
الشاذلية وظلامياتها وامتداداتها
رصد المغرب / الدكتور محمد وراضي
حتى نقف حقيقة لا وهما، وواقعيا لا خياليا على ضلاليات وعلى ظلاميات الطرق الصوفية المتفرعة عن الشاذلية لدينا بالمغرب – وهي كلها متفرعة عنها ما عدا طريقتين: القادرية والتجانية – علينا أن نتصور شجرة ما، مع استحضار ما تقتاته من أنواع الأسمدة، أو ما تتغذى به من أملاح معدنية. إلى جانب استحضار جذورها وجذوعها وفروعها وأغصانها وأوراقها وثمارها، على اعتبار أن هذه الأخيرة توجد بين احتمالات عدة: إما أنها مرة المذاق وإما أنها لذيذة. وإما أنها غير لذيذة وغير مرة في الآن ذاته. بحيث إننا كمتناولين لثمار أشجار بعينها، نميل طبيعيا إلى الحلو منها دون المر. إذ لا يمكن لنا في جميع الأحوال تخطي التفاح أو الموز إلى العلقم أو الحنظل! أو تخطي المسك إلى الكافور كما ورد عند ابن زيدون في رسالته الهزلية المشهورة.
فإن كان أبو الحسن الشاذلي هو الشجرة التي تعنينا ككل. فإن هذا يدل على أننا لا نهتم فيها ببعض دون بعض. أو نهتم بجزء منها دون أن نهتم ببقية الأجزاء. وكتجنب منا للإطالة، لا بد من التركيز هنا في عجالة على عنصرين اثنين: على ما كانت تقتاته. وعلى الثمار التي تجنى منها بعد النضج المطلوب المرتقب.
إن ما تقتاته باختصار، عبارة عن قناعات الرجل من أفكار وآراء وخواطر، ومن ممارسات تعبدية مستقاة من مصدرين اثنين: مصدر مباشر هو شيخه أو شيوخه. ومصدر غير مباشر هو محصوله المعرفي الذي لا شك أنه يشمل المقروء والمسموع، وكل من انتهى إلى إدراكه في المقام والترحال وفي مختلف المناسبات.
أما الثمار التي تجنى منها، فلم تكن، ولن تكون غير ما ينسب إليه من أقوال ومن أفعال تعبدية، ومن كرامات خارقة، ومن مقطوعات أدبية دينية كصيغ للصلاة على المختار، وكصيغ للاستغفار والشكر والثناء والتمجيد والتضرع والدعاء والرجاء والتسبيح والحمدلة أو التحميد.
بخصوص ما كان يقتاته، أو بخصوص مصدر قناعاته وانشغالاته الصوفية، نقف قليلا عند سلسلته، أو عند سند طريقته.
فقد أخذ عن أبي عبد الله محمد المعروف بابن حرازم. وهذا عن أبي محمد صالح الدكالي. وهذا عن أبي مدين شعيب الأندلسي. وهذا عن أبي يعزى يلنور. وهذا عن أبي شعيب الأزموري. فوصولا إلى الجنيد، فمرورا بحبيب العجمي. فانتهاء بسيد الناس ص.
وها هنا نتساءل: ما الذي نستفيده من مسمى “سلسلة” الشاذلي، أو من مسمى “سنده”؟ وبالتالي من مسمى “سلسلة” أو مسمى “سند” جميع الطرق الصوفية المغربية المعروفة على الإطلاق؟
1- الادعاء بأن الشيخ المؤسس لطريقة صوفية ما، لا يشتغل إلا بما وصله عن النبي ص من خلال أولياء صالحين كلهم مريدون وكلهم مشايخ! إنهم مريدون أثناء الطلب أو التلقي. ثم أصبحوا بعد حصولهم على إذن مرشديهم شيوخا مربين.
2- كل أسانيد الطرق الصوفية المغربية تقريبا تلتقي- كما يزعم الزاعمون – عند الجنيد بن محمد البغدادي المتوفى سنة 297ه – 910م. والجنيد من رواد التصوف الأوائل، يعني من المؤسسين للفكر الصوفي ولبعض الممارسات العملية الصوفية حتى لا نظلم الرجل. مما لا نستغرب معه قوله: “الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام” ! كما أننا لا نستغرب معه قوله: “من لم يحفظ القرآن الكريم، ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة” !
فحتى يصبح أحدهم شيخا يربي المريدين، ويرشد الخلق إلى الحق كما يقال، يلزمه أن يتوفر على الشروط التي حددها الجنيد منذ حين بوضوح تام.
أ- أن يحفظ القرآن الكريم. وحفظه لا يعني مجرد قدرته على استظهاره. وإنما يعني كذلك معرفة حلاله وحرامه. وناسخه ومنسوخه. وخاصه وعامه. ومطلقه ومقيده. ومجمله ومفصله. ومعاني آياته.
ب- أن يكون على علم بحديث المختار ص. والحديث – كما هو معروف – يتناول موضوعات متعددة كالمعتقدات والعبادات والحكم والأخلاق والمعاملات.
ج- أن يقتدي بالرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه. والاقتداء به ندرك معناه في مثل قوله المجمل لا المفصل ص: “أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي. عضوا عليها بالنواجد، وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل بدعة ضلالة” .
مما ينتج عنه وجوب أدائنا لمختلف العبادات كما كان يؤديها. بما فيها قراءة النظم الكريم الذي علينا قراءته كما كان يقرأه. وإلا وجدنا أنفسنا مبتدعين! أو مشتغلين من حيث ندري، ومن حيث لا ندري بالمحدثات التي أحدثها غيرنا! والإحداث في الدين للتذكير لا يصدر إلا عن الجاهلين به. إذ الله تعالى لا يعبد عن جهل، وإنما يعبد عن علم.
3- يلزم أن نستفيد من وجود سلاسل أو أسانيد صوفية – هذه التي تنتهي جميعها إلى النبي ص – كيف أن ما يشتغل به المتصوفة بالتحديد هو عينه ما يشتغل به من تنتهي إليه الأسانيد أو السلاسل. يعني أن صيغ الأذكار المختلفة المنسوبة إلى مختلف الشيوخ لم تكن غير صيغ منسوبة إليه ص. إضافة إلى الحركات التي يقوم بها الشيوخ وأتباع الشيوخ عندما يؤدون بعض الأذكار! غير أن الواقع يقول عكس ما نريد تأكيده هنا كما سوف نرى!
ثم نقول: هل رجال سلسلة الشاذلي، وبالتالي سلسلة الطرق المتفرعة عن طريقته، يتوفرون فعلا على الشروط المشار إليها قبله، والتي تجعل منهم شيوخا قادرين على توجيه الخلق إلى الحق بعيدا عن الابتداع واستنادا إلى سنن المصطفى ص بالتحديد؟
لنقل بدون ما تحفظ: إن محمدا المعروف بابن حرازم، أو بابن حرزهم، كأحد شيخي الشاذلي ضلالي ظلامي! إنه غزالي الطريقة! وضلاليات وظلاميات الغزالي تقدم لنا إبراز بعض منها، وعليه فإننا لا نرى العودة إليها حتى لا نقع في التكرار.
أما شيخه الثاني الذي كان يعتز به، وفي الوقت ذاته يكثر من امتداحه والثناء عليه، فهو عبد السلام بن مشيش. هذا الصوفي المغربي الذي يعد بمثابة الأب الروحي للطريقة الشاذلية ولكل الطرق المتفرعة عنها حتى الآن.
إنه شيخ يحيط به الغموض من كل جانب، ولو أن هناك شذرات عنه هنا وهناك. فإن قيل بأنه ولد عام 559ه أو عام 563ه، فإن التفاصيل عن حياته غير متوفرة، فلا يكفي القول بأنه حفظ القرآن الكريم وعمره لم يتجاوز إثنتا عشرة سنة ، ثم لا يكفي القول بأن أشهر مشايخه في الدراسات العلمية هو الولي الصالح الفقيه العلامة الحاج أحمد الملقب ب”أقطرن” . إذ أننا في حاجة إلى معرفة نشاطه العلمي، أو ممارساته الصوفية، حتى نستطيع إصدار أحكام موضوعية عليه من خلال قناعاته ومن خلال ممارساته التعبدية المفترضة تلك! فهل اتجه فور انتهائه من تلقي علوم مختلفة كالنحو واللغة والفقه والأصول، وعلوم التفسير والحديث – هذا إن كان قد تلقاها – هل اتجه إلى التدريس كي يساهم في نهضة بلده تماما كالقاضي عياض؟ أم إنه انزوى بعيدا عن التدريس ومارس بعض الأعمال التجارية أو الفلاحية حتى يكسب قوت يومه، وحتى يتمكن من إعالة أسرته الصغيرة من باب السعي وراء الكسب الحلال؟ أم إنه التحق في سن مبكر بقافلة المتصوفة الذين أخذوا في التكاثر والتوالد، خاصة بعد انتشار كتاب “إحياء علوم الدين” للغزالي في الربوع المغربية؟ وما الذي أخذه بالتحديد عن شيخه “أقطرن”؟ نقصد في العلم والتصوف؟ فهل لديه أوراد ووظائف كان يشتغل بها كأساس لطريقة صوفية سيأخذها عنه تلميذه الشاذلي؟
وحتى يدفع عنه صاحب كتاب “المطرب في مشاهير أولياء المغرب” تهمة موضوعها ضعف حصيلته العلمية، إن لم يكن مجرد حامل لكتاب الله عز وجل كأبي شعيب الدكالي، قال: “وهذا يخالف ما سيأتي من أنه اعتراه جذب منعه حسه وهو ابن سبع سنين، غير أن صلاته المشيشية، تعرب لنا عن حاله وتحقق لنا أنه كان رجلا عالما متمكنا في ذلك، لأن هذه التصلية لا يستطيع إنشاءها إلا ذو علم” !
و”التصلية” عند الكاتب هنا، وعند غيره من الطرقيين المغاربة الضلاليين،صيغة من صيغ الصلاة على المختار. وهذا المسمى ب”التصلية” لنا بخصوصه هذه الملاحظات:
أ- فعل صلى معناه دعا، أو شوى، فصلى عليه معناه: دعا له بالخير. وصلى الشيء في النار وبها وعليها معناه شواه! فلا يعقل أن يكون مفهوم “التصلية” إذن مطابقا لمفهوم “الصلاة”! وفي النظم الكريم قوله تعالى: “وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم” !
ف”تصلية جحيم” إدخال في النار! و”قيل إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها! يقال: أصلاه النار وصلاه أي جعله يصلاها، والمصدر هاهنا أضيف إلى المفعول. كما يقال: لفلان إعطاء مال، أي يعطي المال، وقرئ: “وتصلية” بكسر التاء، أي ونزل في تصلية جحيم”! هذا عند الإمام القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن”.
فلا يصح إذن تسمية صيغة موضوعة من صيغ الصلاة على سيد الناس ب”التصلية”! ربما لأنها بالنسبة لمن أطلقوا عليها هذا الاسم “تصلية” بالفعل! ثم إنها “تصلية” بالنسبة لجميع المبتدعين الذين اندفعوا وراء ابتكار صيغ للصلاة على المختار، ليتم لهم، ولمن اقتدى بهم ووقرهم توظيفها على الأتباع والمريدين، إلى حد أن الاشتغال بها يبعد الكثيرين عن الاشتغال بالصيغ المسنونة الواردة عنه ص! وإلا فأي دور للمبتدعة والضلاليين غير العمل على إماتة السنن بقدر ما يخترعونه وبقدر ما يروجون له من بدع؟
ب- بين يدي الآن كتاب عنوانه: “النفحة العلية في أوراد الشاذلية”. والصلاة المنسوبة إلى ابن مشيش في طليعة هذه الأوراد. مما يعني أن جميع مشايخ الطرق المتفرعة عن الشاذلية ملزمون باعتبار الصلاة المشيشية وردا من الأوراد التي عليهم الاشتغال بها، حتى ولو لم يلزموا بتلاوتها الأتباع والمريدين! إنها إذن من أوراد الجزولية والعيساوية والحمدوشية والدرقاوية والكتانية كمجرد مثال.
ج- كررت مرارا وأكرر الآن كيف أن قول الرسول وفعله وتقريره في الدين، أفضل من قول ومن فعل ومن تقرير أي كان؟ وهذا الحكم هو نفسه حكم الأطفال المتعلمين! وهو نفسه حكم الشبان والكهول والشيوخ في العالم الإسلامي برمته! إذ لو وجه إلى الراحل عبد السلام بن مشيش غفر الله له بخصوص الحكم المذكور قبله نفس السؤال، لما تجرأ هو ولا غيره على القول بأن هناك في الدين أقوالا وأفعالا وتقريرات أفضل من أقوال ومن أفعال ومن تقريراته فيه ص!
د- لا يمكن اعتبار “الصلاة المشيشية” التي بين أيدينا دليلا لا يتطرق إليه أدنى شك على أن صاحبها من علماء عصره الذين يشار إليهم بالبنان! ولا حتى من علماء بلده الذين لهم باع طويل في الفقه والحديث والتفسير والتدريس!
ه- لا يستبعد أن تكون “الصلاة المشيشية” صلاة موضوعة منحولة، يعني أنها نسبت إلى ابن مشيش دون أن يكون هو بالذات قائلها! فقد نقل الزنديق الواسطة محمد بن العربي التازي إلى الزنديق التجاني أبياتا من الشعر الركيك كما سنرى، مدعيا بأنها مع شرحها من نظم الرسول عليه السلام! وقد تكون تلك الصلاة من وضعه أو من تأليفه.
ومن جملة ما ورد في الصلاة المشيشية قول واضعها: “بسم الله الرحمان الرحيم: اللهم صل على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق، وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم، فلم يدركه منا سابق ولا لاحق. فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة، وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة، ولا شيء إلا وهو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط. صلاة تليق بك منك إليه كما هو أهله. اللهم إنه سرك الجامع الدال عليك، وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك. اللهم ألحقني بنسبه، وحققني بحسبه، وعرفني إياه معرفة أسلم بها من موارد الجهل، وأكرع بها من موارد الفضل، واحملني على سبيله إلى حضرتك حملا محفوفا بنصرتك، واقذف بي على الباطل فأدمغه، وزج بي في بحار الأحدية! وانشلني من أوحال التوحيد! وأغرقني في بحر الوحدة! حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحس إلا بها” إلى آخره!
نطرح هاهنا تساؤلات عن جدوى مثل هذه الصيغة الغامضة للصلاة على المدثر؟ وعن جدوى صدورها للأسف الشديد، من سليل من سلالة إدريس بن عبد الله الكامل كما يشاع؟ وعن جدوى نسبتها إلى حفيذ من حفذة المختار ص. إذ أننا حريصون كل الحرص على استبعاد أن تكون منه وإليه؟
فنحن نرى من باب الاستهجان أن ينغمس علماء من آل بيت المصطفى في الابتداع حتى الأذقان؟ والانغماس للتذكير هو “السقوط في الخطايا والموبقات”! ومحتوى “الصلاة المشيشية” تفوح منه رائحة هذه وتلك! وكأن الرجل الذي ألفها لم يقرأ قوله تعالى – والخطاب لنبيه -: “قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد” ! ولم يقرأ قوله ص: “لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله” ! لكن “الصلاة المشيشية” إغراق في الإطراء، وتجاوز غير مقبول لما افصح عنه النظم الكريم من بشرية نبي الهدى والرحمة! وتجاوز مرفوض لأمرين نبويين شريفين في أثر واحد صحيح عنه: “لا تطروني” و”قولوا عبد الله ورسوله”! وإلا فأي معنى لقول ابن مشيش: “اللهم صل على من منه انشقت الأسرار”! فعن أي أسرار يجري الحديث هنا؟ إن كان الله ولا شيء معه، قبل أن يوجد أي موجود، أو يخلق أي مخلوق. نتساءل: أو لم يكن كل ما يتعلق بمستقبل جميع مخلوقاته التي لم تخرج بعد من العدم إلى الوجود سرا من أسراره سبحانه؟ وهذه الأسرار الخفية التي لم يطلع بعد أي كان، ولو على بصيص منها، لأن أيا كان لم يكن بعد قد كان. والرسول ص ذاته من ضمن تلك الأسرار. فهل ندعي بعد كل هذه التوضيحات أن الأسرار من محمد بن عبد الله انشقت؟ أم أن الله الذي خلقه وبعثه إلى البشرية جمعاء، هو الذي انشقت منه جميع الأسرار التي لا يزال الإنسان يوما عن يوم يكشف عن القليل القليل منها في شتى المجالات،، دون أن يصل بعد إلى نهايتها، إذ كل المجالات حبلى بأسرار لا عد لها ولا حصر؟ فجسم الإنسان وحده كموضوع للتجارب، لم تتم للأطباء والباحثين والمجربين حتى الآن الإحاطة به، وهو العالم الصغير كما يقال! وكيف تمكنهم الإحاطة بالعالم الكبير؟
وبنفس النهج الذي انتهجناه لإبطال ما ادعاه ابن مشيش للرسول عليه السلام، نبطل انفلاق الأنوار منه وارتقاء الحقائق فيه.. فالله تعالى بصريح النظم الكريم نور السماوات والأرض، ومصدر جميع الحقائق بدليل قوله سبحانه: “ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله إن الله عزيز حكيم” .
إلا أن ما يسترعي الانتباه في النص المشيشي المتقدم أكثر من غيره، هو الضرب على وتر مسمى “الحقيقة المحمدية” لدى الصوفية. ودون الدخول في تقديم التفاصيل الضافية عنها نقول: إنها “الهيولى: في الفلسفة اليونانية. و”الكلمة” لدى المسيحيين، حيث جاء في “الإصحاح الأول” من إنجيل “يوحنا”: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله (= المسيح)! وكان الكلمة الله”!
فإن كانت “الهيولى” بمثابة المادة الأصلية، أو بمثابة المادة الخام التي وجد منها كل شيء ف”الحقيقة المحمدية” هي كذلك أصل لجميع الموجودات! وهذا ما عبر عنه البوصيري الشاذلي الطريقة في بردته، مع كثير من المبالغة التي أدت به إلى اقتراف إثم عظيم حين يقول:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم!
يعني أن خروج الدنيا من العدم إلى الوجود، أو خلق الله تعالى لمخلوقاته، مشروط بوجود “الحقيقة المحمدية” التي فرضت عليه تعالى خلق ما خلق! إذ لولا وجودها كحق “مخلوق به” – كما قال ابن برجان – لما كنا نحن الآن كبشر موجودين ضمن بقية الموجودات! إنها إذن وسيلة لإبداع ما سواها! ولإبداع من سواها!
وينضم إلى ما كشفنا عنه النقاب من فضائح ابن مشيش المقدس المزور الذي يتصارع الآن أحفاده على المداخيل التي تصل إلى القيمين على ضريحه من جباة المال الحرام وأكلته! ينضم إليه قوله: “وانشلني من أوحال التوحيد! وأغرقني في عين بحر الوحدة! حتى لا أرى، ولا أسمع ولا أحس إلا بها”!
إن الأوحال المضافة إليها التوحيد، والتي طلب ابن مشيش من ربه أن ينتشله منها، هي ما عرف لدى الغزالي بتوحيد العوام كما تلقاه الصحابة مباشرة عن سيد الناس! وكما تلقاه المسلمون تباعا أبا عن جد! ومفهومه بكل بساطة وبكل وضوح هو “لا إله إلا الله”. إلا أن تأثير الغزالي في ابن مشيش قوي حاضر. ومن هنا رغب في تجاوز مفهوم التوحيد المعروف لدى الجميع (= توحيد العوام)، لأنه متى تجاوزه – كواحد من خواص الخواص – فسوف يغرق في “عين بحر الوحدة” كما ادعى وكما تمنى! إنه يطلب بعبارة أخرى، أن يفنى عن نفسه وعن غيره في ذاته عز وجل! والفناء في الذات معناه الغرق والتلاشي! والغرق والتلاشي معناهما الاتحاد والوحدة (مما يذكرنا بالحلاج)! فكما ادعى المسيحيون امتزاج اللاهوت بالناسوت في شخص عيسى عليه السلام، فإن غلاة المتصوفة من باب التقليد والاندفاع وراء الفكر الظلامي الهدام، توهموا أنهم سوف يغرقون في “بحر الوحدة” المزعوم! فيتمكنون عندها من إدراك توحيد خواص الخواص! كما اعتقد الغزالي ذلك واقتنع به، وتمناه لنفسه ولغيره!
فها هو ذا ابن مشيش، أو ابن بشيش، كما يقول بعض المشارقة، قد سلك نفس المسلك الذي خطه الغزالي للراغبين في التحدث إلى الملائكة والأنبياء، والخضر وإلياس! والهواتف! ورجال الغيب الذين يأوون في البراري والقفار إلى الكهوف والمغارات! فكان أن ضل ابن مشيش الطريق الذي سلكه جده بأمر من ربه وبتوجيه منه! ولا تنفع عندها الكرامات التي يغدقها عليه المترجمون له من الصوفية! مهما تكن هوية هؤلاء المترجمين له!
وما تنبغي ملاحظته بخصوص العلاقة بين ابن مشيش وتلميذه أو مريده الشاذلي هو أن ابن مشيش لم يكن شيخا لطريقة صوفية! إذ الطرق الصوفية على عهده لم تكن معروفة وإنما عرفت الطوائف! والفرق واضح بين هذه وتلك. فالطريقة لها شيخ يوظف على المريدين أذكارا بعينها في أوقات محددة. فضلا عن كون الكثير من مريديه لا يعرفونه! فضلا عن كونهم يلتزمون بأداء الأذكار التي وظفها على أتباعه في حياته، بينما الطوائف الصوفية المعروفة بالمغرب قبل ظهور الشاذلية غير ملتزمة بأذكار بعينها من جهة، وليس لها أتباع يلتزمون بأداء أوراد محددة بعد وفاة شيوخها. ثم إنهم غير ملتزمين بالانتماء إلى أية طائفة معينة حتى الموت؟
وما قصدنا توضيحه نجده فيما يلي:
قال الشاذلي بعظمة لسانه عن شيخه ابن مشيش: “دخل رجل على أستاذي فقال له: وظف لي وظائف وأورادا. فغضب الشيخ وقال له: أرسول أنا أوجب الواجبات؟ الفرائض معلومة والمعاصي مشهورة، فكن للفرائض حافظا وللمعاصي رافضا” !
وهذا معناه أن شيخ الشاذلي لم يكن شيخ طريقة معروفة باسمه (المشيشية)! إنه رجل اختار الانقطاع إلى العبادة في مغارة معروفة! فهو لم يوظف الوظائف والأذكار على أي كان! فكيف يوظفها – كما قال – والدين واضح لا لبس فيه؟ فما فرضه الله على المسلمين جميعهم معلوم، وما حرمه عليهم جميعهم مما يعد من المعاصي مشهور! فابن مشيش ليس رسولا – كما قال – ليوجب الواجبات! (إنه مسبقا ضد الطرقية!). وهو فيما قاله محق. وإجابته صائبة. إنه صاحب “طريق” لا صاحب “طريقة”! وإن كان حاله هذا لا يعفيه من المحاسبة التي أخضعناه لها بخصوص مسمى “تصليته”!
غير أن تلميذه الشاذلي سوف يقدم على تأسيس طريقة صوفية بالمفهوم الشائع الذي يقف عليه الآن أي ملاحظ وأي دارس باحث. فما رفضه أستاذه أقبل هو على فعله! وكأنه لم يستفد من رد الشيخ المتقدم الذي سبقه غضبه! لقد استهجن أن يتولى القيام بوظيفة سيد ولد آدم! فيفرض الأذكار والأوراد على المريدين والأتباع! لكن الشاذلي انتشى بما انتهى إليه – على حد زعمه – من مقامات في التصوف لم يدركها غيره! إنه لم يعد – كما سيأتي – تلميذا لشيخ “جبالة”! فكيف نريد منه إن بات يسبح في عشرة أبحر، أن يبقى على ولائه لشيخه؟ لقد تركه خلفه وطار بعيدا إلى حيث لا يظهر له فيه حتى رسمه! أو لا يكون عومه في الأبحر العشرة بالتحديد هو الذي زين له إعطاء الأوراد والأذكار وعقد مجالس للذكر الجماعي مع مريديه، كي يساهم مساهمة فعليه في القضاء التدريجي على التربية الصوفية كما كانت عليه مع رواد التصوف الأوائل؟
لقد حدث الانتقال بالتصوف من سلوك “الطريق” إلى سلوك “الطريقة” أو من “المفتوح” إلى “المغلق”. أو من “المطلق” إلى “المقيد”. يعني أن الشيوخ كانوا يدلون المريدين على الطريق المستقيم كمرشدين، دون أن يقيدوهم بأذكار يؤدونها في أوقات معينة وبكيفيات محددة (= طريق مفتوح ومطلق). أما مع الطرق الصوفية، فالشيوخ يفرضون على المريدين ما يرون فرضه. وما على المريدين عندها غير الالتزام بما فرضه عليهم الشيوخ المقدسون الذين لا يسألون من طرف مريديهم عما يفعلون! في حين أن المريدين يسألون ويحاسبون ويتعرضون لغضب الشيوخ الفوار كالبركان (= طريقة مقيدة مغلقة)!
وباختصار شديد: “كان الشاذلي يقيم مجالس الذكر والعلم في كل مكان يحل فيه، فعندما ينتقل من قرية لأخرى ليدعو إلى الزهد والتمسك بآداب الدين (وعلى أهل القرية إطعامه وإطعام أتباعه طوعا أو كرها)! كان يسير معه عدد غفير من تلاميذه الذين يضربون الكاسات (= أسطوانات معدنية)، وينشرون الأعلام لتنبيه أهالي المنطقة إلى أن موعد الذكر قد حان! وكان مشاهير علماء مصر وفقهائها يحضرون مجالس ذكره، لا سيما في المدرسة الكاملية بالقاهرة (طمعا في رضى الحكام عليهم)!
هذا المجلس كان يشتمل على الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه. والذكر بكلمة التوحيد، وببعض أسماء الله الحسنى (الله – هو – حق – حي…) وتلاوة المسبعات العشر “الواردة عن الخضر!!!” وصلاة ابن مشيش التي كان الشاذلي يسميها “صلاة الفتح”! أو “صلاة الطمس لأنها شوهت التوحيد وقدمت صورة بدعية ظلامية عن الرسول ص”!
وما لبث أتباعه أن أضافوا إلى هذه الصلاة بعض الأدعية والآيات والسور القرآنية. وأطلقوا عليها اسم الوظيفة الشاذلية أو الورد الكبير! وفرضوا على مريدي طريقتهم قراءتها عقب صلاتي الصبح والعشاء (وهو ما رفض فرضه على أي كان شيخ الشاذلي ابن مشيش) ! واعتبروا أن المريد لا يترقى في المقامات والأحوال بدون تلاوتها، لذلك حرصوا على تلاوتها منفردين ومجتمعين” ! دون أن نتساءل عما إذا كان الصحابة والتابعون وكبار الأئمة والعلماء في حاجة إلى وظيفة كوظيفة الشاذلي ليمكنهم الترقي في المقامات والأحوال؟ أم إن اقتفاءهم لأثر سيد الناس، أغناهم وأغنى كل المتسننين عن وظائف صوفية من ابتكار شيوخ فاسدين للدين مفسدين، ضلاليين وظلاميين؟
فما تلقاه علي بن محمد بن إسماعيل بن حرازم، أو ابن حرزهم من سموم “إحياء علوم الدين” تلقاه عنه تلميذه مؤسس الطريقة الشاذلية! وبالوقوف عند “الصلاة المشيشية” الضلالية في مجملها، ندرك كيف أن مرتع شيخ “جبالة” ومرتع ابن حرازم مرتع واحد! ففيه تناولا معا نفس الوجبات! ومن مائه تجرعا حتى الثمالة ما في الأقداح! فسرى السم في جسد أبي الحسن الشاذلي مع ما اعتلاه من ادعاء وصلف وكبرياء وعجب! ومع اندفاعه بدون ما تفكير، وبدون ما روية صوب المتاهات الظلامية التي تفرض عليه الافتراءات المخلة بمروءة الرجال المخدوعين من دوي العلم والفضل!
فعندما سئل ذات مرة من هو شيخك؟
أجاب: “كنت أنتسب إلى الشيخ عبد السلام بن مشيش (لم يشر إلى شيخه الثاني علي بن حرازم!)، وأنا الآن لا أنتسب لأحد!!! بل أعوم في عشرة أبحر: خمسة من الآدميين: النبي ص، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي! وخمسة من الروحانيين: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل،وعزرائيل، والروح الأكبر” !!!
لقد تجاوز إذن شيخه المحدودة مداركه! إنه قبل أن يقدم على التنكر له يغرف العلوم والأسرار كما ادعى من عشرة أبحر! بل إنه يعوم فيها أو يسبح كما يحلو له! ومن استطاع مثله أن يغرف العلوم والأسرار من عشرة أبحر! يمثلها خمسة من الإنس! وخمسة من الروحانيين! لزم أن يكون أفضل من الأبحر بكاملها مجتمعة أو متفرقة! فعثمان أو علي – كمجرد مثال – لا يعوم في الأبحر العشرة التي يعوم فيها هو! أما شيخه وشيخ “جبالة” فلم يعد له عنده أي اعتبار! وإن كان له عنده اعتبار ما، فمجرد غدير أو ساقية، بتوقف هطول الأمطار تغور! فأين الغدران والسواقي من البحار والمحيطات؟
ولكي لا نقف كثيرا عند ما كان الشاذلي يقتاته ، بعد الإشارة إلى القوت الذي انتهى إليه من شيخيه الضلاليين: عبد السلام بن مشيش، وعلي بن إسماعيل ابن حرازم، نختار في سلسلة ابن حرازم هذا، أو في سنده، الرابط بينه وبين الرسول الأكرم رجلين، هما كل من أبي شعيب الصنهاجي الأزموري، وأبي يعزى الهزميري الهسكوري. هذا الأخير الذي هو تلميذ الأول وصاحبه حيث برهنا على أنهما كذابان جاهلان بالدين! لا يتوفر أي منهما على الشروط الثلاثة التي حددها الجنيد لتبني الصدارة في التوجيه والإرشاد الصوفيين. فأبو شعيب مؤدب للصبيان. حامل لكتاب الله. لكنه ليس بعالم! وأبو يعزى أمي جاهل يخبط خبط عشواء!
بل وندعي بدون ما تردد وبدون ما شكوك، أن مشايخ جميع الطرق الصوفية مبتدعون! حتى إذا ما افترضنا أن رجال السند الصوفي عبارة عن قنوات، عبرها يمر مسمى “المدد” أو”البركة” من الرسول إلى هذا الشيخ أو ذاك. فإن من المفروض أن تكون القنوات جميعها صافية طاهرة، لأن ما يفترض أن يمر عبرها طاهر نقي نظيف. إنه كلام الرسول وفعله ومروءته وأخلاقياته وآدابه. أما أن نجد أمامنا قنوات يمر عبرها ما صح صدوره عنه وسخة قذرة، فلا نعتقد بتاتا بأن ما صدر عنه سوف يمر منها وعبرها إلى الشيوخ من جهة، وإلى ملايين الأتباع والمردين من جهة ثانية! هذا إن مرت عبرها فعلا سننه وآدابه. أما أن يمر عبرها فكر ضلالي وممارسات ضلالية. فتلك هي الطامة الكبرى التي تجسد الابتداع من جهة، والكذب على الرسول من جهة ثانية من خلال ادعاء الاعتماد على الأسانيد من الشيوخ الظلاميين إليه ص!
فمنذ حين، أكدنا بأن شيخ الشاذلي ابن حرازم ضلالي. وأن رجلين في سلسلته كذابان جاهلان بالدين. فكيف نتصور إذن هؤلاء كقنوات تحمل الفيض النبوي الشريف الصافي إلى الصادقين المخلصين المفترضين من عباد الله الصالحين؟
هذا باختصار شديد عما يقتاته الرجل من أفكار وآراء وتصورات أو مجاهدات أو ممارسات صوفية على العموم. أي أنه يقتات ما استفاده مباشرة من شيوخه. وما استفاده – كما قررنا – من قراءات ومن مسموعات، عدها أو حصرها مستحيل علينا الآن القيام به؟
فماذا عن الثمار اليانعة التي جناها مما اقتاته؟ وماذا عن الثمار التي قدمها لمريديه ولأتباعه خاصة؟ وللمهتمين بالتصوف والمتصوفة عامة؟
قال: “إننا لننظر إلى الله ببصائر الإيمان والإيقان، فأغنانا ذلك عن الدليل والبرهان. وإنا لا نرى أحدا من الخلق، هل في الوجود أحد سوى الله الملك الحق؟ وإن كان ولا بد فكالهباء في الهواء إن فتشته لن تجد شيئا” !
وكلامه هنا تنقيص من قيمة العقل أو الدعوة إلى إلغاء دوره في التفكير المجرد من جهة! وتأييد لنظرية وحدة الوجود كما رأيناها عند ابن عربي الحاتمي من جهة ثانية! ودليل في الوقت ذاته على أن جميع شيوخ الطرق معجبون به، غير معترضين ولا منكرين عليه شطحه وظلامياته! فقول الشاذلي بالحرف: “لا نرى أحدا من الخلق”! وقوله متسائلا بالحرف: “هل في الوجود أحد سوى الله الملك الحق”؟ لا ندرك له سوى معنى واحد، هو أن الله والعالم وحدة أو بنية واحدة لا تتجزأ! أو أن “الحق” و”الخلق” وجهان لعملة واحدة! مما يعني أن الشاذلي نفسه غير موجود! وأن الرسول ذاته غير موجود! وإن افترضنا وجوده، فهو كمجرد هباء في الهواء! إن فتشنا عنه، لم نجده شيئا يذكر على الإطلاق! ولما لم نجده شيئا يذكر، فمعناه أنه غير موجود! وإن كان غير موجود، لا هو ولا بقية الرسل والأنبياء! فمعناه أنه تعالى لا يبعث لأولاد آدم غير أشباح! لكن المبعوث إليهم كذلك مجرد أشباح! مما يعنى أنه سبحانه يبعث أشباحا لأشباح آخرين! ثم إن معناه – إن كان الله هو كل شيء – أنه يبعث الأنبياء والرسل إلى نفسه! إنما كيف يبعث الأشباح أو الهباء إلى نفسه وهو القديم الحي الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد!
فكيف إذن نرى في الشاذلي قطب زمانه، أو قطب مشايخ عصره وأوانه؟ أو لم يحمل كلامه المتقدم ظلاما ينكره كل من الدين والعقل والتجربة الحسية ذاتها؟ ثم كيف يكون قدوة لمختلف الشيوخ المؤسسين لطرق يزعمون بأنها امتداد لطريقته، أو بأنها فرع من فروعها كما سنرى؟
قال: “لو كشف عن نور المؤمن العاصي لطبق ما بين السماء والأرض، فما ظنك بنور المؤمن المطيع” !
أو ليس هذا الكلام ظلاما واضح البطلان؟ ثم ما مصدره؟ هل مصدره كتاب الله عز وجل؟ أم إن مصدره سنة مجتباه ص؟ أم هو نفحة من نفحات العلم “اللدني” أو العلم “الوهبي” تلقاه الشاذلي من ربه مباشرة بدون ما وسيط؟
قال: “لقيت الخضر في صحراء عيذاب فقال لي: يا أبا الحسن، أصحبك الله اللطف الجميل، وكان لك صاحبا في المقام والرحيل” !
والخضر – كما سبق الذكر – هو صاحب النبي موسى الذي هو حتى الآن لدى الصوفية الضلاليين على قيد الحياة! وكأنه سبحانه لم يخاطب نبينا بقوله: “وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد، أفإن مت فهم الخالدون” ؟
فهل نكذب الله جلت قدرته، ونلغي من حسابنا منطق العقل، جنبا إلى جنب مع منطق التجربة، لنصدق ضلاليين وظلاميين تمسك الشياطين بهم وبلحاهم لتعبث بهما كما يحلو لها أن تعبث؟ ثم توحي إلى من ضللوهم ليجعلوا منهم في الحياة وفي الممات أندادا من دون الله! تشيد قبورهم وهم مضلون! وترفع عليها قباب وهم ضالون مبتدعون! ويستغاث بهم وهم أغبياء محرفون للدين ومتطرفون مغالون متنكبون عن اتباع سبيل الهدى والنور؟
قال: “والله ما بيني وبين الرجل إلا أن أنظر إليه نظرة وقد أغنيته” !
وبعيدا عن محاسبته على قسمه الذي يدخل في إطار “اللغو”! نقول: إن كانت نظرة الشاذلي إلى الرجال تجعلهم أغنياء في لمح البصر! فعن أي غنى يتحدث؟ عن الغنى المادي أو عن الغنى الروحي؟ وهل ما يحصل من نظرته إلى الرجال هو نفسه الذي يحصل من نظرته ص إلى كل من قابلهم من يهود ومن نصارى ومن مجوس، ومن مسلمين؟ وهل ادعى النبي ص ما ادعاه الشاذلي هنا لنفسه؟ وكيف نفسر دعوته عمه إلى الإسلام دون أن يستجيب؟ والحال أنه كان يدافع عنه ويحميه من اعتداءات كفار قريش عليه؟ وكيف نفسر ظهور المرتدين على الساحة بعد التحاقه ص بالرفيق الأعلى وفيهم مئات ممن قابلوه وأسلموا على يديه؟
يقول صاحب “المفاخر العلية في المآثر الشاذلية” عن “حزب البحر” للشاذلي: “وأما سبب وضعه (= تأليفه). فإن الشيخ سافر في بحر القلزم مع نصراني بقصد الحج. فتوقف عليهم الريح أياما. فرأى النبي ص في مبشرة. فلقنه إياه فقرأه، وأمر النصراني بالسفر، فقال (له): وأين الريح؟ فقال (يجيبه): افعل فإنه الآن يأتيك. فكان الأمر كما قال. وأسلم النصراني بعد ذلك” !
مما يجعلنا نقع في حيرة! ويدفعنا في الوقت ذاته إلى طرح هذين السؤالين:
أ- هل حزب البحر من تأليف الشاذلي، أي من وضعه كما قال صاحب “المفاخر العلية”؟
ب-أم إنه من تأليفه ص؟
إن الكلام عن تأليف حزب أو كتاب صوفي ما، غير الكلام عن كونه ص هو الذي أعطاه لشيخ ما أو مكنه منه أو لقنه إياه. فواحد من أمرين: إما أن يكون الشيخ الصوفي هو الذي ألفه، وإما أن يكون المختار هو الذي أملاه عليه أو أعطاه إياه. فمن ادعى أنه من تأليفه فهو صادق. ومن ادعى أن الرسول هو الذي مكنه منه فهو كذاب! لأن كلام الرسول عليه السلام حديثه أو سنته! وحديثه أو سنته قد انتهى من إلقائهما على الصحب الكرام قبل وفاته!!! فكيف إذن يمكن القول بأنه بعد وفاته يعطي لبعض الخواص كتبا أو أحاديث أو صيغا للأذكار المختلفة؟
والشاذلي مع “حزب البحر” كابن عربي الحاتمي مع “فصوص الحكم” فقد سبق القول بأن الحاتمي رأى المختار ص في مبشرة بدمشق، حيث أعطاه “الفصوص” وأمره أن يخرج به إلى الناس كي ينتفعوا به! ثم ادعى الشاذلي نفس ما ادعاه الحاتمي! فكان أن وجدنا أنفسنا أمام كذابين. والنبي ص يقول: “من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار” !
وحتى إن قيل بأن الرجلين لم يكذبا عليه متعمدين. فلنقل فورا بأنهما إذن مخبولان. والمخبول غير جدير بالاتباع! ثم إنه ص قد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة. فكيف يدعي المرجفون بأنه يمكنهم من كتب، ومن أدعية، ومن مقطوعات أدبية دينية كي ينشروها في المؤمنين المخدوعين بما يظهرون به من كرامات زائفة تجنبنا هنا الحديث عنها. والحال أن “المفاخر العلية” وغيره من المؤلفات التي تتحدث عن الشاذلي مليئة بالخزعبلات والترهات المتصلة به من قريب ومن بعيد!
فإن تحدث الرجل صراحة عن وحدة الوجود! ثم قال بعظمة لسانه: “لو كشف عن نور المؤمن العاصي، لطبق ما بين السماء والأرض، فما ظنك بنور المؤمن المطيع” !!! ثم ادعى بأنه يقابل الخضر وكأنه سبحانه لم يخاطب نبيه بقوله: “وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون”. فكيف لا يدعي أن نظرة منه إلى أي رجل تغنيه، مع أنه عليه السلام لم يدع هذا الادعاء لنفسه وهو المتبوع لا التابع؟
ثم يدعي بدون ما خجل وبدون ما حياء أن سيد الناس مكنه من مسمى “حزب البحر”! أما مسمى “حزب البر” عنده فقد ادعى بأنه لم يضع فيه حرفا واحدا إلا بإذن من الله ورسوله. مع أن الضلاليين المبتدعين المفترين غير مقبولة أعمالهم لافتقارها إما إلى “الإخلاص” وإما إلى “الصواب”. فما لم تكن خالصة لم تقبل حتى وهي صائبة. وما لم تكن صائبة لم تقبل حتى وهي خالصة. إنما تقبل فقط عندما تكون خالصة صائبة.
ودون الاستمرار في تقديم مزيد من ضلاليات الشاذلي وما أكثرها. ودون التطرق إلى ما يتعلق بالبدع التي أحدثها في مجال العبادات. تعلق الأمر بحلقات الذكر الجماعي؟ أو تعلق بكيفية أداء ذلك الذكر وأوقاته ومختلف الطقوس المصاحبة لأدائه. مع الإشارة فقط إلى أن الطرق المتفرعة عن الشاذلية جميعها لم تقف عند حد الاكتفاء بالمبتكرات الضلالية المنسوبة إلى الرجل الذي قال بأن أحدا لم يأت في التصوف بمثل ما أتى به! بل إن كل شيخ لطريقة فرعية يضيف من عنده ما يلزم أن يتميز به عن غيره من الشيوخ، مع التأكيد على أن كل الإضافات بحكم ادعاء الارتباط بالسند. تنسب إلى المختار كذبا وزورا! مع أنه ص منها بريء! إذ ما دام كل شيخ يدعي أنه أخذ ما يشتغل به، أو أخذ طريقته عن فلان، عن فلان، عن فلان إلى سيد المرسلين. فمعناه أنه مصدر جميع الخزعبلات والبدع والممارسات التي يواظب عليها الشيوخ والمريدون ليل نهار! والحال أن نبينا قد بلغ. وأن الدين قد اكتمل! ورحمة الله على الإمام مالك بن أنس إذ يقول: “من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة. فقد زعم أن محمدا ص خان الرسالة. لأن الله يقول: “اليوم أكملت لكم دينكم”. فما لم يكن يومئذ دينا، فلا يكون اليوم دينا”! ثم إنه رضي الله عنه، كان يعجبه أن يردد هذا البيت:
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع .
إرسال التعليق