آخر الأخبار

اللغة والميتافيزيقا وإعادة بناء المعنى

اللغة والميتافيزيقا وإعادة بناء المعنى

رصدالمغرب / خالد راكز


منذ أن نطق الإنسان كلمته الأولى، بدأت اللغة تمارس فعل السحر؛ فهي تُسمي، وتُميز، وتُفصل. لكن هذا الفعل السحري لم يكن يومًا بريئًا، إذ كان دومًا محمّلًا برؤية للعالم، رؤية ميتافيزيقية كثيرًا ما أخفت قلقًا وجوديًا متجذرًا في بنية الكلمات أكثر مما هو متجذر في الأفكار. وهكذا تحولت اللغة إلى خزان للميتافيزيقا، للثنائيات، وللجوهر الثابت الذي يكتنف الحقيقة.

لكن ماذا لو كانت هذه الميتافيزيقا قيدًا على الفكر؟

وماذا لو أن المعنى الذي نبحث عنه لم يوجد أصلًا، بل صيغ داخل لعبة لغوية تأسست على فرضيات قديمة؟

أليس علينا أن نعيد النظر، لا فقط في “المعنى”، بل في الجهاز الذي يصوغه، أي في اللغة ذاتها؟

إن إعادة بناء المعنى لا تبدأ بإضافة مفردات جديدة إلى القاموس، بل بمساءلة البنية العميقة للغة نفسها:

ماذا نفترض حين نقول “هوية”، “ذات”، “وجود”، “معرفة”؟

وكيف تسكن هذه المفاهيم الكلمات؟

وما مدى قدرتها على التعبير عن التعدد والاختلاف والغموض؟

الميتافيزيقا، كما يفهمها التقليد الغربي من أفلاطون إلى هايدغر، تفترض غالبًا وحدةً ما، وأساسًا ما، وهدفًا ما للغة. أما في المقاربات ما بعد البنيوية، فاللغة انزلاق دائم، يسكنها التعدد والإحالة اللامركزية واللاقرار.

فهل يمكن أن نعيد التفكير في المعنى لا كجوهر نكتشفه، بل كأفق ننشئه عبر الكلام؟ كحدث لغوي، لا ككائن ميتافيزيقي؟

هنا يتحدد مشروع إعادة بناء المعنى:

ليس في البحث عن حقيقة خلف الكلمات، بل في خلق إمكانيات جديدة للتفكير من داخل اللغة، عبر سبر أغوارها وزرع الاختلاف في قلبها.

فالإنسان يفكر داخل اللغة، لا خارجها.

الكلمة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل شرط للفكر ذاته. وكما قال هايدغر: اللغة بيت الكينونة.

لكن هذا البيت لم يكن شفافًا أو محايدًا، بل كان مشبعًا برؤية ميتافيزيقية للعالم، رؤية ترسخت في مفاهيم مثل “الجوهر الثابت”، و”الحقيقة”، و”الهوية”.

ومن هنا، فإن أزمة المعنى التي نعانيها اليوم ليست أزمة دلالات، بل هي في جوهرها أزمة البنية اللغوية التي ورثناها عن التقاليد الميتافيزيقية.

فاللغة ليست بريئة، إنها في جوهرها تعبير عن منظومة ميتافيزيقية تتسلل إلى أبسط المفردات. حين نقول “أنا”، “هو”، “الشيء”، “الحقيقة”، فإننا لا نستحضر أصواتًا فحسب، بل نحمل معنا قرونًا من الفرضيات حول الثبات والهوية والمركز والغاية.

لقد أسست الميتافيزيقا الغربية — من أفلاطون إلى ديكارت، ومن أرسطو إلى هيغل — لغةً تميل إلى التحديد والتمركز، وإلى الإحالة على ما هو خارج اللغة: إلى جوهرٍ مفترض أو كينونةٍ ثابتة.

غير أن هذه اللغة الميتافيزيقية لم تعد قادرة على استيعاب انزلاقات المعنى ولا احتواء الاختلاف؛ كانت دوماً تحجب أكثر مما تكشف، وتقصي أكثر مما تستوعب.

وهنا يبرز سؤال التفكيك كما طرحه دريدا:

فاللغة ليست نظامًا محكمًا من العلامات تشير إلى معانٍ مستقرة، بل شبكة من الاختلافات والإحالات اللامتناهية.

المعنى لا يُكشف، بل يُنتَج.

لا يثبت، بل يؤجل.

ومع دريدا، ينهار ما اعتبرته الميتافيزيقا مركز الحقيقة والعقل والهوية بوصفها ثوابت. ومن ثم، فإن إعادة بناء المعنى لا تكون إلا بتفكيك هذا الإرث — لا عبر نفيه الساذج، بل عبر إزاحته من الداخل، واللعب بلغته، والعمل على هوامشه.

إعادة بناء المعنى ليست إذن بحثًا عن معنى جديد يحل محل القديم، بل تحول في طريقة فهمنا لماهية المعنى.

فالمعنى لم يعد جوهرًا مستقرًا أو وضعية مطلقة، بل أفقًا مفتوحًا، واحتمالًا دائم التشكل، يتولد من تفاعلنا مع اللغة لا من خارجها.

في هذا السياق، يصبح الكاتب أو المفكر خالقًا للمعنى لا مجرد ناقل له، وشاعرًا لا مترجمًا لحقيقة مفترضة.

وربما تكون العودة إلى الشعر — لا بوصفه جنسًا أدبيًا بل نمطًا من التفكير — هي ما يحررنا من قيد الميتافيزيقا.

فالشعر لا يسعى إلى تحديد المعنى بل إلى إثارته، لا يعلو بالحقيقة بل بالتجربة، يقول ما لا يُقال، ويفتح اللغة على الغريب واللامألوف، على طاقة الدهشة والتعدد والانفتاح على الاختلاف.

تفكيك الميتافيزيقا عند فتغنشتاين

يُعدّ تفكيك الميتافيزيقا عند فتغنشتاين موضوعًا فلسفيًا عميقًا يرتبط بعلاقة اللغة بالفكر، وبحدود ما يمكن قوله وما يجب السكوت عنه.

فما فعله فتغنشتاين هو نوع من الهدم البنيوي للخطاب الميتافيزيقي من الداخل عبر أدوات اللغة نفسها.

في الرسالة المنطقية الفلسفية قدّم فتغنشتاين فكرته الشهيرة:”حدود لغتي تعني حدود عالمي.”

أي أن ما يمكن التفكير فيه لا يمكن التعبير عنه إلا بلغة ذات بنية منطقية. ومن ثم، فالميتافيزيقا — بوصفها حديثًا عن الموجود بما هو موجود، وعن الروح والمطلق والجوهر — تستخدم ألفاظًا لا تحيل إلى وقائع محسوسة قابلة للتصوير المنطقي.

لذلك لم ينفِ فتغنشتاين صحة الميتافيزيقا بقدر ما نفى إمكانية قولها منطقياً:”ما لا يمكن الحديث عنه يجب السكوت عنه.”

في تحقيقات فلسفية، عاد فتغنشتاين المتأخر ليفكك فرضية أن اللغة ذات منطق مثالي ثابت، معتبراً أن الميتافيزيقا تسحب الكلمات من سياقاتها الحية وتستعملها في فراغ مفاهيمي.

يقول: “المشكلات الفلسفية تنشأ من إساءة فهم منطق لغتنا.”

لم يعد التفكيك موجهاً ضد القول فقط، بل ضد أوهام اللغة التي تُغري العقل بالتجريد والتعالي.

فمهمة الفيلسوف ليست إنتاج أنساق كبرى، بل علاج الاضطراب اللغوي، أي إعادة الكلمات إلى سياقها الحي.

الميتافيزيقا، بهذا المعنى، تتحول إلى تجربة شعرية صامتة.

وفتغنشتاين لا يعتبر الخطاب الميتافيزيقي هراءً محضًا، بل يرى أن ما لا يمكن قوله قد تكون له قيمة عظمى، لكنه “يظهر” ولا “يقال”.

الصمت هنا نوع من الشعر السلبي، عبور صامت نحو المعنى لا نحو المعرفة.

كارناب: الميتافيزيقا كوهْم لغوي

يعرّف كارناب الميتافيزيقا بأنها خطاب يستخدم ألفاظًا لا تحيل إلى وقائع قابلة للتحقق، فهي جمل فارغة من المعنى وإن بدت صحيحة نحويًا.

مثل قوله: “الجوهر المطلق سابق على الوجود”، أو “اللامتناهي مبدأ الكينونة”؛ فهذه العبارات، رغم تماسكها اللغوي، لا تمتلك أي مرجعية تجريبية أو صيغة منطقية تؤسس معناها.

من هنا يرى كارناب أن الميتافيزيقا ليست خطأ في المحتوى، بل وهم لغوي ناتج عن استخدام اللغة خارج قواعدها المنطقية.

ولا تحتاج إلى تفسير فلسفي، بل إلى تحليل لغوي يكشف فراغها.

في المقابل، يقترح كارناب مشروعًا فلسفيًا بديلاً يقوم على بناء لغة علمية اصطلاحية يمكن التحقق من معناها، بحيث تُحلل كل عبارة إلى بنيتها المنطقية.

وبذلك تتحول الفلسفة من ميدان تأملي إلى تحليل دقيق لبنية اللغة والمعنى.

ومع ذلك، لا ينكر كارناب وجود العاطفة أو الشعر أو الحاجة البشرية إلى طرح الأسئلة الكبرى، لكنه يميز بين القول العلمي القابل للتحقق والقول التعبيري الذي يعبر عن موقف شعوري لا عن واقع موضوعي.

فالقول: “الوجود لغز عظيم” ليس قولًا خاطئًا، بل تعبيرًا شعوريًا لا يمكن تأسيس فلسفة عليه، وإن كان له مكانه في الشعر والفن.

رغم الصرامة المنطقية في مشروع كارناب، رأى فلاسفة التأويل والظاهراتية أن هذا الطرح يضيّق على اللغة ويختزلها في أداة تصوير، لكن لا يمكن إنكار أن كارناب كشف فراغ الخطاب الميتافيزيقي، ودعا إلى إعادة بناء الفلسفة عبر تحليل لغوي دقيق.

لقد نقل السؤال الفلسفي من:”ما هي الحقيقة؟” إلى:”كيف نقول شيئًا له معنى؟”

وهكذا، لم يعد التفلسف عنده اجتهادًا في قول الماوراء، بل فحصًا في بنية ما نقول، ودعوة إلى وعي لغوي يجعل من المعنى شرطًا لكل فكر عقلاني.

والمفارقة أن هذا التفكيك الجذري للميتافيزيقا كان هو ذاته لحظة ميتافيزيقية جديدة، نقدًا للعقل بالكلمة ذاتها.

فكثير من التفلسف لم يكن سوى تلاعب بالألفاظ وبناءات لغوية خادعة تفتقر إلى قابلية التحقق والمعنى الدقيق.

في قلب هذا المشروع يقف كارناب بوصفه من أبرز من حاولوا إعادة بناء المعنى الفلسفي على أساس تحليل اللغة، وتجريد الميتافيزيقا من شرعيتها المفهومية.

من اللغة إلى التداول: نحو أفق جديد للمعنى

تكشف النظريات التداولية والحجاجية حدود المشروع التحليلي في فهم اللغة، وتوضح كيف انتقلت الفلسفة اللغوية من تحليل البنية إلى فهم الاستعمال والوظيفة التواصلية.

فالتحليلية المبكرة (كارناب، فتغنشتاين الأول) رأت اللغة نظامًا شكليًا هدفه تمثيل الواقع بدقة.

أما التداولية والحجاجية (بيرلمان، أولبريختس-تيتكا، أوستن، سيرل، غرايس)، فترى أن اللغة فعل اجتماعي تواصلي لا يمكن اختزاله في الصدق المنطقي، لأن جوهر الخطاب هو الإقناع والفعل والتفاعل، لا مجرد الوصف.

إرسال التعليق