة من ثلاثة إخوة ووالديها، حيث تميز والدها بحصوله على مركز أول لاعب كريكيت في الفريق الاسكتلدني.

كانت ترتاد المدرسة الخاصة المعروفة باسم “كريغهولم”، Craigholme، وهي من المدارس  الخاصة البارزة في اسكتلندا؛ وهو أمر لا يتمكن سوى الميسورين من تأمينه لأطفالهم، ثم التحقت بثانويةShawlands Academy، وهي مدرسة دولية متنوعة الثقافات. ويتذكر أصدقاؤها أنها كانت تتصرف كرفيقاتها الغربيات فكانت تحب التسوق والثقافة الغربية وشراء الملابس، وتُكثر من قراءة روايات كي. جي. رولينج “هاري بوتر” وسلسلة روايات “لعبة الجوع” ( The Hunger Games)، وكانت تميل إلى سماع الموسيقى “فرقة كولد بلاي” (Coldplay)، وكانت مولعة بعالم المغامرات، الذي يبدو أنّها استبدلته بعالم البغدادي وجماعته فيما بعد[9].

ثم سجلت في جامعة غلاسكو كالدونيان (Glasgow Caledonian University)، لدراسة الأشعة. والمفارقة أنّ الجامعة عينت محمد يونس، الحائز على جائزة نوبل، رئيساً لها، وهو أول شخص غير اسكتلندي يصبح رئيساً لجامعة اسكتلندية في العام 2012، ووجه المفارقة أنّه من بنغلادش (أي من ذات الأصول التي تنتمي إليها محمود)، ومعروف بإنشائه بنكاً لمساعدة الفقراء وإدارة المشاريع الصغيرة[10].

وكما صرح والدها فقد كانت أقصى محمود فتاة محبة لمدرستها، لطيفة، ولم يكن لها أية أفكار متطرفة. لكن عندما اندلعت الحرب في سوريا، أصبحت قلقة من العنف وبدأت بالصلاة وقراءة القرآن. وتذكر والدتها أنّها كانت متأثرة جداً بما يحدث في سوريا، وأنّها “أصبحت عاطفية، وكانت غارقة في الدموع بعد الهجوم الكيماوي على الغوطة في دمشق”[11].

ثم عندما التحقت بالجامعة بكلية “دراسات الأشعة”، توقفت عن الاستماع إلى الموسيقى وقراءة روايات المراهقين، ولم يكن في تصرفاتها ما يثير القلق، فقد كانت ترافق العائلة في الخروج وتناول الطعام ومشاهدة أفلام السينما. لم تكن أقصى تعيش ضمن عائلة متشددة، بل كانت عائلتها علمانية تنصب اهتماماتها على التعليم والحياة الجيدة، تقول والدتها خالدة ” إن ابنتها كانت تخاف من السفر لذلك فقد أقلقتها فكرة سفر ابنتها” وأنّها “لا تعرف كيفية استخدام وسائل النقل العام للتنقل في وسط مدينة غلاسكو البريطانية”.

في الشهور الأخيرة بدأت شكوك العائلة حول ابنتها، عندما وجدت والدتها رسالة مريبة (في شهر مايو/أيار 2013) على هاتفها من شخص اسمه عديل الحق، فاتصل والدها به وطلب منه عدم الحديث مع ابنته. لكنه تفاجأ خلال الصيف، وعندما كان يحضر مع زوجته حفل زفاف في مدينة مانشستر، بأنّ جدتها تخبرهم بأنّ أقصى لم تعد إلى المنزل، واتصلوا بعائلة عديل الحق، وتم اللقاء بين العائلتين في المسجد، بناء على طلب العائلة الأخرى. وكانت أقصى بصحبة تلك العائلة، وأخبرت والديها بأنّها تريد الزواج من عديل، لكن والدها رفض ذلك، وقال لها بأنّهما ما يزالان صغيرين، ولا يملكان دخلاً مالياً، وانتهى الأمر بعودتها مع والديها، واعتذارها من أهلها، وقرارهم بمراقبة هاتفها بصورة جديّة. لكنّ ذلك كله لم يعدل فيما يبدو من قرارها بالالتحاق بالتنظيم!

ثم حدثت المفاجأةفي نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2013، إذ ودعت أقصى والدها واحتضنته، قائلة له: “خودا حافظ: الله يحميك”.وبعد مضي أربعة أيام من اختفائها اتصلت أقصى مع والديها في ما بعد لتخبرهما أنها على الحدود التركية، متجهة إلى سوريا موجهة لهم رسالة قائلة:” أنها ستلقاهما في الجنة وتأخذ بيديهما”. أصبح هدف الشابة الخجولة المتواضعة – كما يصفها والدها- هو الوصول إلى الرقة للالتحاق بالتنظيم، ثم أصبحت تطلق على نفسها في الرقّة “أم الليث”، وأخذت شهرتها تزداد لما تكتبه على وسائل التواصل الاجتماعي، ولما يروج وينشر عنها من أخبار وتسريبات من داخل الرقّة؛ لا يوجد ما يؤكّدها أو ينفيها من مصادر موثوقة، مثل الحديث عن دورها في استقطاب البريطانيات، والغربيات، وعن نفوذها الكبير في داخل التنظيم، ودورها في كتيبة الخنساء، ومسؤوليتها عن تزويج الغربيات القادمات إلى التنظيم[12].

بالعودة إلى “نقطة التحول” في حياتها، سنجد أنّ والديها يحمّلون المسؤولية إلى عديل الحق، الشاب، الذي اتّهم في المحكمة، لاحقاً، بمساعدة آخرين على الانضمام إلى سوريا، وبتقديم مساعدة مالية للإرهاب، والتخطيط للهجرة إلى سوريا[13]، لكنّه أجاب المحكمة بأنّه كان يخطط للذهاب إلى هناك لإعادة “حبيبته السابقة”، أقصى محمود؛ والمفارقة أنّها تزوجت بعد وصولها إلى هناك بفترة قصيرة من غيره[14].

يرى المسؤولون البريطانيون بأنّ وسائل التواصل الاجتماعي هي ما لعب الدور الأكبر في عمليات التجنيد وإقناع الشباب بدعاية التنظيم، فيما يرى أهلها أنّها تعرضت لعملية “غسيل دماغ”، وأنّ الأحداث في سوريا هي ما قادها إلى الاهتمام بالسياسة، والتديّن، والتحول في سلوكها من النمط الغربي إلى ارتداء الحجاب.بل أصبحت أقصى راغبة بارتداء النقاب، لكن والدتها نصحتها بعدم القيام بذلك، وأخذت تحافظ على الصلوات وتلتزم بقراءة القرآن، وهو الأمر الذي كان يشير،بالنسبة لعائلتها،إلى اتجاهها نحو التديّن، دون الشعور بأنّ ذلك سيؤدي بها إلى أحضان تنظيم الدولة الإسلامية[15].

لو قارنّا حالة أقصى بشارمينا بيغوم، ابنة الـ15 عاماً عندما غادرت منزلها في شرق لندن، في ضاحية بيثنال غرين، التي تسكن فيها نسبة كبيرة من المسلمين، إلى سوريا، في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2016، فسنجد بأنّ السمات الشخصية متقاربة. فشارمينا، وُلدت في لندن، من أصول بنغلادشية، وهي الابنة الوحيدة لعائلتها. أصيبت بصدمة عاطفية، في بداية العام 2014، عندما توفيت والدتها بالسرطان، وكانت قد أخفت عنها مرضها، وعاشت مع جدتها لأمها وخالها، بعد أن قرر والدها الزواج، في بيت يبعد مسافة قصيرة عن مدرستها.

لم تكن شارمينا متدينة، قبل وفاة والدتها، فقد كانت تحب موسيقى الروك، وتستمتع للمطربة الشهيرة رياناRihana، وكانت من هواة التسوق، والملابس الحديثة، كأي مراهقة أخرى.ولكنها،بعد وفاة والدتها، أخذت تصلي وتقرأ القرآن، وتعتكف في غرفتها وهي تصلي، وبدأت بارتياد مسجد في شرق لندن، وارتدت الحجاب، ويقول والدها بأنّه لم يكن يشعر بالقلق من تدينها، ويربط ذلك بصدمتها بوفاة والدتها. لكنّه تفاجأ بعد هروب ابنته، بأنّه قد تم تجنيدها عبر الإنترنت.وتقول الشرطة البريطانية أنّ ذلك تم عبر امرأتين، مؤيدتين لتنظيم الدولة الإسلامية[16].

كانت شارمينا تمتلك صداقة وثيقة بثلاث فتيات أخريات من المدرسة نفسها أكاديمية بيتنال غرين Bethnal GreenAcademy ، ولأنّ والد شارميان يدرك تماماً عمق الصداقة بينهن، فقد حذّر الشرطة والمدرسة فور مغادرة ابنته إلى سوريا في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2014، من أنّ هنالك قلقاً حقيقياً بأن تلحق بها صديقاتها الثلاث. وبالفعل حضر محققون إلى المدرسة، وتحدثوا مع تلك الفتيات وصديقات أخريات لشارمينا، وأعطوهن رسائل عن خطورة تنظيم الدولة الإسلامية. لكن الفتيات أخفين الرسائل عن أهلهن، وأخفين في الوقت نفسه ترتيباتهن للسفر واللحاق بصديقتهن، شارمينا، وهو ما حدث فعلاً بعد قرابة شهرين!

وفعلاً في صباح يوم الثلاثاء ( 17 فبراير/ شباط 2015(، خلال العطلة الصيفية، كانت الفتيات المراهقات الثلاثة، خديجة سلطانة، أميرة عباسي وشاميما بيغوم، يشترين تذاكر السفر إلى تركيا، ويعبرن منها إلى الرقة، ليلتحقن بتنظيم الدولة الإسلامية هناك.

كانت الفتيات الثلاث متميزات دراسياً، ولم يكنّ متدينات إلى وقت قريب؛ فخديجة (تعيش مع والدتها وأسرتها، وقد توفي والدها سابقاً). بريطانية لعائلة من أصول صومالية، كانت طالبة واعدة (كما يثبت خطاب المدرسة)، ترتدي السراويل، ثم حدثت لها تغيرات فكرية ونفسية، فأصبحت أكثر تديناً ومحافظة في لباسها، وتجلس على الآيباد لفترات طويلة.

أما أميرة، الفتاة المراهقة الثانية، فقد ولدت في إثيوبيا، وقضت طفولتها المبكرة في ألمانيا قبل أن تنتقل إلى لندن عندما كانت في الحادية عشرة من عمرها. بطلة رياضية ومتحدثة رائعة، شغوفة بفكرة الوقوع في الحب، ناقشت حقوق المرأة المسلمة في ارتداء الحجاب. متواجدة دومًا في المكتبة المحلية للقراءة؛ ومن الرويات التي قرأتها أميرة ثلاثية ديستوبيا؛ رواية بعنوان “المتمردون” التي كشفت عنها الشرطة بعد اختفائها.والرواية تقوم على فكرة وجود مجتمع مُتخيّل غير مرغوب فيه، تنهار فيه الحضارات والأنظمة، ويعود العالم فيه إلى نقطة الصفر ليبدأ حضارته الإنسانية من جديد. وكان لقراءة هذا النوع من الروايات أثر واضح على نفسية الفتاة المراهقة أميرة، فكانت تلك الرواية وما كتب بها داعماً لأفكار التنظيم التي كانت تبث عبر مواقع التواصل الاجتماعي لإقناع عقول الفتيات المراهقات، وهذا ما يؤكده ما جاء على التويتر من تغريدات أميرة قبل تسعة أيام من هربها، حيث كتبت أميرة  ” أشعر كأنني لا أنتمي إلى هذا العصر”. وقد أطلقت على نفسها اسم ” أم عثمان” بعد “هجرتها”.

وبعد اختفاء أميرة تبين أن والد أميرة، حسين عباس، تم تصويره أثناء حضور تجمع للإسلاميين في عام 2012، وهو ينظر إلى الإسلاميين الذين يهتفون” الله أكبر” أثناء حرقهم للعلم الأمريكي، وكانت أميرة ترافقهأحياناً للمسيرات. وكما قال حرس رفيق العضو المنتدب لمؤسسة كويليام، وهي مركز مختصّ بالأبحاث المعنيّة بمكافحة التطرف فإنّ “بعض الآباء يساعدون على تهيئة الجو لأطفالهم”. لكن الأب ينفي تماماً مثل هذه التهمة، ويؤكد أنّه تفاجأ تماماً بما قامت به ابنته وأنّ أحداًلا يعرف لماذا قامت مع صديقاتها بذلك[17].

أمّا شاميما، صديقتهن الثالثة، فلا تختلف رواية أهلها عن شخصيتها، قبل سفرها، إذ تقول شقيقتها أنّها كانت فتاة عادية جداً، متميزة في مدرستها، مغرمة بمتابعة التلفزيون، تحب القراءة،وأنّها كانت لا تحب أن تذهب لتشتري لنفسها حليباً من البقالة في الخارج.

أمّا الشقيقتان التوأمتان البريطانيتان، من أصولٍ صومالية، زهرة وسلمى هالين (16 عاماً)، فقد غادرتا من مدينة مانشستر إلى الحدود السورية في يوليو/ تموز 2014، وكان شقيقهما الأكبر أحمد (21 عاماً) قد غادر قبلهماإلى هناك.

انتقلت عائلتهما من الصومال، إلى الدنمارك، ومن الدنمارك إلى بريطانيا حين كان عمرهما 4 أعوام.وعُرف والدهما في الجوار من خلال المدرسة التي أنشأها لتحفيظ القرآن، ووصفت العائلة من قبل من يعرفونها بأنّها عائلة متدينة جداً.

يُعتقد بأنّ الشقيقتين قد تعرّفتا على دعاية داعش، وجرى تجنيدهما من خلال شقيقهما، خلال الشهور الأخيرة. فقطعتا المسافة الفاصلة بين التشدد الديني والتطرف الديني والسياسي، بالرغم من أنّهما كانتا، وفق شهادات عديدة من مدرستهما Whalley Range High School (في مانشستر، وهي مدرسة للإناث[18]) حادّات الذكاء، متميزات، حاصلات على 28 شهادة GCSE’s، ويطمحن إلى دراسة العلوم الطبية[19].

بعدما أن انتقلت الشقيقتان إلى سوريا، بفترة قصيرة، تزوجتا، وانفصلتا؛ زهرة في الرقة وسلمى في الموصل. وكانت زهرة ( التي لقبت نفسها بأم جعفر) أكثر نشاطاً على التويتر، في الترحيب بالعمليات القتالية في شارلي أيبدو، وفي نشر بروباجندا داعش، وأعلنت في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام 2014 بأنّ زوجها ( بعد أشهر قليلة من الزواج) قُتل، وأصبحت هي وشقيقتها أرملتين، ويُعتقد بأنّ لهما دوراً محورياً في القسم النسائي في تنظيم الدولة الإسلامية[20].

بالرغم من وجود “فروقات عديدة” بين الحالات التي قرأناها في النماذج السابق، إلاّ أنّه يمكننا أن نستنتج، بأنّ جميع الحالات تنتمي للطبقة الوسطى، ومن عائلات متدينة بصورة تقليدية، تتراوح في ذلك بين عائلة تعتبر نفسها علمانية مثل عائلة أقصى محمود، إلى عائلة توصف بالمتشددة، مثل عائلة زهرة وسلمى.

الفتيات صغيرات في العمر، كما ذكرنا، غالباً متفوقات في المدرسة، ولديهن تحصيل أكاديمي مشهود له، ولهن مواهب متنوعة، فخديجة وأميرة محبتان لقراءة الروايات، بخاصة الخيالية، وأميرة متفوقة في النشاط الرياضي، وزهرة وسلمى حاصلتان على شهادات تفوق علمي عديدة.

غالبية هذه الفتيات (باستثناء زهرة وسلمى) كنّ – قبل مرحلة التشدد القصيرة- مراهقات طبيعيات، يحببن سماع الأغاني، والموضات، ومتعلقات بوسائل الاتصال الحديثة، والتسوق.

أما نقاط التحوّل وديناميكيات التجنيد فغير واضحة تماماً؛ يختصرها الأهالي – كما يرغبون في الغرب دوماً- بمصطلح “غسيل الدماغ”، وبالتجنيد عبر الإنترنت. لكن هنالك تفاصيل قد تبدو مهمة في ثنايا هذه القصص. فبالنسبة لأقصى محمود، كانت الأحداث في سوريا نقطة تحول كبرى، وربما ساهم كونها عاطفية وميالة إلى المتابعة السياسية، في دفعها إلى محاولة القيام بأمر ما، ثم إلى التأثر بدعاية تنظيم الدولة الإسلامية، فدخلت إلى التدين عبر السياسة، إن جاز التعبير. وتبدو قصة شارمينا معاكسة تماماً، إذ أنّ تأثرها بوفاة والدتها دفعها نحو التدين، ثم ساهم سكنها مع خالها وجدتها بعد زواج والدها، في تعزيز علاقتها أكثر مع صديقاتها، وإلى السير معاً نحو التعرف على رواية تنظيم الدولة الإسلامية والقناعة بها؛ أي أنّها دخلت إلى السياسة عبر بوابة العاطفة الدينية.

من الواضح في حالة الطالبات الأربعة في مدرسة بيثنال غرين أنّ علاقة الصداقة الوثيقة بينهن ساهمت بدرجة كبيرة كديناميكية فاعلة في تبادل التأثير، والقناعة بالهجرة والالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية. في حين لعبت العلاقة الوثيقة بين التوأمتين زهرة وسلمى وشقيقهما الأكبر دوراً فاعلاً في التوجه الراديكالي، وساعد على ذلك وجودهن في عائلة متشددة دينياً.

وكما يحدث عادةً فإنّ البنات الأربعة ترّملن خلال فترة قصيرة، بعد مقتل أزواجهن. لكن الوحيدة التي تم رصد محادثات لها مع أهلها تعلن فيها عن حالة الإحباط واليأس وخيبة الأمل من الأوضاع هناك، هي خديجة، التي قُتلت لاحقاً، كما ذكرنا سابقاً.

تنحدر الفتيات من أصول آسيوية (بنغلادشية، باكستانية- هندية)، وأفريقية (صومالية وإثيوبية)، وإذ أضفنا إلى هذه الحالة نموذج الطبيبات السودانيات الثريات (من يحملن الجنسية البريطانية) اللواتي تحدثنا عنهن في فصل سابق، فإنّ حضور هذه الخلفيات الإثنية في النموذج البريطاني النسائي الجهادي واضح، بالإضافة، بالطبع، إلى البريطانيات اللواتي اعتنقن الإسلام، مثل سالي جونز وجراس دراي وغيرهما، والطبيبة شمس – كما ذكرنا في البداية- التي يعتقد أنّها ماليزية، لكنّها كانت تعيش في بريطانيا[21].

 

 

 

[1] Katrin Bennhold, ‘They were the girls you wanted to be like’: How teenage rebellion sends girls into the arms of ISIL, The New York Times, Tuesday,18  August, 2015.

[2]  Jamie Grierson and Vikram Dodd, British girl believed killed in Syria ‘was too scared to flee Isis’, The Guardian, 12 August 2016. At:https://www.theguardian.com/world/2016/aug/12/british-girl-believed-killed-in-syria-was-too-scared-to-flee-isis

and, William Watkinson, Bethnal Green schoolgirl who joined Isis believed to have been killed in an air strike, International Business Times, 11 August 2016, at:

http://www.ibtimes.co.uk/bethnal-green-schoolgirl-kadiza-sultana-who-joined-isis-raqqa-believed-killed-airstrike-1575604

 

[3] •Charlie Peat, Number of women leaving UK for ISIS on the rise, chilling figures show, 12 january 2016.

http://www.express.co.uk/news/uk/633746/Women-joining-ISIS-Syria-from-UK-rise-chilling-figures-show

[4]Lizzie Dearden, Isis’ British brides: What we know about the girls and women still in Syria after the death of Kadiza Sultana, Independent, 12 August 2016.

[5] Ibid

[6]إدانة أول بريطانية بتهمة الانضمام لتنظيم “الدولة الإسلامية،   BBCالعربية، 30 يناير 2016، على الرابط:

http://www.bbc.com/arabic/multimedia/2016/01/160130_yolanda_uk_isis

[7]بريطانيا: إدانة زوجين بالتخطيط لـ”هجوم انتحاري” في ذكرى تفجيرات قطارات أنفاق لندن، سي ان ان العربية، 30 ديسمبر 2015، على الرابط:

http://arabic.cnn.com/world/2015/12/30/uk-couple-convicted-terror-charges

[8] Erin Marie Saltman, Melanie Smith, ‘Till Martyrdom Do Us Part’: Gender and the ISIS Phenomenon, op.cit.

and: Carolyn Hoyle, Alexandra Bradford, Ross Frenett, Becoming Mulan: Female Western Migrants to ISIS, 2015. At:

http://www.strategicdialogue.org/wp-content/uploads/2016/02/ISDJ2969_Becoming_Mulan_01.15_WEB.pdf

[9] انظر: لهذه الأسباب الفتيات الأوروبيات يقعن في شباك مقاتلي “داعش”، موقع صوت روسيا، 15 أكتوبر 2014، على الرابط التالي:

https://arabic.sputniknews.com/arabic.ruvr.ru/news/2014_10_15/278713626/

[10]https://en.wikipedia.org/wiki/Glasgow_Caledonian_University

[11]  Gavin Madley, Heartbroken and hopeless: Parents of Scottish jihadi bride Aqsa Mahmood tell of their devastation at losing her to ISIS brainwashing, Mail online, 22 february 2016.

http://www.dailymail.co.uk/news/article-3457741/Heartbroken-hopeless-Parents-Scottish-jihadi-bride-Aqsa-Mahmood-tell-devastation-losing-ISIS-brainwashing.html

 

 

[12] Robert Mendick, and Robert Verkaik, British female jihadis sign up to the Islamic State’s all-women police force, The Telegraph, 7 september 2014. At:

http://www.telegraph.co.uk/news/uknews/terrorism-in-the-uk/11079386/British-female-jihadis-sign-up-to-the-Islamic-States-all-women-police-force.html

[13] about him: Old Bailey hearing for man accused of helping Cardiff teen Aseel Muthana join terrorists in Syria, Wales Online, 2 february 2015

http://www.walesonline.co.uk/news/wales-news/old-bailey-hearing-man-accused-8561118

[14] Gavin Madley, Heartbroken and hopeless: Parents of Scottish jihadi bride Aqsa Mahmood tell of their devastation at losing her to ISIS brainwashing, op.cit.

[15] Ibid.

[16] Emine Sinmaz and Sue Reid, She loved Rihanna, clothes and make-up… then fell under the spell of Islamists: Meet the FIRST British schoolgirl who fled to join ISIS, Mail online, 13 March 2015. At:

http://www.dailymail.co.uk/news/article-2994085/She-loved-Rihanna-clothes-make-fell-spell-Islamists-British-schoolgirl-15-fled-join-ISIS.html

 

 

[17]  Ben Ferguson, Left in the Dark: The Story Behind the Families of Three Girls Groomed by the Islamic State,  Vice News, 3 August 2015. At:

https://news.vice.com/article/left-in-the-dark-the-story-behind-the-families-of-three-girls-groomed-by-the-islamic-state

[18] See, about the School:

https://en.wikipedia.org/wiki/Whalley_Range_High_School

[19] Erin Marie Saltman, Melanie Smith, ‘Till Martyrdom Do Us Part’: Gender and the ISIS Phenomenon, op.cit.

[20]Ibid.

[21] انظر: تعرّف على فتيات داعش البريطانيات في سوريا، موقع قناة العالم، 15 أغسطس 2016، على الرابط : http://www.alalam.ir/news/1850496

 

إرسال التعليق