
القرآن والفرقان
رصد المغرب / الدكتور إدريس الكنبوري
نصطدم بتلك المزاجية في التمييز الذي يحاول أن يقيمه بين القرآن والفرقان، حيث يقع الكاتب في حالة من الشطح بل الهذيان. فبعد أن يسوق بضع آيات ترد فيها عبارة الفرقان، مثل قوله تعالى:”وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون”(البقرة: 53)، وقوله:”شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان”(البقرة: 185)، وقوله:”وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان”(آل عمران: 4)، يقول:”جاء لفظ الفرقان في ستة مواضع في الكتاب، وفي هذه المواضع الستة جاء معرفا، فأول ما جاء لفظ الفرقان لموسى عليه السلام وجاء معه الكتاب، أي أن الفرقان جاء إلى موسى على حدة وجاء الكتاب على حدة، ففرقا عن بعضهما، وهذا الفرقان قال عنه في سورة آل عمران: أن الفرقان والتوراة والإنجيل أنزلت قبل أن يأتي الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الفرقان الذي أنزل على موسى هو نفسه الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)، وبما أن الفرقان جاء معطوفا على القرآن يستنتج أن الفرقان غير القرآن، وهو جزء من أم الكتاب ـ الرسالة ـ وأنزل ونزل في رمضان، وهذا الجزء أول ما أنزل إلى موسى عليه السلام” .
لقد أوغل الدكتور شحرور وأتى بالعجائب في هذا التفصيل الغريب، فهو قد جعل كلمة”الفرقان” هنا صنوا للقرآن، لا مرادفا له أو أحد أسمائه أو وصفا للتنزيل، والسبب واضح، وهو أنه ينكر وجود الترادف في القرآن، وطالما أنه لا يريد أن يرى ترادفا فعليه أن يختلق من كل عبارة فيها مجاز أو استعارة للقرآن أو مرادف له شيئا قائما بنفسه له مدلول معين، ولو أن الدكتور شحرور احتكم إلى اللسان العربي بالفعل لما اضطر إلى كل هذا، فالفرقان من “ف.ر.ق” والفرق هو الفصل، ومعنى الفرقان أي الذي يفصل بين الحق والباطل أو بين الأحكام، كما قال جميع المفسرين بمن فيهم المعتزلة أمثال الزمخشري والجبائي، نقول هذا لأن الدكتور شحرور بين الحين والآخر يحيل على المعتزلة بينما هم بريئون من هذه الانزلاقات التي لا تقبلها اللغة العربية ولا المنطق العقلي. وقال ابن منظور في “لسان العرب” عن الفرقان:”الفرقان من أسماء القرآن أي أنه فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام. والفرقان: الحجة. والفرقان: النصر”، وسميت معركة بدر”معركة الفرقان” لأن العلماء ومؤرخي السيرة يقولون إنها كانت فاصلا بين الحق والباطل. فالفرقان إذن ليس القرآن بل واحد من أسمائه، كما نقول التنزيل والذكر وهلمجرا. وعندما يصف النصارى الإنجيل مثلا بأنه كلمة الله أو الكتاب المقدس أو كتاب الحياة أو كلمة المسيح، فهم يطلقون أوصافا معينة أو أسماء مختلفة على شيء واحد هو الإنجيل، ولا يعنون كتبا أخرى موازية له.
ولكن الدكتور شحرور يهيم مع تأملاته وخواطره البعيدة عن العلم فيبتكر ما لا يقبله عقل، فانظر إلى قوله:”فأول ما جاء لفظ الفرقان لموسى عليه السلام وجاء معه الكتاب، أي أن الفرقان جاء إلى موسى على حدة وجاء الكتاب على حدة، ففرقا عن بعضهما”، وبصرف النظر عن الركاكة في التعبير عند باحث يرفع لواء “التفسير اللغوي”، نلاحظ أن الكاتب يجعل الفرقان كتابا على حدة بجانب الكتاب الرئيس الموحى به على موسى عليه السلام، وهو التوراة، لكنه لا يبين لنا ما هو هذا “الفرقان” الذي أنزل على موسى، هل هو التلمود أم الميشنا مثلا؟ علما بأن هذين الأخيرين كتبا بعد قرون على وفاة موسى عليه السلام.
ولعل الدكتور شحرور ذهب مع فعل التنزيل للفرقان لكي يستنتج من دون تفكير أن الأمر يتعلق فعلا بتنزيل حقيقي، ففي قوله تعالى:”أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا”(الأنعام: 114)، نرى أن التنزيل للكتاب، وفي قوله:”وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان”(آل عمران: 4)، نرى أن التنزيل للفرقان، وفي قوله:”‘إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى”(البقرة: 159)، نرى أن التنزيل للبينات والهدى، وفي قوله:”قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا”(النساء: 174)، نرى أن التنزيل للنور المبين، وفي قوله:”الله الذي أنزل الكتاب بالحق، وأنزل الميزان”(الشورى: 17)، نرى أن التنزيل للكتاب والميزان، فهل نستنتج من كل هذه الآيات أن الله تعالى أنزل عدة كتب، هي الكتاب والفرقان والبينات والهدى والنور المبين والميزان، لمجرد أنها قرنت في تلك الآيات بفعل التنزيل؟ ولماذا قيد الدكتور نفسه بالمعنى الحرفي للتنزيل وتصور الأمر على نحو مادي ملموس، بينما تتسع اللغة للحقيقة والمجاز والكناية والاستعارة وغيرها من إمكانيات التوسع في التعبير؟ وهل يجوز أن تدخل كل هذه الإمكانيات التعبيرية في الشعر العربي، ولم يكن معجزا للعرب، ولا تدخل في القرآن، وقد جاء لكي يرفع لواء التحدي لأرباب الفصاحة العربية؟.
ولكي يبرر شحرور رأيه في التمييز أو الفصل بين الفرقان والقرآن لجأ إلى النحو مرتكبا خطأ فادحا، ما كان يجب أن يسقط فيه باحث يدعي تقديم قراءة القرآن قراءة “معاصرة”، إذ من شروط أي قراءة للنص القرآني الدراية الكافية بقواعد العربية إلى جانب شروط أخرى معروفة، ولكن الدكتور شحرور يفتقر إلى هذه الدراية، مما يوقعه في الكثير من المطبات، وما يزيد الأمر فداحة أنه يبني على تلك المطبات والأخطاء نتائج “علمية”، الأمر الذي يقود إلى سقوط “المشروع” الذي ينادي به، إذ يكفي إسقاط تلك المقدمات الخاطئة لكي تسقط النتائج المترتبة عنها كما تسقط بناية من الرمل.
فشحرور يزعم أن كلمة “الفرقان” جاءت معطوفة على كلمة”القرآن” في قوله تعالى:”شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان”(البقرة: 185)، حيث يقول بكثير من الثقة:”وبما أن الفرقان جاء معطوفا على القرآن يُستنتج أن الفرقان غير القرآن”. فقد بنى استنتاجا على حقيقة نحوية غير صحيحة، ذلك أن “الفرقان” ليس معطوفا على “القرآن” في الآية بل على “الهدى”، فالواو في “والفرقان” حرف عطف، و”الفرقان” إسم معطوف على الهدى مجرور وعلامة جره الكسرة. هذا من حيث الإعراب، أما من حيث التفسير فإن “الهدى والفرقان”، كما ورد في تفسير البيضاوي “حالان من القرآن”، أي صفتان له. ولو أن الدكتور شحرور يفقه في اللغة العربية وأراد أن يجعل الفرقان قسما آخر مقابلا للقرآن، بحسب قراءته الخاصة للآية المذكورة، لكان واجبا عليه أن يضيف قسما ثالثا هو “الهدى”، لأن الآية تجعلهما مرتبطين معا “وبينات من الهدى والفرقان”، فهي بينات من الهدى، وبينات من الفرقان، ولا نفهم لماذا فصل شحرور بينهما واكتفى بالكلمة الثانية وأهمل الأولى؟.
ولا ينتهي شحرور من التصنيف والتقسيم والترتيب، فهو لا يكتفي بالفرقان والقرآن بل يضيف الحكمة أيضا ويجعلها قسما مستقلا بذاته، وينشئ خلطة عجيبة لم يسبقه إليها أحد. ففي قراءته للآية:”ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل”(آل عمران: 48) يقول:”فالكتاب هو الرسالة، والحكمة هي الوصايا، والتوراة هو نبوة موسى، والإنجيل هو نبوة عيسى، ومجموعهم هو الكتاب المقدس” (ولنلاحظ هنا الأخطاء اللغوية: التوراة هو: والصحيح هي، مجموعهم: والصحيح مجموعها)، حيث فهم ذلك التقسيم الرباعي في الآية على أنه تقسيم حقيقي لكتب أربعة، وأطلق على الجميع تسمية الكتاب المقدس.
تلك معضلة أخرى من معضلات الدكتور شحرور التي لا تنتهي أبدا، فالقارئ له يتعين عليه أن يتسلح بكثير من الصبر مع كثير من الاحتياط والحذر، على أن لا ينكص أمام هول المفاجآت التي تقابله، ونحن على ثقة من أن الكثير من الشباب والباحثين الذين تعلقوا بكتاباته صدمتهم تلك المفاجآت فتعاملوا معها بوصفها “مخرجات” لبحث علمي، لا مغالطات غير منطقية تنافي العقل والحس السليم.
إن المعروف أن الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى يضم كتابين لا ثالث أو رابع لهما، هما العهد القديم والعهد الجديد، ولا يوجد كتاب اسمه الكتاب ولا كتاب اسمه الحكمة، وما يسمى الوصايا العشر هي جزء من العهد القديم لا كتاب مستقل على هامشه أو بداخله، فنحن المسلمين مثلا نعرف آية الكرسي، لكن آية الكرسي ليست كتابا مستقلا أو كتابا بداخل القرآن، بل هي آية بداخل سورة البقرة، كذلك الأمر بالنسبة للوصايا، فهي آيات بداخل سفر الخروج.
ولكن الدكتور شحرور جعل الكتاب المقدس أربعة كتب، فقط لمجرد أنها ذكرت في بعض الآيات القرآنية على الترتيب مفصولة بواو العطف، وجعل الحكمة كتابا مستقلا، وقام بذلك على طريقته في بتر الآيات القرآنية والتلاعب بالمفردات لاستخراج معان لا توجد في أي قاموس، بالرغم من إقراره أكثر من مرة بأنه أنجز “مسحا شاملا” للقرآن. ولا يمكن بأي حال أن تكون الحكمة كتابا قائما بنفسه، أسوة بالتوراة والإنجيل والقرآن، فبالنسبة لقوله تعالى على سبيل المثال”ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”(النحل: 125)، هل نفسر الحكمة هنا بأنها الكتاب أم بأنها الطريقة المناسبة في الحوار؟ وإذا كان المعجم النبوي لا يمكن أن يخالف المعجم القرآني، هل يجوز أن نقول إن قوله صلى الله عليه وسلم:”إن من الشعر لحكمة” يعني الكتاب أو القرآن أو التوراة أو الإنجيل؟ ونفس الأمر في الحديث النبوي:”لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها”.
ومعلوم أن الحكمة هي حسن التدبير في اللغة، ووضع الشيء محله، قال العلامة محمد الطاهر بن عاشور في”التحرير والتنوير”:”المراد بالحكمة ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق وتقنين الأحكام”. ويمكن أن تطلق الحكمة تجاوزا على الكتب السماوية كصفة لها، كما نقول مثلا في القرآن الفرقان أو الهدى، من باب تسمية الشيء بأهم صفاته، وقد قال أبو البقاء الكفَوي في”الكليات”:”الحكمة هي العدل، والعلم، والحكم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل، ووضع الشيء في موضعه، وصواب الأمر وسداده، وأفعال الله كذلك، لأنه يتصرف بمقتضى الملك فيفعل ما يشاء، وافق غرض العباد أم لا” .
ويوقعنا الدكتور شحرور في التباسات عمياء لا نكاد نخرج منها بطائل، فهو قد عرف الوصايا العشر بأنها الحكمة، كما سبق أعلاه، لكنه راجع نفسه فعرفها بأنها جزء منها فقط، قال :”فالوصايا العشر بالنسبة لعيسى والنبي محمد هي جزء من الحكمة” ، ليس هذا فحسب، بل إنه راجع نفسه للمرة الثانية فجعل الحكمة جزءا من الوصايا العشر لا العكس، يقول:”أما عن عيسى ومحمد فكلاهما أوتي الحكمة التي تعتبر الوصايا العشر الجزء الأساسي منها وهي من الصراط المستقيم” ؛ وهنا نلتقي مع أعتى علامات التخبط: فالوصايا العشر هي الحكمة، وهي مجرد جزء من الحكمة فحسب لا كل الحكمة، ثم تصبح الوصايا العشر الجزء الأساسي من الحكمة لا مجرد جزء فحسب، وأخيرا فإن الحكمة جزء من الصراط المستقيم!!.
ولا تنتهي عجائب الدكتور شحرور، فهو يقر بأن “الفرقان الذي أنزل على موسى هو نفسه الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان”، أي أن نفس الفرقان الذي أنزل على موسى أنزل فيما بعد على محمد عليهما الصلاة السلام، ولكن النبي محمدا خُص بفرقان آخر غير ذاك الذي يشترك فيه مع موسى، يقول شحرور:”والفرقان نوعان: الأول هو الفرقان العام وهو الذي جاء إلى موسى وعيسى ومحمد، وهناك فرقان خاص جاء إلى محمد وحده” .
إرسال التعليق