
الطاكسي المغربي: بين كرامة ضائعة ومنظومة تُهمل الإنسان
رصد المغرب/مراد مجاهد
لسنا في حاجة إلى بروتوكولات غامضة ولا إلى وثائق منسوبة لحكماء في الظل كي نفهم كيف تُدار اللعبة في هذا الوطن. فالمؤامرة هنا لا تحتاج إلى تسريب، بل هي تمشي في الشارع، تمرّ من بين أزقة المدينة، تركب الطاكسي، وتصافح السائق، ثم تمضي دون أن تترك أثرًا… إلا مزيدًا من الإهانة.
في المغرب، لا يصنع الاستغلال من وراء الستار، بل يُشرعن بالقانون ويُؤطر بالنصوص ويدار بمنطق الوصاية. لا شيء أكثر تعبيرًا عن هذه الحقيقة من قطاع سيارات الأجرة، حيث السائق يعمل ليلًا ونهارًا، ويتقاسم الخبز مع الشقاء، ثم يُقدَّم للرأي العام كمتهم مزمن، يُحمّل وزر العشوائية، وسوء المعاملة، وانعدام التنظيم، بينما الحقيقة تُحجب كما تُحجب الشمس خلف واجهة الزجاج المعتم.
السائق في هذا الوطن ليس عاملًا فقط، بل هو مرآة كاملة للمشهد. من يقود الطاكسي اليوم ليس مجرد شخص خلف المقود، بل هو حامل لوضعية اجتماعية تُلخص كل مفارقات الوطن: بين العمل والاغتراب، بين الكدح والوصاية، بين خدمة المواطن والاحتقار الصامت من الحكومة. يقال له “مهني”، لكن لا مهنة تحميه. يقال له “شريك في التنمية”، لكن لا صوت له في تقرير مصيره. يقال له “فاعل في النقل”، لكن يُعامل كعبء وجب تأديبه.
أما “المأذونية” فهي في الأصل هبة وامتياز يمنحه جلالة الملك نصره الله بقرار سامي، وغالبًا بناءً على توصيات ومسوغات معينة، وهي حق ملكي وقانوني يمنح لصاحبه الاستغلال الحصري للنقل داخل مجال محدد. وتُمنح نسبة من المأذونيات مباشرة للمهنيين القدامى عبر طلباتهم، لضمان استمرارية الخدمة وتثبيت حقوقهم. ومع ذلك، فإن تداول هذه الامتيازات لاحقًا يشهد أحيانًا ضعفًا في الشفافية، حيث تتحكم في بعض الأحيان جهات ذات نفوذ في إعادة توزيعها، مما يعرقل وصول الحقوق لأصحابها الفعليين ويزيد من هشاشة العاملين في القطاع.
وفي خضم هذا العبث، يختارون أن يصرفوا أنظار الناس عنه، بإغراقهم في أوهام الترفيه. يُطلب من الشعب أن يُدمن الكرة، والغناء، وبرامج الطهي، وتفاصيل “الترند”، حتى لا يبقى له وقت ليفكر: من يملك المأذونيات؟ من يقرر أسعار الوقود؟ من يشرّع القوانين التي تسحق العامل تحت ذريعة “تأهيل القطاع”؟ من يُدير هذا الهرم المقلوب حيث يربح من لا يعمل ويخسر من يتعب؟
هكذا، شيئًا فشيئًا، يتحول السائق من إنسان إلى ترس، ثم إلى تهمة، ثم إلى صورة مشوهة في مخيلة المواطن. إنه المتهم الجاهز حين يصرخ، حين يرفض، حين يتأخر، حين يطالب بحقه، وحين يفكر. وكأن هذا النظام لا يكفيه أن يسحقك، بل يريدك أن تبتسم أيضًا وأنت تُسحق.
المأساة لا تكمن فقط في غياب الإنصاف، بل في تعمد تطبيع اللاعدالة. مأذونيات أصبحت رصيدًا اقتصادياً يتداول به البعض بصمت، بينما السائق الحقيقي يُضرب بالعصا إذا احتج، ويُعاقب إن تنفس، ويُلاحق إن حاول أن يفهم كيف تُدار اللعبة. إنهم لا يريدون من السائق أن يكون شريكًا، بل تابعًا، أداة، عاملاً بلا وعي، وكأن الوعي جريمة.
نحن لا نُبالغ حين نقول إن الطاكسي في المغرب ليس وسيلة نقل فقط، بل هو مسرح حيّ لعرض تراجيديا اجتماعية كاملة. الطاكسي المغربي يختزل الطبقية، والتفاوت، والتبخيس، والتواطؤ الصامت. فيه تتجلى حقيقة بلد يُجمل صورته بالخارج، لكنه يهمل كرامة من يخدمه في الداخل. بلد يغرق في الكلام عن التنمية المستدامة، بينما لا يستطيع أن يؤمّن تقاعدًا كريمًا لعامل قضى عمره في الزحام.
قد يقول قائل إننا نخلط بين التحليل الماركسي والغضب المهني. لا، نحن لا نخلط، بل نرى بوضوح أن ما يحدث هنا ليس استثناءً، بل نتيجة حتمية لمنظومة تجعل من العامل سلعة، وتُعيد إنتاج نفس الهشاشة كل مرة، وتسمي ذلك إصلاحًا. النظام حين يُشعر العامل أنه عبء لا قيمة له، فإنه لا يخطئ، بل ينفذ خطته بأمان.
لكن هذا السائق الذي يُستهان به، هو نفسه الذي يعرف تفاصيل المدينة، والذي يسمع الناس من كل الطبقات، والذي يرى كل المتناقضات تمر من أمامه، في صمت، في قهر، في لا مبالاة. إنه العين التي ترى، والصوت الذي قُمع، والموقف الذي لم يُكتب له أن يتكلم بعد. هو شاهد عيان على زيف الشعارات، وضحية سياسات لا تنظر إليه إلا ككائن قابل للاستبدال.
لا نحتاج إلى نصوص مفبركة تشرح لنا أن هناك من يريد تغييب وعي الشعوب. نحن نعيش هذا الغياب يوميًا، نراه في طريقة التعامل مع سائق سيارة الأجرة، وفي نظرة القانون له، وفي تعاطي الإعلام مع صوته، وفي صمت النقابات التي لم تعد تمثل إلا نفسها. كل شيء هنا مصمم كي يبقى السائق في قاع السلم الاجتماعي، يتآكل يومًا بعد يوم، دون أن يجرؤ أحد على القول: كفى.
كفى من اعتبارنا مجرد أدوات. كفى من إدارة القطاع بعقلية إدارية متجاوزة لا تليق بكرامة الناس. كفى من السمسرة باسم “التنظيم”. كفى من دفن الصوت المهني داخل لجان لا يسمع فيها إلا صوت المالك والمُفوّض. لقد آن لهذا القطاع أن يُعاد إليه اسمه، وهيبته، وكرامته، وأن يُعاد للسائق مكانه في قلب النقاش، لا في هامشه.
الطاكسي ليس مركبة… إنه قضية. والسائق ليس مزاجًا عابرًا… إنه ضمير طبقي ما زال يبحث عن لغة تليق بغضبه.
ونود أن نؤكد هنا، بعيدًا عن كل تأويل أو سوء فهم، أن مطلبنا كسائقين مهنيين غير مالكين ليس مسألة إسقاط نظام المأذونيات أو انتقاص من امتيازات أصحاب الرخص الحالية، فالكثير منهم يستحقونها حقًا، منهم ذوو الاحتياجات الخاصة ومن يحملون أحقية تاريخية ومهنية واضحة. ما نطالب به هو حق دستوري عام لكل سائق مهني في الحصول على ترخيص يمكّنه من العمل بشروط تحفظ كرامته وتوفر له حياة كريمة. فعمل السائق مرتبط بالترخيص، وهذا حق من حقوقه التي يكفلها الدستور، ويجب أن يكون التوزيع عادلاً وشفافًا، لا أن يُحتكر أو يُغلق بوجه من يستحق.
والواقع اليوم يؤكد وجود خصاص حقيقي في رخص النقل، خصوصًا مع انتشار المركبات غير المرخصة التي تعمل عبر التطبيقات الذكية بشكل غير قانوني وواسع. هذا النقص يدفعنا إلى المطالبة بمزيد من الرخص تلبّي حاجة السوق وتُخفف من الضغط على السائقين، وتُقلل من الاحتقان الاجتماعي داخل القطاع.
هذا هو مطلبنا المنطقي والعادل، وهو مدخل ضروري لإصلاح حقيقي يُعيد الاعتبار للقطاع ويُنصف الفئات المهنية دون تهديد مكتسبات الآخرين.
ملحوظة:
هذا المقال هو تعبير عن رأي شخصي وتحليل مهني موضوعي يستند إلى واقع قطاع سيارات الأجرة في المغرب، ولا يتضمن قذفًا أو اتهامًا محددًا لأي شخص أو جهة.
يندرج المقال ضمن حقوق حرية التعبير والرأي المكفولة دستورياً وفقًا للفصل 25 من الدستور المغربي.
إرسال التعليق