
الزاوية البودشيشية والدولة المغربية: بين التصوف الجنيدي والتوظيف السياسي
رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح
يشهد المشهد الديني المغربي حضورًا قويًا للزوايا الصوفية، التي شكلت على مدى قرون عنصرًا محوريًا في التدين الشعبي، وتوازنات السلطة الدينية والسياسية. ومن بين أبرز هذه الزوايا اليوم، تبرز الزاوية القادرية البودشيشية التي تحظى باهتمام رسمي خاص من قبل الدولة المغربية. غير أن هذا الاهتمام يثير جدلاً واسعًا في الأوساط الأكاديمية والدينية حول مدى اتساق هذه الزاوية مع التصوف الجنيدي، الذي تُعلنه الدولة كمرجعية صوفية رسمية. وفي هذا السياق، يتناول هذا المقال العلاقة بين الزاوية البودشيشية والدولة المغربية، مركزًا على البُعد الأيديولوجي، السياسي، والتنظيمي، مع الإشارة إلى بعض مظاهر التناقض بين الخطاب الصوفي المعلن والممارسة الواقعية.
أولاً: التصوف الجنيدي كخيار ديني رسمي
اعتمدت الدولة المغربية ما يُعرف بـ”الثوابت الدينية”، وتشمل: المذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، والتصوف السني على طريقة الجنيد. ويُقصد بالتصوف الجنيدي نمطًا روحيًا يتسم بالزهد، والتواضع، والابتعاد عن الدنيا، والمجاهدة في طهارة النفس، بعيدًا عن التظاهر أو الاستغلال الدنيوي للدين.
وقد جاء هذا الاختيار كجزء من مشروع الدولة لتقنين الحقل الديني بعد أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية، حيث أصبح مطلوبًا بناء خطاب ديني معتدل، يحصّن المجتمع من الاختراقات السلفية الجهادية.
ثانياً: الزاوية البودشيشية كنموذج للتصوف الرسمي
برزت الزاوية القادرية البودشيشية باعتبارها النموذج الأقرب إلى رؤية الدولة للتصوف “المعتدل”، وقد تجلى ذلك من خلال:
- تبني خطاب سلمي، يُبعد مريديها عن الانخراط السياسي أو التفاعل مع الشأن العام المعارض.
- تنظيم ملتقيات دولية للتصوف، خاصة في موسم المولد النبوي، يحضرها وزراء ومسؤولون وأجانب.
- نشاطها الدولي، خاصة في أوروبا، حيث تُقدم الزاوية نموذجًا من الإسلام الروحي المنفتح، مما يُخدم الدبلوماسية الدينية المغربية.
- الطاعة للسلطة السياسية، مع وجود علاقة خاصة بين شيخ الزاوية ودوائر القرار.
كل هذه العوامل جعلت من البودشيشية أداة مثالية في يد الدولة لإعادة ضبط المشهد الديني، وفق ما يُعرف بـ”الحكامة الدينية”.
ثالثاً: التناقض بين التصوف الجنيدي والممارسة البودشيشية
رغم تبني خطاب التصوف الجنيدي، فإن ما يُلاحظ ميدانيًا هو ابتعاد ملحوظ للزاوية البودشيشية عن مقومات التصوف الزاهد، ويتجلى ذلك في:
- مظاهر الفخامة والبذخ في تنظيم المواسم واللقاءات الصوفية.
- الترويج لشخصية الشيخ بشكل قد يُغذي ثقافة التقديس، ويضعف روح المجاهدة الفردية.
- الاعتماد على الطقوس والاوراد كوسائل لجذب المريدين واستمالة ضعاف النفوس.
- بروز صراعات داخلية حول الزعامة والوراثة، وهو ما يتناقض مع روح التصوف القائم على التجرد والعبودية الخالصة لله.
- انخراط الزاوية في مشاريع اقتصادية وجمعوية كبرى، مما يثير تساؤلات حول الطابع الروحي المفترض.
هذا التباعد بين الخطاب الصوفي للزاوية البودشيشية، الذي يركّز على تزكية النفس والتجرد عن الدنيا، وبين ممارساتها الواقعية التي تتسم بالحضور القوي في المشهد السياسي والديني الرسمي، يطرح تساؤلات جوهرية تتعلق بطبيعة الدور الذي أصبحت تلعبه هذه الزاوية داخل النسق العام للدولة. فهل ما زالت الزاوية البودشيشية تُجسد روح التصوف الجنيدي، القائم على الزهد والانفصال عن السلطة ومغريات النفوذ، أم أنها تحوّلت إلى واجهة دينية وظيفية تخدم مشروع الدولة في الضبط الرمزي والاجتماعي؟
إن التأمل في المسار التاريخي للزاوية يُبرز تحوّلات لافتة، من خطاب روحي خالص إلى خطاب مزدوج، يجمع بين المرجعية الصوفية التقليدية والاصطفاف ضمن مقاربة الدولة في تدبير الحقل الديني. هذا التحول يُعزز من فرضية “وظيفية التصوف” في السياق المغربي، حيث تُستخدم الزوايا كوسائل للضبط الاجتماعي وتكريس الشرعية السياسية، لا سيما في مواجهة تيارات دينية أخرى، مثل السلفية أو الإسلام السياسي، التي قد تُهدد توازنات الدولة.
وعليه، فإن الزاوية البودشيشية، من خلال مشاركاتها المكثفة في المناسبات الرسمية، وانخراطها في مشاريع “الإسلام الوسطي”، تبدو أقرب إلى نموذج ديني وظيفي يواكب تطلعات الدولة نحو الأمن الروحي والاستقرار الاجتماعي، أكثر من كونها استمرارية حقيقية للتصوف الجنيدي الذي ارتبط تاريخيًا بالمجاهدات الفردية والانفصال عن السلطة.
رابعاً: أسباب تفضيل الدولة المغربية للزاوية البودشيشية دون غيرها: تحليل في ضوء الصراع الرمزي مع الزاوية الياسينية
قد يُثار التساؤل حول السرّ الكامن وراء الحظوة الاستثنائية التي تحظى بها الزاوية البودشيشية من طرف الدولة المغربية، خاصة إذا ما قورنت بزوايا صوفية تاريخية أخرى. ويمكن تلخيص هذا التفضيل في مجموعة من الأسباب البنيوية والوظيفية والسياسية، إلا أن القراءة المعمقة تبرز كذلك بُعدًا استراتيجيًا يتعلّق بالصراع الرمزي والسياسي بين الزوايا، خاصة بين الزاوية البودشيشية من جهة، وزاوية جماعة العدل والإحسان التي أسسها الشيخ عبد السلام ياسين من جهة أخرى.
- القدرة التنظيمية العالية:
تُعد الزاوية البودشيشية من أكثر الزوايا المغربية تنظيمًا وانضباطًا، سواء من حيث البنية الداخلية أو من حيث التدبير الإعلامي والبشري لأنشطتها. فقد استطاعت هذه الزاوية أن تطوّر نموذجًا مؤسساتيًا حديثًا، يُوظّف الوسائل الرقمية والإعلامية، ويعتمد على أطر مثقفة ومتخصصة، مما يجعلها قادرة على مواكبة التحولات الاجتماعية، وخدمة الرهانات الرسمية، خصوصًا في مجال “الأمن الروحي”.
- الحياد السياسي وغياب الخطاب النقدي:
تتميز الزاوية البودشيشية بابتعادها التام عن أي خطاب سياسي أو معارض للسلطة، بل إنها تكرّس مبدأ الطاعة والولاء، وهو ما جعلها حليفًا مريحًا للدولة. في المقابل، فإن الزاوية الياسينية (جماعة العدل والإحسان) تبنت خطابًا صداميًا مع النظام، وراكمت موروثًا نقديًا قويًا، تمثل في رسائل الشيخ عبد السلام ياسين، خصوصًا رسالته الشهيرة “الإسلام أو الطوفان”، والتي شكلت قطيعة رمزية وسياسية مع النظام الحاكم.
- انخراط الزاوية البودشيشية في الدبلوماسية الروحية:
تقوم الزاوية البودشيشية بدور فعّال في ما يُعرف بـ”الدبلوماسية الروحية”، من خلال حضورها في المنتديات الدولية، وتنظيمها لمواسم صوفية عالمية تستقطب الزوار من مختلف البلدان. وهذا الانفتاح العالمي جعل منها أداة ناعمة لترويج صورة “الإسلام المغربي المعتدل”، وهو ما ينسجم مع استراتيجية الدولة في تصدير نموذجها الديني المعتدل كجزء من قوتها الناعمة.
- قيادة مركزية منضبطة:
تتميز الزاوية بقيادة موحّدة ومنضبطة، تتمثل في الشيخ جمال الدين القادري بودشيش، الذي نجح في المحافظة على وحدة الزاوية وتوجيهها وفق منطق التدرج والطاعة والتسليم. بخلاف زوايا أخرى عانت من انقسامات داخلية أو ضعف في الهيكلة، فإن البودشيشية حافظت على صورة موحدة ومنسجمة، وهو ما يُفضّله النظام السياسي الذي يسعى إلى مخاطب موثوق به وقابل للتوجيه.
- قابلية التوظيف في الأمن الروحي ومواجهة التطرف:
أثبتت الزاوية البودشيشية نجاعتها في خدمة برامج الدولة المتعلقة بمحاربة التطرف والإرهاب، حيث تُقدَّم كمثال على “التدين السلمي” و”الإسلام الصوفي” الذي يُروّج لقيم المحبة والتسامح ونبذ العنف. وهذا التوظيف يتناقض كليًا مع النموذج الذي تمثله جماعة العدل والإحسان، والتي تُعتبر في نظر الدولة مصدرًا محتملاً للقلق بسبب خطابها التغييري وتعبئتها الجماهيرية الواسعة.
الصراع الرمزي مع العدل والاحسان:
إن المفاضلة بين الزاويتين لا تخلو من خلفية صراعية رمزية، إذ تمثل الزاوية البودشيشية الوجه المقبول، “المُدجَّن”، والمندمج في البنية السلطوية، بينما تمثل الزاوية الياسينية نموذجًا “مزعجًا” بحكم مشروعها السياسي التغييري. ومن هذا المنطلق، فإن تعزيز حضور الزاوية البودشيشية ليس مجرد قرار ديني أو اجتماعي، بل هو كذلك خيار سياسي يهدف إلى تحجيم النفوذ الرمزي والسياسي لجماعة العدل والإحسان، من خلال تقديم بديل صوفي “مطيع”، يحافظ على التوازن الديني والاجتماعي دون المساس بشرعية النظام.
إن تفضيل الدولة للزاوية البودشيشية ليس خيارًا عشوائيًا أو محضًا تقنيًا، بل هو جزء من هندسة دينية دقيقة، تهدف إلى إنتاج “إسلام رسمي” خاضع للضبط والمراقبة، بعيد عن كل نزعة احتجاجية أو استقلالية. وفي هذا السياق، يُفهم دعم الدولة للبودشيشيين كاستراتيجية لمواجهة التيارات الإسلامية غير المنضبطة، وعلى رأسها التيار الياسيني، الذي ظل يمثل “الآخر المزعج” في الحقل الديني والسياسي المغربي.
تُعد الزاوية البودشيشية اليوم من أبرز الفاعلين في مشهد “الحوكمة الدينية” بالمغرب، حيث منحتها الدولة موقعًا محوريًا في استراتيجيتها لمواجهة الفكر المتطرف، وتعزيز التدين الوسطي القائم على التسامح والانضباط. ويبرز هذا التموقع في دعمها الرسمي، والمواكبة الإعلامية التي تحظى بها، إضافة إلى انخراطها المؤسسي في تنظيم الملتقيات العالمية للتصوف التي تُشرف عليها مؤسسات تابعة للدولة، وتُروج لخطاب ديني يُراهن على الأمن الروحي والاجتماعي، ويُحاكي مفردات “الإسلام المغربي” الذي تسعى الدولة إلى تكريسه كخيار استراتيجي جامع.
غير أن هذا الحضور البارز للزاوية البودشيشية لا يخلو من مفارقات دينية واجتماعية؛ إذ تمثل، من جهة، نموذجًا لما يمكن تسميته بـ”التصوف الرسمي”، وهو تصوف مؤسّس على التماهي مع السلطة، ومفارق في كثير من ممارساته للموروث الصوفي العريق، خصوصًا التصوف الجنيدي الذي عرف بالزهد والتجرد ورفض التملق للسلطان. فبدلًا من الانكفاء على الذات في خلوات روحية تعيد صياغة العلاقة مع الحقّ، نجد تصوفًا إعلاميًا احتفاليًا، يتمحور حول شخص الشيخ، ويُقدم الولاء السياسي كجزء من المسار التربوي للمريد.
هذا التوظيف السياسي للتصوف، وإن أسهم في تعزيز الاستقرار ومحاصرة الخطابات المتطرفة التي تهدد السلم المجتمعي، إلا أنه يطرح تحديات جوهرية على مستوى الصدق الديني؛ إذ يصبح التدين أداة للتكيف الاجتماعي بدل أن يكون مسارًا وجوديًا للتحول الباطني. كما يطرح إشكالات في الفاعلية الروحية، حيث تُختزل التجربة الصوفية في طقوس جماعية ومواسم احتفالية قد تفتقر إلى العمق التأملي والمعاناة الروحية التي كانت تُميز تجارب المتصوفة الأوائل. ومن جهة ثالثة، فإن هذا النمط من التصوف المؤطر رسميًا يواجه أزمة مصداقية اجتماعية، خاصة لدى فئات من الشباب الباحثين عن تجربة دينية أصيلة تُلبي توقهم للمعنى، وتنسجم مع قيم العدالة والحرية والكرامة، وهي القيم التي غالبًا ما يغيب عنها خطاب التصوف الرسمي المُنضبط لضرورات “الاستقرار السياسي”.
إن الإشكال الأكبر في هذا السياق يتمثل في تحويل التصوف من تجربة فردية للتحقق والارتقاء، إلى وسيلة للضبط الاجتماعي، مما قد يُفرغه من محتواه التربوي العميق، ويُحوّله إلى شكلٍ بلا روح، يُكرّس الطاعة دون بصيرة، ويُنتج مريدين لا سالكين
إرسال التعليق