الثقافة والحضارة: نحو فهم أعمق للتمييز بين المفهومين

آخر الأخبار

الثقافة والحضارة: نحو فهم أعمق للتمييز بين المفهومين

رصد المغرب / الدكتور يونس بلمالحة

يثير موضوع الفرق بين الثقافة والحضارة جدلاً واسعًا، خصوصًا في السياق المغربي، حيث نجد خلطًا بين المفهومين في بعض الكتابات، ومن بينها كتابات  محمد شفيق، أحد أعلام الفكر الأمازيغي. إذ يرى شفيق أن المجتمع الأمازيغي كان أقرب إلى البداوة منه إلى الحضارة والتمدن، مفسرًا ذلك بعوامل الجغرافيا والمناخ. هذا الطرح يستدعي منا وقفة علمية، لفهم الفرق بين الثقافة والحضارة، وتقييم مدى صحة المبررات التي قدمها شفيق، مع الاستفادة من أطروحات مفكرين آخرين كأرنولد توينبي.

لفهم الفرق بين الثقافة والحضارة، يمكن الاستعانة بتصورات الفيلسوف علي عزت بيجوفيتش، الذي ميز بينهما بوضوح. فالثقافة ذات طبيعة رمزية وغير مادية، وتشمل الأفكار والقيم والمعاني التي يحملها المجتمع. كل شعب في العالم، مهما كان بسيطًا أو معزولًا، يمتلك ثقافة: الهوتو، التوتسي، المغاربة، الصينيون… جميعهم لديهم ثقافات تعبر عن هوياتهم.

أما الحضارة، فهي مادية، ملموسة، وتشمل الإنجازات التي يمكن قياسها ونقلها إلى الآخرين. إذا صنعنا أداة، أو أنجزنا قانونًا، أو شيدنا بناءً، فهذه عناصر حضارية. فالقانون حضارة لأنه يُ codifié ويُدوّن، والمعدات حضارة لأنها تُستخدم وتُطور، بينما القيم والمعاني التي تحرك هذه الإنجازات تُعد ثقافة.

على سبيل المثال: عندما نصنع ملعقة، فهذا إنجاز حضاري. أما طريقة الأكل، أو دلالاته الرمزية (كالأكل باليمين أو اليسار)، فهي ثقافة.

يقول محمد شفيق: “المجتمع الأمازيغي كان أقرب إلى البداوة منه إلى الحضارة والتمدن”، ويعلل ذلك بعوامل الجغرافيا والمناخ. هذه الأطروحة تحتاج إلى مراجعة نقدية. فهل الجغرافيا والمناخ يمكن أن يفسرا غياب الحضارة؟ أم أن هناك عوامل أخرى أكثر عمقًا؟

هنا، يأتي دور المفكر أرنولد توينبي، الذي قضى حياته في دراسة الحضارات، ووضع نظرية “التحدي والاستجابة”. يرى توينبي أن الحضارة لا تولد من المناخ والجغرافيا وحدهما، بل من قدرة المجتمعات على الاستجابة للتحديات الكبرى التي تواجهها. التحديات قد تكون طبيعية (كالزلازل في اليابان أو الفيضانات في هولندا)، أو بشرية (كالاستعمار في فلسطين أو القمع السياسي). لكن المجتمعات القادرة على تحويل هذه التحديات إلى فرص للابتكار هي التي تساهم في صنع الحضارة.

بعبارة أخرى، توينبي يرى أن المجتمعات التي تبرر ضعفها أو تخلفها بالمناخ والجغرافيا، إنما تقع في فخ التبرير، بدل أن تواجه الواقع بجرأة. فاليابان، رغم الزلازل، بنت حضارة متقدمة. وهولندا، رغم كونها بلدًا منخفضًا عن سطح البحر، استطاعت أن تبني مدنًا رائعة على الماء. إذن، الجغرافيا ليست حتمية، بل التحدي والاستجابة هما مفتاح الحضارة.

هناك مؤشر آخر على غياب العقلية الحضرية في المجتمع المغربي قبل ظهور الدولة المرابطية، وهو استمرار الانتماء القبلي في مقابل الانتماء إلى المدينة أو الفضاء الحضري. ففي حين كان الأندلسيون ينسبون أنفسهم إلى المدن الكبرى (الإشبيلي، القرطبي، المالقي)، كان المغاربة ينسبون أنفسهم إلى القبائل (الورياغلي، السوسي…). حتى اليوم، نرى أثر هذه العقلية في السلوك السياسي والاجتماعي، حيث تغلب الولاءات القبلية والمحلية على الانتماءات الوطنية.

انطلاقًا من هذا التحليل، نفهم لماذا أُطلق على المؤسسة الرسمية التي تهتم بالأمازيغية اسم “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية” وليس “للحضارة الأمازيغية”. فالثقافة الأمازيغية موجودة ومتجذرة في وجدان المغاربة، أما الحديث عن حضارة أمازيغية قائمة بذاتها، بمعنى التراكم المادي والمعرفي المنظم، فيحتاج إلى مراجعة دقيقة للسياقات التاريخية، مع الاعتراف بأن الدولة المرابطية شكلت نقطة التحول الكبرى في هذا المسار، حيث انتقل المجتمع الأمازيغي من البداوة إلى بناء الدولة والحضارة.

وهذا ليس عيبًا، بل هو مسار طبيعي في تطور الشعوب.

إرسال التعليق