
السلفية الجهادية بين التكيف الإيديولوجي والانخراط الحقوقي
رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح
المقدمة
شهدت الحركات السلفية الجهادية في السنوات الأخيرة تحولات ملحوظة في بنيتها الفكرية وسلوكها السياسي والاجتماعي، مما يستدعي تحليلاً معمقاً لهذه الديناميات الداخلية المعقدة. تعكس هذه التحولات رغبة بعض الفاعلين ضمن هذه التيارات في التفاعل مع المتغيرات الواقعية واستيعاب التحديات الجديدة، لا سيما في أعقاب موجة “الربيع العربي”.
التحولات الإيديولوجية والسلوكية والاستراتيجية
الحركات السلفية الجهادية قد شهدت نوعًا من “البراغماتية الإيديولوجية”، التي سمحت لها بإعادة توجيه بوصلتها الفكرية وتكتيكاتها الحركية لتتوافق مع المعطيات الجديدة. يمكن تحليل هذا التحول من خلال ثلاثة مستويات رئيسية:
1. المستوى الإيديولوجي
أولاً: من التوحيد الصِدامي إلى التوحيد المصلحي: بداية التحول العقدي
التقليد السلفي الجهادي ارتكز منذ نشأته على عقيدة الولاء والبراء الصدامي، واعتبر أن الانخراط في مفاهيم مثل “العدالة”، و”الحرية”، و”حقوق الإنسان”، هو تنازل عقدي أو نوع من “المداهنة” للأنظمة “الطاغوتية” أو حتى للكفر العالمي. وكان يُنظر إلى القوانين الوضعية والمنظمات الحقوقية باعتبارها “آليات تغريبية” تتنافى مع الشريعة. فمثلاً، أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني وغيرهم من المنظرين الكبار كانوا يؤكدون على مركزية العقيدة ورفض الانخراط في أي خطاب إصلاحي أو ديمقراطي.
لكن بعد انهيار بعض الأنظمة (مثل ليبيا وتونس واليمن)، واحتكاك الفصائل الجهادية بالفضاء العام الجديد، بدأنا نلاحظ تحولاً خطابياً لا يمكن فهمه إلا في إطار “براغماتية إيديولوجية” فرضها الواقع.
ثانياً: تبني لغة الحقوق دون تغيير العقيدة؟
ما حدث لم يكن “مراجعة فكرية” بالمعنى الذي عرفته الجماعة الإسلامية في مصر، بل كان إعادة تشكيل للغة الخطاب دون المساس بالبنية العقدية الأساسية. بعض الحركات الجهادية – خاصة تلك التي خاضت تجارب ميدانية معقدة كجبهة النصرة في سوريا أو أنصار الشريعة في ليبيا – بدأت تستعمل مصطلحات مثل:
· “المظلومية السياسية”
· “العدالة الاجتماعية”
· “التهميش”
· “قمع الحريات”
· “الأنظمة الديكتاتورية”
هذه اللغة كانت من قبل حكراً على التيارات الإسلامية الحركية أو الليبرالية. فبدلاً من خطاب “تحكيم الشريعة أو القتال لإعلاء كلمة الله”، صار الخطاب يُصاغ أحياناً ضمن سرديات أقرب إلى “الدفاع عن كرامة المسلمين” و”حماية المستضعفين”، ما يُمكِّن هذه الجماعات من التقاطع مؤقتاً مع أجندات مدنية أو حقوقية دون إعلان تنازل عقدي.
ثالثاً: التصالح المؤقت مع منظمات حقوق الإنسان
في بعض السياقات، وصل الأمر إلى التعامل البراغماتي مع المنظمات الحقوقية الدولية، أو على الأقل محاولة التأثير في الرأي العام العالمي من خلال “رسائل مفتوحة”، أو بيانات تنفي ارتكاب مجازر ضد المدنيين. مثلًا:
· بعض قيادات جبهة النصرة (قبل تحولها إلى هيئة تحرير الشام) كانوا يتحدثون إلى الإعلام الغربي حول رغبتهم في “حماية المدنيين” أو “إقامة حكم راشد”!
· تنظيم الدولة نفسه، على الرغم من عنفه الشديد، حاول أحياناً تسويق بعض عملياته بلغة “الرد على الجرائم الأمريكية أو الروسية”، مستعملاً مفردات من الخطاب الإنساني العالمي.
هنا نلاحظ محاولة “تجميل العنف الجهادي” عبر أدوات خطابية عالمية، وهو تحول مهم يُظهر أن هناك استيعاباً – حتى وإن كان انتقائياً – لمنطق الصورة العامة والشرعية السياسية.
رابعا: حدود هذا التحول
رغم هذا التحول اللغوي، إلا أن أغلب التيارات الجهادية لا تزال تعتبر:
· الديمقراطية كفراً
· المنظمات الحقوقية أدوات صليبية أو غربية
· حقوق الإنسان مفهوماً غربياً منحرفاً
لكنها فقط لا تُعلن هذه القناعات في كل المناسبات، بل تخفيها أحياناً حين ترى أن التصعيد الأيديولوجي لا يخدم اللحظة السياسية أو التكتيك الميداني. وهذا ما سماه البعض بـ”التقية الجهادية” أو الواقعية المتوحشة.
2. المستوى الحركي: من العزلة إلى الانخراط في الفعل المدني
شهدت السنوات الأخيرة تحوّلاً لافتاً في سلوك الفاعلين السلفيين الجهاديين على المستوى الحركي، تمثل في انخراط غير مسبوق في الفضاءات العمومية والحراكات الاحتجاجية، ما يعد خرقًا صريحًا لأحد أبرز التابوهات التي طبعت مسارهم التاريخي: رفض المشاركة في العمل المدني والسياسي باعتباره “تغريباً عن المنهج الشرعي” و”موالاة للطواغيت”.
لكن هذا الموقف عرف انعطافة مفصلية، خاصة بعد سنة 2011، مع بروز دينامية “حركة 20 فبراير”، التي مثّلت لحظة سياسية واجتماعية فارقة دفعت العديد من الفاعلين السلفيين الجهاديين إلى إعادة تقييم موقعهم الحركي داخل المجتمع. ويمكن رصد هذا التحول من خلال مجموعة من المؤشرات:
1. المشاركة في الوقفات والمسيرات
بدأت مجموعات سلفية محسوبة على التيار الجهادي، خاصة ممن أُفرج عنهم في إطار عفو ملكي أو ضمن “مبادرات المصالحة”، في المشاركة الميدانية في عدد من الوقفات الاحتجاجية، مثل:
· الوقفات المنددة بالاعتقال السياسي لسجناء السلفية الجهادية، والتي نظّمت في عدد من المدن المغربية، أبرزها سلا والدار البيضاء وفاس.
· المشاركة في مسيرات اليوم العالمي لحقوق الإنسان، وهي مناسبة كانت سابقاً تعتبر “بدعة غربية” وفق الأدبيات السلفية الجهادية، لكن بعض رموزهم حضروها جنباً إلى جنب مع منظمات يسارية وعلمانية مثل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
2. الحضور في الفعاليات الحقوقية والمدنية
لم يقتصر الحضور على الشارع، بل تجاوزه إلى المساهمة في الندوات والملتقيات الحقوقية. ففي أكثر من مناسبة، استُضيف رموز من التيار السلفي الجهادي سابقاً، مثل محمد الفيزازي وحسن الكتاني، في ندوات نظمتها هيئات مدنية تناقش قضايا السجون، التعذيب، ومطالب الإصلاح، وهو ما كان يُعد في السابق “ولاءً للعلمانيين”.
3. تأسيس والانخراط في جمعيات حقوقية ومدنية
في تحول أكثر دلالة على الانخراط المؤسسي، أسس بعض رموز التيار السلفي، بعد الإفراج عنهم، جمعيات مدنية ذات طابع حقوقي، منها:
· جمعية “النصيحة” بمدينة تطوان التي أنشأها الشيخ الفيزازي، والتي كانت تقدم نفسها كإطار مدني للدفاع عن السلفيين المعتقلين.
· مبادرات مشابهة في مدن أخرى، حاولت خلق شرعية جديدة للتيار السلفي، تقوم على المطالبة بالحقوق والمظلومية، عوض التركيز على الخطاب الجهادي التقليدي.
4. التحالفات الظرفية مع فاعلين مدنيين
اتجه بعض الفاعلين السلفيين إلى بناء تحالفات مرحلية مع نشطاء من المجتمع المدني، خصوصاً في القضايا المرتبطة بالحريات العامة والاعتقال السياسي. وقد ظهرت هذه التحالفات في بيانات مشتركة، أو في التنسيق لتنظيم أنشطة ميدانية أو رفع مذكرات مطلبية للجهات الرسمية.
دلالات هذا التحول
يُعبّر هذا التحول الحركي عن نقلة نوعية في استراتيجية التيار السلفي الجهادي، تتمثل في:
· محاولة كسر العزلة التي لازمته تاريخيًا، والانفتاح على قضايا الشأن العام.
· السعي لاكتساب شرعية ميدانية جديدة، لا تستند فقط إلى المرجعية العقدية، بل إلى المظلومية والانخراط في قضايا المجتمع.
· إعادة بناء صورة “السلفي المدني” بدل “السلفي الجهادي”، في محاولة لتغيير النظرة الأمنية والوصم المجتمعي.
.
3. المستوى الاستراتيجي
لا يمكن عزل هذا الانفتاح عن التحولات الجيوسياسية التي شهدها العالم الإسلامي بعد عام 2011. فقد أدت الثورات والصراعات المسلحة وتراجع فاعلية النظم السياسية التقليدية إلى فراغات أمنية ومؤسساتية. استغلت بعض الحركات الجهادية هذه الفراغات لتوسيع مجال حركتها، ليس فقط من خلال العنف المسلح، بل أيضًا عبر النفاذ إلى المجتمعات المحلية والخطاب العام. هذا يشير إلى استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز النفوذ والتأثير من خلال وسائل متعددة، بما في ذلك الانخراط في القضايا الاجتماعية والحقوقية.
السياق المغربي: انخراط السلفية الجهادية في العمل الحقوقي
شهد الحقل الحقوقي والمدني في المغرب خلال السنوات الأخيرة تحولًا لافتًا تمثل في انخراط بعض المنتمين إلى التيار السلفي الجهادي، خاصة بعد موجة الاعتقالات التي أعقبت أحداث 16 مايو 2003. تجلى هذا الانخراط إما من خلال تأسيس جمعيات ذات طابع اجتماعي أو ثقافي، أو من خلال المشاركة النشطة في الندوات والمنتديات التي تُعنى بقضايا حقوق الإنسان والحريات العامة. يُعد هذا التحول تطورًا نوعيًا وغير مسبوق في مسار التيار السلفي الجهادي، الذي ظل تاريخيًا يُعرف برفضه القاطع للمؤسسات الديمقراطية والآليات المدنية، معتبرًا إياها جزءًا من “الجاهلية الحديثة” أو “المنظومة الطاغوتية”
لا يمكن فهم هذا الانخراط بمعزل عن السياق السياسي والاجتماعي المغربي، الذي شهد بعد حراك 20 فبراير 2011 انفراجًا نسبيًا في ملف المعتقلين السلفيين، حيث تم الإفراج عن عدد منهم في إطار عفو ملكي أو مراجعات فكرية. وقد وفر هذا الظرف بيئة جديدة دفعت بعض رموز السلفية الجهادية إلى إعادة النظر في وسائل التفاعل مع الدولة والمجتمع، دون أن يعني ذلك بالضرورة تخليهم عن قناعاتهم العقدية الجوهرية. بمعنى آخر، ما نشهده هو نوع من “البراغماتية الجهادية” أو ما يمكن تسميته بـ”التحول الأدواتي” الذي يسمح باستعمال الأدوات الحقوقية والمدنية ـ بما فيها خطاب المظلومية، والدعوة إلى المحاكمة العادلة، وحرية التعبير، وحتى الديمقراطية الإجرائية ـ كوسائل لتحقيق مكاسب مرحلية، كرفع التهميش، والترويج لبراءة الذات، والدفاع عن “المشروع الإسلامي”، دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى تبنٍ حقيقي للقيم الليبرالية أو القطيعة مع الجذر العنيف للفكر الجهادي
من الناحية النظرية، يمكن تفسير هذا التحول من خلال ما يسميه البعض بـ”العقلانية الاستراتيجية”، حيث يعمد الفاعل الجهادي إلى تعديل سلوكياته العامة بما يتلاءم مع البيئة المحيطة من أجل البقاء أو كسب شرعية جديدة، دون أن يتخلى عن أهدافه الكبرى. فالسلفيون الذين كانوا يرفضون، بل يكفرون، العمل الحقوقي والديمقراطي، باتوا اليوم يستندون إلى هذه المنظومة نفسها للطعن في شرعية الدولة أو لكسب دعم شعبي، متجاوزين بذلك ثنائية “الولاء والبراء” الصارمة التي كانت تطبع خطابهم سابقًا.
أما من حيث الأثر، فإن هذا الانفتاح قد أدى إلى تحولات داخلية في بنية الخطاب السلفي الجهادي بالمغرب، حيث ظهرت تمايزات بين تيارات أكثر راديكالية وأخرى تميل إلى نوع من “السلمية السياسية”، خصوصًا في ظل محاولات بعض رموزه الاندماج في المشهد العمومي كفاعلين مدنيين أو حتى فاعلين سياسيين في بعض الحالات. إلا أن هذا المسار يظل محفوفًا بالشكوك، نظرًا لتضارب الخطاب بين ما يُعلن في المجال العام وما يُروج أحيانًا في الدوائر المغلقة أو على منصات التواصل.
تساؤلات حول مستقبل الحركات الجهادية
إن المراجعات الفكرية الجزئية التي باشرتها بعض التيارات الجهادية تمثل محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين الجهاد والمجتمع، وبين العقيدة والعمل السياسي. وهي مراجعات محفوفة بإشكالات عميقة، أهمها مدى اتساقها الداخلي، وحدود قبولها من قبل الجسم الجهادي ككل، فضلًا عن موقف باقي الفاعلين الإسلاميين منها. كما تثير هذه المراجعات تساؤلات حول مستقبل الحركات الجهادية: هل نحن أمام بداية “تمدين” للفكر الجهادي؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تكتيكًا ظرفيًا سرعان ما يُستبدل بخطاب أكثر تصلبًا حين تتغير الشروط السياسية؟
إرسال التعليق