المسيرة الخضراء لاسترجاع الأراضي المغتصبة “قراءة في الدواعي والأسباب”
المسيرة الخضراء لاسترجاع الأراضي المغتصبة “قراءة في الدواعي والأسباب”
رصدالمغرب / عبداللطيف راكز (الحلقة السادسة)
لا يمكن فهم الدواعي والأسباب الداعية للمسيرة الخضراء دون الإشارة إلى كونها تمثل إمتدادا لمعركة الإستقلال التي قادها الشعب المغربي وعرشه العلوي المتين ، ممثلا في نضالات القائد الأبي لهذه الأمة ” محمد الخامس طيب الله ثراه ّ. التي انطلقت معه بوادر الإستقلال منذ عودته من المنفى بمدغشقر . حيث زف للمغاربة بشرى عودة الإستقلال لبلدهم وقرر الإحتفال بأيام 16 و17 و18 نونبر منذ عام 1955 . وظلت مفاوضاته مع الفرنسيين إلى حين اعترافهم في مارس 1956 بعد انتهائها باستقلال المغرب . وفي 7 أبريل 1956.أنهى الملك الراحل محمد الخامس الإستعمار الإسباني ببلده ، حيث أعلنت مدريد في تصريح مشترك معه إلغاء الإتفاقية بينها وبين فرنسا المبرمة في 27 نونبر 1912 والإعتراف باستقلال بلده الذي توج باستعادته لطنجة وإلغاء حكامها الدولي في أكتوبر 1956 يوم 20 منه . وليقوم المغرب بعدها عبر مندوبه المحلي الوصاية في منظمة الأمم المتحدة بطرح القضية استرجاعه لمناطقه الصحراوية ، وهنا بدأت المعركة الحقيقية في استرجاع الأراضي المغتصبة . حيث توجه الراحل محمد الخامس لمحاميد الغزلان قرب أقاليمه الصحراوية عام 1958 في 29 فبراير منه وتوجه بخطابه للمغاربة الصحراويين متحدثا عن جهوده المبذولة لاسترجاع أقاليمه الصحراوية ،عام 1958 في 29 فبراير منه وتوجه بخطابه للمغاربة الصحراويين متحدثا عن جهوده المبذولة لاسترجاع أقاليمه الصحراوية . وبالفعل في 17 أبريل 1958 استرجع الملك من إسبانيا منطقة طرفاية ، فوافت المنية ملك المغرب ” محمد الخامس” قبل أن يكمل مساره التحرري لهذه الأراضي المغتصبة ، لكن الحسن الثاني سار على نفس دربه وأهدافه لتخليص كافة تراب المملكة الجنوبي من ربق الإستعمار ، فاسترجع باقي أقاليم الصحراء المغربية من الإسبان بمقتضى اتفاقية فاس المبرمة في 4 يناير 1969 ، وفتح أبواب الحوار مع الجزائر في مسألة الحدود الشرقية الناتجة عن إلحاق فرنسا بالجزائر أراضي مغربية . وطالب إسبانيا بارجاع سبتة ومليلية والجزر الجغرافية للمغرب . لكن لم يجد آذانا صاغية فقر نهج التحدي والمقاومة السلمية وتجنيد طاقاته لكسب الرهانات الدولية الدبلوماسية لفائدة بلده في إطار رغبته الكلية لتحرير كافة أراضي المغرب بما فيها الصحراوية من براثن المستعمر . فكان تغطيته لفكرة المسيرة الخضراء ، حيث جاء في خطابه 9 يوليوز 1974 : ” إننا قررنا أن تكون هذه السنة ، سنة استرجاع صحرائنا المغربية “. وكرر نفس الخطاب في 20 غشت 1975 قائلا :” لن تنتهي هذه السنة إلا وتكون صحراؤنا قد تحررت نهائيـا والسيادة مبسوطة تماما على أطــرافــها “.
ولعل الأسباب التي دفعت الحسن الثاني للتفكير في هذه المسيرة ، هو الأحداث التي تتالت وليس في صالح المغرب السكوت عنها .
1- حيث أنه في 1973 برزت جبهة البوليساريو كقوة ذات وزن شعبي كبير لدى الصحراويين وتناضل من أجل كرامة الصحراويين ورد الإعتبار التاريخي لهم ، وتدافع من أجل الحصول على الأراضي الصحراوية مدعية أنه لا علاقة للمغرب مطلقا بالصحراء .
2- التفاف العديد من القبائل الصحراوية المناهضة للمغرب آنذاك كالرﯕيبات والبيهات وغيرها المجتمعة تحت لواء خطري ولد سعيد الجماني في ” الجمعية الصحراوية ” ، والتي كانت تضم 104 شخصية هامة من رؤساء القبائل الصحراوية المعارضة للحكم المغربي للصحراء تحت داع الإنتقام منه لأنه مارس عليها الإحتقار و “الحكرة” كما تقول حينا طلبت منه المساعدة في تحرير أراضيها عبر جيش التحرير واتهمها بالخيانة وفض الطرف عنها .
3- عمل إسبانيا على تجنيس العديد من الصحراويين بجنسيتها وتأهيلهم للمسؤولية على المناطق الصحراوية عبر تكليف وتعيين رئيس منهم .
4- سعي اسبانيا الحقيقي للتخلص من استعمارها لهذه المناطق وقيامها بمفاوضات سرية مع الجزائر والبوليساريو وموريتانيا لتقسيم الأراضي الصحراوية وتسليم جزء من هذه الأراضي للمغرب .
5- تصميم الملك الراحل الحسن الثاني على تكملة مساره الكفاحي الوطني المعاصر في إطار المسيرة الحضارية والتاريخية للمغرب المرتكزة على الدفاع عن كيان هذا البلد ومقدساته وصيانة مقوماته الروحية والوطنية وحماية سيادته ووحدته الترابية ولذلك استنهض شعبه بكامله لقيادة مسيرة التحرير هذه وبعث المغرب الصحراوي الجديد ، ولم لا ؟ وقد قام وهو لازال أميرا عهد والده المغفور له محمد الخامس في 1958 بقيادة فرقة عسكرية لتحرير مدينة طرفاية الخاضعة أنذاك لإسبانيا ، دون استشارة أبيه حتى لامه الراحل أبيه على ذلك ، لكنه أعجب بفعله أخيرا .
إذن المسار الكفاحي الوطني عهد الملك الراحل الحسن الثاني توج بنجاح في تحقيق أهدافه المتمثلة في استكمال معركة الإستقلال بالمغرب من الإستعمار الغربي كليا وقد تحقق ذلك بشكل سلمي من خلال تبيان ما يلي :
1- خروج آخر جندي فرنسي من المغرب في 2مارس 1961 ، أي حين تولى هذا الملك عرش المغرب وفي نفس الوقت والحين .
2- جلاء القوات الإسبانية في آخر غشت 1961 .
3- إخلاء القواعد الأمريكية في مارس 1963 .
هذا على المستوى الداخل بالمغرب ، أما فيما يخص الصحراء الغربية ، فقد استرجع المغرب إقليم سيدي افني في اتفاق مع اسبانيا في 4 يناير 1969 .
وكل ذلك كان بطرق سلمية ودبلوماسية لاغير ، فالحسن الثاني كان يؤمن بالحرب كآخر خيار في المعارك ويستحسن عدم الخوض فيه تحت أي داع كان .
يقول في كتابه التحدي ص193 :” أن الذي يخرج اليوم بشعبه في نزاع مسلح ، عليه أن يدرك أن أي حرب لا يمكن أن تكون مغامرة قابلة للحساب المسبق ، ولهذا فقد فعلت كل شيء لتجنب الحرب ، وهذا هو سبب المسيرة الخضراء” . فالسلم لا يعني الإستسلام والحرب إن كانت في إطارها تعتبر المعركة الأخيرة , وذلك ما قاله المرحوم الحسن الثاني في خطاب ثورة الملك والشعب عام 1975 : ” وإذا تمكنا من أن ننال مرادنا ونوفر المال والأرواح ، لكان من الاحسن أن نوفر المال والأرواح وننال مرادنا “ولكن إذا لم يكن إلى الأسنة مركبا ، فلا يسع المضطر إلا ركوبها “.كما استكمل في شقه الثاني بالمسيرة الخضراء التي كانت حدثا هاما حتمته الظروف والملابسات التاريخية للمغرب آنذاك في إطار علاقاته مع دول الجوار سواء الإسباني أو الجزائري أو الموريتاني والتي كانت لها أهداف خبيثة أهمها قطع الطريق أمام المغرب لإنجاز مشروع استكماله الوحدة الترابية .حيث من خلال هذا الحدث استرجع الحسن الثاني أراضيه الصحراوية المغتصبة بسلم وسلام متميز ، وقد ساعده في ذلك بروز العديد من المكونات والعوامل المشجعة له على طريق مسعاه في استكمال وحدته الترابية أهمها :
1- صدور قرار الأمم المتحدة عام 1965 بإنهاء احتلال افني والصحراء وتنظيم استفتاء بهذا الشأن .
2- صدور قرار الأمم المتحدة عام 1974 بوجود نزاع قانوني بين المغرب وإسبانيا. وإحالة هذا النزاع على محكمة العدل الدولية بلاهاي، لمعرفة نوع العلاقات التي كانت تربط بين الصحراء والمملكة المغربية.
3- تصريح الحكومة الإسبانية يوم 24 مايو 1975 بعدم رغبتها في تمديد وجودها في الصحراء،وبعزمها على التعجيل بنقل السلط ووضع حد بصورة نهائية لهذا الوجود.
4- بلاغ موريتاني مغربي صادر عن الطرفين في 12 يونيو 1975 بتأييد مسطرة الأمم المتحدة.
5- صدور بلاغ جزائري مغربي بتاريخ 4 يوليوز 1975 تؤكد فيه الجزائر أنه لا مطمع لها في الصحراء الغربية. وأنها تسجل بارتياح التفاهم الحاصل بين موريتانيا والمغرب بشأن المنطقة.
6- الخطاب الذي وجهه الملك الراحل الحسن الثاني للأمة يوم 16 أكتوبر 1975، والذي يرحب فيه بجواب محكمة العدل الدولية عن السؤالين المطروحين :
أ- أن الصحراء لم تكن أرضا مواتا.
ب- أنه توجد بين المغرب والصحراء صلات قانونية وروابط بيعة.
إذن كل هذه المعطيات والوقائع كانت مشجعة للعاهل المغربي على القيام بهذه المسيرة للصحراء لوضع إسبانيا أمام الأمر الواقع الملزم لها بضرورة الإنسحاب من الصحراء الغربية وتسليمها للمغرب بشتى الوسائل .
فالمغرب عزم كليا سنة 1975 استرجاعا لأراضيه الصحراوية دون هوادة : قال رحمه الله في خطابه 16 أكتوبر 1975 : ” مسيرتنا سنذهب فيها بدون سلاح، يجب أن نتفق على أننا لا نحارب إسبانيا ،لأنها لم يعد لها دخل في المسألة، ونطلب من إسبانيا من الآن أن تسجل علينا أننا لن نحاربها ولن نشهر عليها الحرب : لأنه إذا ماتت روح مغربية، أو هلك مغربي واحد، فإنها ستكون مسؤولة عن ذلك أمام الرأي العام داخل إسبانيا والرأي العام المغربي والرأي العام العالمي . وأقول لإسبانيا أ، 350 ألف مغربي ومغربية سيدخلون الصحراء . ليست لنا حرب مع إسبانيا وأي مشكل آخر ، مع العلم أن إسبانيا قررت الخروج من الصحراء. فلتخرج وتترك الأرض لأصحابها. ولكن مقابل هذا اقول : أن المغرب مستعد، بل من الواجب عليه أن يقوم بواج الدفاع عن النفس وحفظ الكرامة وصيانة الأرواح ، فيما إذا وجد في طريقه حاجزا غير حاجز إسباني. إن كل حاجز إسباني اعترض سبيلنا لن نحاربه . فبإذن الله ليس هناك ما يدفع إسبانيا لمحاربتنا . أما إذا كان هناك عنصر أجنبي عن الإسبانيين فلن نتهاون في الدفاع، بل لن نتردد في الزحف ، وإذ ذلك سيكون الزحف صدا للعدوان ودفاعا عن النفس.” ويذكر معاصري الحسن الثاني أنذاك أنه كان يعتزم المشاركة شخصيا في هذه المسيرة ليتحمل مسؤولية نتائجها . لولا تدخل وزرائه الذين اجتمعوا به وأقنعوه بخطورة الموقف. وبعدها كلف الوزير أحمد عصمان بترأس طليعة الموكب الذي انطلق نحو الصحراء صبيحة 6 نونبر 1975.
لقد شكلت المسيرة الخضراء إنتصارا للمغرب في معركته لاسترجاع الأراضي المغتصبة منه بالصحراء لاستكمال وحدته الترابية ، حيث حققت الهدف وقررت إسبانيا التفاوض مع المغرب حول صيغة خروجها من الصحراء، بعد أن هاتفه الملك الإسباني اخوان كارلوس، داعيا إياه إلى التفاوض في نفس الحين إذا عادت مسيرته إلى موطنها الأصلي. درءا لأي صدام عسكري بين المغرب وإسبانيا . ولأن المغرب أحرجها بدبلوماسية أنذاك أمام المنتظم الدولي والرأي العام الإسباني نفسه. ولهذا توجه الحسن الثاني من قصره بأكادير يوم الأحد 9 نونبر 1975 قائلا لشعبه ولمتطوعي المسيرة : “إننا ولله الحمد قد حققنا ما كنا نحن وأصدقاؤنا ومحبونا ننتظر منها، فلذا علينا أن نرجع لمنطقتنا نعالج الأمور بكيفية أخرى وأساليب جديدة.” ولم يمض أسبوعا واحدا حتى تم التوقيع بمدريد على الإتفاقية الثلاثية بين المغرب وإسبانيا وموريتانيا التي وضعت بتاريخ 14 نونبر 1975 حدا للوجود الإسباني بالصحراء، والتي عرضت على الجماعة الصحراوية يوم 26 فبراير 1976 للمصادقة عليها بالإجماع.
II- المسيرة الخضراء ” قراءة في الدلالة “.
-لا يجادل أحد في كون الحسن الثاني ،كان قائدا للمغرب متميزا بخصال عدة ، وقوة في الشخصية وصلابة في الرأي والموقف . لذا كان إصراره واضحا على استكمال دوره التاريخي في استرجاع المغرب لحقوقه الثابتة في الوحدة الترابية التي وضعها نصب عينه كشغل شاغل له ، وهاجس لم يفارقه لحظة سواء في جهوده الدبلوماسية أو في نضالاته التي سعى من خلالها إلى تكريس وتثبيت روابط الإتصال بين الشمال والجنوب ن وإلى حماية التراب المغربي من كافة أنواع الأطماع والتحرشات . إلى ترسيخ قيم الأصالة والإستمرارية والثبات على المبدأ في المغرب والسعي لتحقيق إستقلال المغرب الكامل وحيازته لباقي أقاليمه الصحراوية المغتصبة وكذا في إنجاز بناء حقيقي إقتصادي وإجتماعي له ، مرفوقا بعجلة الإصلاح والتغيير قدما عبر ترسيخ دور المؤسسات الدستورية . لذلك كان متميزا في كامل مسارات حياته وخياراته المصيرية للبلد والتي نذكر منها المسيرة الخضراء السلمية التي بفضلها استرجع أراضيه المغتصبة وصفى الإستعمار الإسباني . هذه المسيرة التي حملت في طياتها أبعادا دلالية نوجزها كلأتي:
• 1- عبرت عن عبقرية الملك في خلق حل فعلي مسالم للقضية الصحراوية . حقق من خلاله أهدافه في استكمال الوحدة الترابية، ودون إراقة للدماء، وفي ظرف تاريخي وجيز جدا عبر التركيز على الوجدان الوطني لهذا الشعب، والحضور الفعلي للصحراء الأكثر توهجا في قلوب المغاربة.
• 2- أبرزت مدى تعلق العرش العلوي المجيد بقيم السلام والإيمان الوثيق بأهميتها . وهو أمر طبيعي لأن الإسلام دين التسامح والقيم النبيلة ودين الإعتدال وليس الحرب أو الإقتتال . فالمسلمون لا يلجؤون للحرب إلا دفاعا عن النفس أو نشرا للإسلام.
• 3- أكدت للمنتظم الدولي مدى تمسك الملك الراحل بالمشروعية والإنتصار لروح العقل والقانون . حيث أن المسيرة جاءت بعد أن صرح الملك للجميع محتوى الرأي الإستشاري لمحكمة “لاهاي” الدولية حول علاقة المغرب بالصحراء والتي أكدها لاحقا عبر قيم الولاء والبيعة التي يقدمها الصحراويون باستمرار للملك الهمام .
• 4- أوضحت للقيادات السياسية في العالم مدى تشبث المغرب المطلق بالمحكمة والحوار كسبيل لحل مشاكله مع الجيران والأعداء، وتصفية الإستعمار من بقية أراضيه الصحراوية وكذلك جعلت الجميع يندهش من الإنضباط الذي تحلى به المنخرطون في المسيرة ،خصوصا حين خاطبهم جلالته بالعودة لمواقع إنطلاقهم بعدما ادت المسيرة هدفها . حيث لبوا النداء ورجعوا بنفس النظام والوعي والشعور بالمسؤولية الذي تحلوا بها حين أمرهم بالإنطلاق، مما أثار احترام وإعجاب المراقبين الدوليين والمتتبعين لمراحلها واهدافها وسياقها التاريخي الذي وضعت فيه. وقد أعطى العاهل بهذه المسيرة درسا للعالم مفاده أن الإنسان لما تكون بداخله قوة الخير ، وتتوفر لديه إرادة التحدي يستطيع قهر آفات ومعالم الشر والإدلال التي يمكن أن يعافيها ، أو التي تتشخص أمامه .وما دام يتوفر على هذه الإرادة والشجاعة فإنه يستطيع الصمود أمام قوى الظلام ومحاربتها. وعدم الخضوع لإرادتها الإذلالية له ولشعبه. وأثبتت للكل أن النظام السياسي المغربي الملكي لا يقبل المساس بمقدساته وثوابته فيما يتعلق بالشأن الصحراوي أنه نجح في استرجاع أراضيه المغتصبة في الصحراء بموجب تبنيه مقاربة سلمية و سيقوم لاحقا بالتنمية فيها والإستقرار وإنه قبل تنظيم الإستفتاء تحت إشراف الأمم المتحدة تأكيدا لهذا النجاح لاغير ولثقته في نفسه. ولمنطق الحق ولتشبثه بالحلول السلمية . وحرصا منه على إنقاد المجموعة الإفريقية أنذاك من كل تصدع وهذا ما أعلنه الحسن الثاني رحمه الله في مؤتمر القمة الإفريقية بنيروبي يوم 26 يونيو 1981 .
وقد كان مرجع الملك في طرحه للمسيرة الخضراء ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من مسيرات سلمية في مكة في خضم صراعه مع مجتمعه الجاهلي .وفي سياق دعوته للإسلام ، حيث حج مرارا للبيت المعمور بمسيرات سلمية من صحابته والمؤمنين برسالته. ومرجعه كذلك المسيرات السالفة في التاريخ، كمسيرة ماوتسي تونغ في الصين ومسيرة روسيا وفرنسا وإن كانت هذه المسيرات فاشلة في أدائها ، وكذا أساسيات هذه المسيرة تتمثل في :
• 1- كون الملك الحسن الثاني حاول أن يكون إمتدادا لأبيه في سياسته التحريرية للمغرب التي نهج فيها أسلوب المفاوضات مع فرنسا وإسبانيا. حيث قال طيب الله تراه في باريس يوم 15 فبراير 1956 :” إنه لا توجد بالنسبة إلينا أية حرية جدرية بهذا الإسم ومقبولة من النفوس ، إلا في دائرة وحدة التراب القومي وعدم قبول أي تجزئة فيه .” وذلك نهج أبيه محمد الخامس في نظرته للقضايا الخارجية و وفي مقدمتها حرب التحرير الجزائرية .
• 2-كونه رحمه الله كان يؤمن باسلوب الحوار في علاجه للقضايا المصيرية. فحين إستقبل أوراق اعتماد السفير الإسباني أورتيغا ساليناس يم 29 مارس 1987 قال :” إننا نؤمن وسنظل نؤمن بالحوار ،ولنا اليقين أنا سنجد لدى الحكومة الإسبانية والعاهل الإسباني نفس المشاعر والمبادئ”. وفي ندوة صحافية عقدها بمراكش يوم 10 أبريل 1987 ، مع نادي الصحافة لإذاعة أوربا رقم “1” حين قال:’ سنحاول الدفاع عن حقوقنا، ولكن عن طريق الحوار والحوار دائما ‘ ولا أفكر في وسيلة أخرى غير الحوار مع إسبانيا .”
• 3- إعتماده على استثمار رصيد المغرب الحضاري في علاج أوضاعه الصعبة عبر السلم وتبني خيارات التعايش والتسامح مع الجيران . حيث يقول رحمه الله في خطاب 20 غشت 1975 : ” نحن نريد تحرير صحرائنا بالوسائل السلمية وبالطرق القانونية … لأننا شعب لنا حضارة وتاريخ عريق في الأصالة ، والشعوب الأصيلة والعريقة المجد هي التي تسعى دائما إلى حل المشاكل بالطرق السلمية .
• 4- إنطلاقة أي خيار سياسي ومصيري للأمة من ضرورة الحصول على ارجاع الدولة واقتناعها . إذ قبل قيام بالمسيرة الخضراء أفشى سره لأعيان الدولة ومستشاريه ووزرائه حتى يحصل على إجماع أو شبهه في القرار . وليس اتخاذ القرارات على منطق القوة والعنف والتسلط. ففي خطاب الملك يوم 22 أبريل 1987 قال :” يتساءل الجميع : لماذا هذا البلد آمن ومطمئن ولله الحمد؟ لأن مؤسساته لم تقم على السرقة. بل قامت على المشروعية مند المولى إدريس الأول إلى يومنا هذا ،من مشروعية إلى مشروعية ، ولكن في إطار المشروعية الإسلامية البيعة والوفاء بالبيعة والقيام بما تفرضه البيعة من الدفاع عن المقدسات وعن الحصون وعن الإسلام “.
• 5- ارتكازه في حل مشاكله المستعصية داخل المغرب أو خارجه على الدعوة للسلم وفق ما جاء في شريعة الله : «إن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله .» (سورة الأنفال 62)، وقوله تعالى « يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان .»( سورة البقرة 206-207) وقوله كذلك : « أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن . » ( سورة النمل ) .إذ كان هذا منطق الحسن الثاني في مسالمته نابعا من محتوى شرع الله لأن الحوار يؤدي إلى تحقيق التعارف بين الطرفين وتجاوز الإختلاف بينهما، وتبادل المصالح والمنافع ، وهذه السياسة التي سلكها المغفور له الحسن الثاني في استرجاع أراضيه المغتصبة ، وعلى هديها يسير الملك الشاب ” محمد السادس ” ، الذي يخطو بالبلاد بخطى ثابتة للنمو والتقدم والإزدهار ، وكذا لاستكمال وحدته الترابية بعمق تاريخي ، وحذق حضاري نابع من بصيرته ، مما جعله يحضى بدعم دبلوماسي دولي كبير ، ويحضى بتقدير في جهوده، واحترام من قبل المنتظم الدولي.
III- التأصيل الصحراوي : قراءة في مفهوم البيعة :
لقد زف جلالة الملك في خطاب 16 اكتوبر 1975 ،للمغاربة جواب محكمة العدل الدولية على السؤالين المطروحين :أ-أن الصحراء لم تكن أرضا مواتا . ب- انه توجد بين المغرب والصحراء صلات قانونية وروابط بيعة. فما معنى البيعة ؟ وما دلالتها ؟ وكيف توثقت بين المملكة والصحراويين؟
يقول جلالة الملك المغفور له في خطاب سالف له :” بان الملكية لا تقوم بدون حكم ، فالملكية عندما تقوم على البيعة وهي عقد ديني يفرض على الملك أن يكون عاملا نشيطا وألا يكتفي بمعالجة الشؤون من بعيد ، بل العكس عليه أن يدير الشؤون بطريقة مباشرة . ” وحول البيعة وتعريفهـا يقـول : ” إن البيعـة رباط خاص قائم بيني وبين كل مغربي ومن واجبي بمقتضاه أن أعتبر كل مغربي واحدا من عائلتي سواء كان غنيا أو فقيرا ..” ويشكل ذلك احسن ضمان ضد التشكك والإنتهاك المتولدين عن طول ممارسة السلطة في إطار نصوص قانونية محددة . ” إن البيعة شيء لا يمكن التلاعب به . فأنا مرتبط بالتزامات إزاء رعاياي كما أن هؤلاء يرتبطون بالتزامات نحوي . فأنا في نفس الوقت اخاذ منهم وملكهم .” وفي موضوع آخر يقول : ” ينبغي أن لا يغيب عن الأذهان، أن العقد الذي يربطني بالشعب هو عقد البيعة حيث أضع إرادة الشعب فوق كل اعتبار . ”
فالبيعة إذن في تعريفها هي ذلك الرباط الكلي الذي يتم بين الملك وشعبه ، أو الملك والطرف المبايع له تحت أي طائلة كان ذلك ، لكي يؤكد إعتزازه به ويلتف حوله ويطلب دعمه الكلي له في شؤونه العامة والخاصة . فالملك خليفة الله في أرضه. والخلافة تعني تسيير الأمور الدينية الصادرة عن الله / المقدس الكلي والذي بعثها للخلق ، ولكافة الآدميين لتنفيذها في مسار حياتهم الدنيوية ، حيث يعتبر الرب الاعلى أن ما صدر منه نص قرآني ومن شرع هو الهدى الصحيح في مسار البشرية ، “إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ” إذن الملك خليفة الله في أرضه ومبايعته تعني الإذعان له كخليفة في تسيير أمور الدين والدنيا ، وتوثيق تلك البيعة تأكيد مكتوب على دلالتها ومدى فاعليتها واستمرار مفعولها إلى حين خلعها . فالإمامة والخلافة تلك إذن أمنا للأمة ونعمة لها . ودلالة البيعة اصلا نابعة ومؤكدة في الشرع . والبعة توثق الصلة بين السلطان والرعية لذلك فهي جزء من التعاقد الديني والوطني الموثق بالدستور . وهي ذات تقاليد تتم فيها بمناسبة عيد العرش / أي عيد الحاكم ، أي اللحظة التي تولى فيها عرش أسلافه المكرمين ، والتي اصبح إنطلاقا منها حاكما فعليا للامة أو الدولة ، وهي تحتوي دلالة رمزية لتمسك الشعب بقيادته السياسية ، أي ملكه ن الحافظ الفعلي لوحدة البلاد ومبادئه وهي أسمى شكل من أشكال الممارسة السيادية. وقد قام الصحراويون بمبايعة الملك في مناسبتين
المراجع :
– سلمية المسيرة الخضراء بقلم الدكتور عباس الجيراري ( مستشار الحسن الثاني سلبقا ) ندوة دولية
– الدور الرائد للمغفور له الملك الحسن الثاني في ملحمة الإستقلال وتحقيق الوحدة . الرباط أيام 2-3-4- نونبر 2000
***- الحسن الثاني رائد التنمية – نفس المرجع – امحمد الدويري وزير سابق .
وقد قام الصحراويون بمبايعة الملك في مناسبتين :1) حين عاد خطري ولد سعيد للمغرب عام 1975، واقر البيعة المكتوبة له .( كما أسلفنا في بداية الكتاب حديثنا عنها ودوناها في فصل سابق ). وكذلك البيعة للجماعة الصحراوية والقبائل الصحراوية عام 1979 ، والحق أن سند هذه البيعة الصحراوية للملك هو الإعتماد الإستبطاني لمفهوم الوحدة والسيادة بالمغرب الذي تأكد من خلال الحكم الإستشاري لمحكمة لاهاي الدولية ، والذي إستند في دعم حقوق المغرب في أقاليمه الصحراوية منذ أزيد من قرن وربع القرن ، وبايعه العلماء وقادة الجيش والمقاتلين من الرعية وممثلي الشعب وأطيافه .ولذلك تعتبر هذه البيعة من الوثائق التاريخية لتأصيل العلاقة بين الصحراء والمغرب. قال تعالى :﴿ ولولا دفاع الله الناس بعضهم بعضا لفسدت الأرض ، ولكن الله ذو فضل على العالمين ﴾وقول الرسول﴿ص) من أطاع أميري فقد اطاعني ﴾ فهي امتداد تاريخي للعرف التقليدي المستمر لدى المغاربة والمسلمين ، منذ أن بايع الصحابة وبقية الرعية ، خليفة الرسول (ص)أبو بكر الصديق إثر وفاة الرسول (ص). وأصبح ذلك التقليد في البيعة ملازما للمغاربة والذين ترجموه عند مبايعتهم للملك إدريس بن عبد الله مؤسس الدولة الإدريسية بنفس الروح والمنهجية والتحصين والتمكين وبنفس الشكل مع تطوير آلياته التقاليدية والمعرفية حسب الزمان والمكان مع الحفاظ على الخصوصية المغربية في ذلك .إذن البيعة إجماع من قبل الأمة وممثليها على الملك ،وتتم بشكل موثق يشرف عليها العلماء ويوثقها العدول الإشهاد حتى يتم تثبيت مكوناتها شرعا ووطنيا وحتى تبطن في داخلها إقرارا بالإمامة وهي دستوريا يرى بعض فقهاء القانون أنها جزء من القانون المغربي مرسخا عبر العصور .وأن لها إمتدادات في التراث المغربي متوارث عبر الأجيال المتعاقبة على المغرب لأنها جزء من مقولة ترسيخ الحكم القائم المبنية على إحترام إرادة الأمة وإقرار إجماعها حول القيادة السياسية للدولة. فالبيعة في المغرب تمزج الدلالة الروحية للملك والسياسية له . حيث تعتبر الملك أميرا للمؤمنين وتزكيه ، للقيام بدوره العقائدي في صيانة شرع الله وحماية مذهب سلفه . وتقر به كملك من جهة أخرى مسؤول عن تدبير الشأن العام وترسيخ معالم الديمقراطية في الحكم في إطار يحافظ خلاله على توازن مسؤولياته في حفظ الروابط الإجتماعية وتوحيد آليات الدولة ومكوناتها بعيدا عن الطائفية او القبلية في اختياراتها المصيرية ، وفي ترسيخ نمط الحكم المغربي ذا الخصائص المكتملة المبنية على مبادئ تكريس فصل السلط والإلتزام بسمو القوانين الدولية ودعم مقومات مبادئ التعايش الرافضة لأسس التمييز والصائنة لهوية الدولة المغربية الموحدة ، ولذلك يحرص النظام الملكي في المغرب على إقامة طقوسها المتلازمة وتخليدها في عيد العرش كما يحتوي ذلك العمل والفعل من بعد إشهاري صريح مرتبط بمظاهر التعبير عن تقدير الأمة للملك وتزكيته في حكمها وتدبير شانها العام . حيث تشارك في حيثياتها كاملة الشرائح والفعاليات بالمجتمع ومكوناته ويساهم فيها بشكل كبير علماء الأمة لما في ذلك من دلالة دينية وشرعية وكذا رؤساء الأحزاب والمؤسسات التشريعية والتنفيذية حتى تصبح بفعل هذه الهالة المحيطة بها بمثابة استفتاء تأكيدي للملك وترسيخا لمفهوم تمثيله لإدارة الدولة وسيادة الأمة . وحتى تكون بهذه الشكل والصيغة ذات قوة إلزامية للمتعاقدين ( الشعب/ الملك) تحدد من خلالها أشكال المسؤولية المشتركة بين الطرفين الواضعة حتما مصالح البلد والأمة فوق أي اعتبار ، استنادا لمفهوم السيادة الغير القابل للتجزأة أو المساومة او التفريط ، والمترسخ على أحكام العلاقة الروحية والسياسية الرابطة المتعاقدين ، وفق اختيارات فردية وقواعد وفائية للإلتزام صلبة .لأن البيعة إقرارا بإمارة المؤمنين التي تعني خلافة الله في الأرض قولا وفعلا ، وهي من منظور الفقه الدستوي سابقة للقانون المكتوب ، حيث هي في العمق الدلالي الذي تحتويه أسمى السبل التنظيمية للحكم والمؤطرة لاختصاصات السلطات والمحافظة على توازنها ، ولعله من خلال توضيح ما سلف يمكن التأكيد على الخلاصات والاستنتاجات التالية :
1) أن المغرب منذ إسترجاعه استقلاله سنة 1956 وهو لا يفتأ يضع التحفظات ويقدم الدلائل على احقيته في استكمال وحدته الترابية ، ويشير في كافة المناسبات للبعثات التي توجهت للعديد من الدول ويشرح لكافة القادة السياسيين اصراره على استرجاع وحدته الترابية بالسبل الديبلوماسية وأنه لن يتردد في استعمال أي طريقة أخرى إذ اضطر إلى ذلك ، ولم يتأخر في أداء أي تضحية لازمة له في ذلك ، وإنه حتى حين دعت اسبانيا إلى الإستفتاء حول الصحراء لم يتخوف منه وقبل به ادراكا منه وعلى يقين بان سكان الأقاليم الصحراوية لا يمكن إلا أن يكونوا مغاربة . ذلك أن الحسن الثاني رحمه الله قال تأكيدا لما سلفناه في خطابه ب 20 غشت 1975 : “نحن نريد تحرير صحراءنا بالوسائل السلمية والطرق القانونية ” ويضيف :” إذا لم تنجح هذه الوسائل فلن يبقى لنا إلا أن نخوض غمار المعركة الأخيرة ألا وهي معركة التضحية والإستشهاد .” وبناء على ذلك كان الملك الراحل ينتظر فقط القرار الإستشاري لمحكمة العدل الدولية حول علاقة المغرب بصحرائه انطلاقا من الجواب على السؤالين :
1- هل كانت الصحراء أرض موات ؟
2- ما علاقة المغرب بالصحراء تاريخيا ؟
وحين قالت منظمة الامم المتحدة كلمتها لم يترك النظام المغربي مسألة استرجاعه لصحرائه للظروف ، بل حدد عام 1975 كأعلى سقف زماني لاسترجاعها ، ونظرا لكون ملف الصحراء المغربية ظل مفتوحا على المستوى الدولي . فقد تعامل معه بكل حذر ويقظة وصمود أساسه لا تفريط في حبة رمل واحدة من صحرائه ، وان الوحدة الترابية خيار لا رجعة فيه مهما اشتد تآمر الخصوم .
2) إن النظام المغربي خاض معارك دبلوماسية قوية من أجل استرجاع صحراءه عبرت عن دهاء الملك الراحل وقوة شخصيته وصموده التام تأكدت قوة هذه المعارك وبلغت حدتها حين تحدت الحسن الثاني في 1980 بمؤتمر القمة الافريقية نايروبي. وأكد للعام من أن لا تراجع عن مغربية الصحراء ، وأنه سيقبل بإجراء الاستفتاء التأكيدي في الصحراء في إطار جبر الخاطر لأصدقاء المغرب العرب العديدين والأفارقة والأوربيين الذين أجبروه على ذلك حتى يخرج الجميع راضيا من مأزق الصحراء المفتعل ومن تم وبعد انتصاره الديبلوماسي في قضيته الصحراوية ، عمل على إحداث مجلس استشاري صحراوي يتم من خلاله التعرف على مشاكل الأقاليم الصحراوية ومواطنوها عن قرب .
3) أن النظام المغربي الملكي إلى حد الآن لازال يبحث عن حلول سلمية للقضية الصحراوية ويعبر بصدق عن رغبته أمام المنتظم الدولي في إغلاق ملف النزاع حول الصحراء الغربية وطي صفحته على أساس ألا يحرم أي مواطن مغربي منحدر من الأقاليم الصحراوية من حقه في تأكيد مغربيته ، وأنه ظل في مناسبات عديدة يتوجه إلى المواطنين الذين قد تكون ظروف معيشتهم أو دواعي محددة جعلت فكرة الإنفصال عن الوطن تغريهم ، ويناشدهم العودة للعيش في بلادهم بين أهلهم معززا نداءاته بقولته الشهيرة .”إن الوطن غفور رحيم .” وقد استجاب العديدون لهذا النداء وعادوا للعيش مكرمين معززين في ظل الوحدة الترابية للمغرب وتعايشوا مع واقعه الجديد .
4) إن نضال النظام الملكي من أجل استرجاع صحرائه إلى حظيرة بلده الأم كانت نضالا مريرا ناور فيه الحسن الثاني المنتظم الدولي بذكاء بارع وكان هذا النضال مرفوقا بنزعة التحدي لمؤامرة الأعداء من الجيران سواء الإسبان أو الجزائر أو موريتانيا . وتعتبر استعادة المغرب لأراضيه الصحراوية من قبل الملك الحسن الثاني رحمه الله من أروع انجازات النظام الملكي أنذاك وأشد الابتكارات التي قام بها وأنجزها . لأن معركة الصحراء ورجوعها للمغرب من أشد وأصعب المعارك المصيرية التي عرفتها الأمم والشعوب ، حيث عمد الراحل لمحاولة استرجاعها من الإسبان عبر طريق سلمية لم تستجب لها ، وتمادت في مخططاتها لفصل الصحراء كليا عن المغرب إلى أن جاءت مبادرته في يوليوز 1974 للتصدي سياسيا ودبلوماسيا لهذا الوضع ، وحاول فرانكو مواجهتها بإجراء استفتاء في الصحراء بعد أن رتب الأمر مع من يعنيهم الشأن وخلق ” الجماعة الصحراوية” لهذا الغرض ، ففوجئ الحسن الثاني بذلك خصوصا حين علم بأن اسبانيا تعد العدة للاستفتاء للصحراء حول استقلالها أو الإلتحاق بإسبانيا ، هناك قام الملك بخلق وفد كبير متألف من شخصيات مغربية هامة للإعداد لملف المغرب في الدفاع عن صحرائه ، والوفد فيه خبراء دوليين ومختصين في القانون الدولي ، ورفع القضية لمحكمة لاهاي الدولية التي انتصرت لملفه عبر جلساتها الإستشارية التي تواصلت حتى نهاية غشت 1975 .
5) إن الملك الراحل الحسن الثاني قرر كسب معركة الاسترجاع للأراضي الصحراوية عبر أسلوب الحوار والسلم . لذلك استقى فكرة المسيرة الخضراء من السيرة النبوية ، حين فعل الرسول (ص) مثله في فتح مكة، وكيفية تخطيطه وجمعه للجيوش من أجل لم الشمل وصلة الرحم ، ولذلك هم بتطبيق المسيرة السلمية للصحراء فور إصدار المحكمة الدولية رأيها في 16 أكتوبر 1975 ، واعترفت بأن الصحراء ليست أرضا دون سيد ، وأنه توجد بين الصحراء وملوك المغرب روابط قانونية وروابط البيعة ، هناك قال رحمه الله :” … إلا أن نرجع إلى ديارنا لنلتقي من جديد مع مواطنينا ، ولما كانت صحرائنا لا تستطيع أن تأتي إلينا كان علينا أن نذهب إليها ، إذ كانت تنتظرنا ومعنى ذلك انه كان علينا أن نرجع إلى ديارنا بسلام وعزم ، أقوياء بحقنا وقوة إدراكنا، وكان من واجبنا أن نلتقي مجددا مع إخواننا الصحراويين لقاء طوعيا مقترنا بالحماس “. وهكذا انطلقت المسيرة الخضراء وعبرها استرجع المغرب بقية أراضيه ممثلة للعالم معجزة العصر، وللتاريخ قمة تتويج لتلاحم تاريخي بين الملك والشعب في معركة الوحدة والتحرير المغربيين ، وكانت دليلا واضحا من جهة على التحدي الحسني للمنتظم الدولي ولنظام المؤامرة الجيرانية وتأكيدا على سلميته وحوار الراحل الجاد والمتميز .
هكذا إذن نصل إلى تأكيد استنتاجين هامين وبناء على ما سلف :
• 1- الأول وطني: إن للمسيرة الخضراء بعدا تاريخيا ووطنيا هام ،ساهم في ترسيخ للوحدة الترابية حيث أنها لم تكن ظاهرة استعراضية لعضلات المغرب أمام الأعداء ، ولم تكن مسرحية الهدف منها الضغط على اسبانيا وكسب اجماع وطني سعيه كسب شعبية جديدة للملك، ولكنها فعل وطني حقيقي كان مسعاه استكمال الوحدة الترابية أنذاك ، وذلك خلافا للدول العربية والإفريقية التي خضعت للاستعمار ، ذلك أن المغرب لم يجابه مستعمرا واحدا . ومن شأن ذلك إن كان تحقق أن يسهل عليه استرجاع استقلاله ووحدته الترابية بعد انتهاء الاحتلال ، بل واجه عدة أنماط من الاستعمار . فقد استرجع سيادته عبر مراحل ” 2 مارس 1956 ” استقلت به المناطق المستعمرة من طرف فرنسا ، و” 17 ابريل 1956″ استقلت المنطقة الشمالية المستعمرة من اسبانيا ، ويوم “26 أكتوبر ” استرجعت طنجة وأخرجت من النظام الدولي ، وفي “17 أبريل 1958″ استرجعت منطقة طرفاية من اسبانيا ، وفي ” 30 يونيو 1969″ استرجعت منطقة سيدي افني من اسبانيا ، وظلت اسبانيا بمنطقة الساقية الحمراء ووادي الذهب ، وفي “عام 1973″ عبرت اسبانيا عن رغبتها منح الاستقلال للصحراء الغربية لدويلة مصطنعة قوامها 74000 فردا حسب احصاء اسبانيا أنذاك ، فكان من المغرب أن رفض المخطط ذاك تكون هذه السنة سنة إسترجاع صحرائنا الغربية ” ، هذا على مستوى البعد الوطني للمسيرة الإستعماري الجديد وقرر مقاومته معلنا في خطاب يوليوز 1974 :” إننا قررنا أن.
• 2- أما على مستوى البعد التاريخي للمسيرة : فيتجلى في كون نزول المغاربة للشارع مند تفجير قضية الصحراء واستجابة لنداء الملك في التطوع للمسيرة الخضراء ، وبالملايين المتطوعين في أسابيع معدودات . وما رافق هذا الهبوط من نقاشات للقضية الصحراوية شاركت فيها أنذاك كامل طبقات وفئات المجتمع وشرائحه المختلفة اجتماعيا مما احدث قطيعة سريعة وشاملة للنمط السياسي الذي كان عائدا في الممارسة السياسية بالمغرب قبل 1975 ، وهو نمط الإحتراز والخوف من النزول للشارع ومن الجدل السياسي في مد ذاته لأن الدولة كانت ترفض كل أشكال التعبير عبر العواطف أو الجوارح السياسية للمواطنين . فالكبت السياسي كان سائدا أنذاك وكان تسلط الدولة وآليات القمع واضحا من متابعات ومحاكمات واعتقالات .
لكن المسيرة الخضراء، كانت تحولا تاريخيا وتأسيسا لفترة انقشعت معها السحب وتحركت معها الأحزاب الوطنية والديمقراطية والتقدمية للمشاركة مع الملك في جلسات عمل تحت رئاسته. وفتحت أبواب الإذاعة والتلفزيون للجميع حتى تحدث الكل عن هذه القضية لأول مرة عبر الأثير أحزاب معارضة وزعماء يساريون كانوا بالأمس مغضوب عليهم. وكلف الملك بعضهم لتوجيه رسائل رسمية لقادة دول العالم كعبد الرحيم بوعبيد وعلي يعتة ومحمد بوستة. إنها كانت بالفعل تأسيسا لمرحلة تاريخية هامة في المغرب بدت فيها معالم عالم جديد، ومناخ سياسي أضحى يهيمن تدريجيا على الساحة الفكرية والسياسية للمغرب، تحركت خلاله رياح التغيير في مغرب سادت في سياق حياته السياسية سالفا سنوات عجاف، معها رفع المنع الإداري عن الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية. واسترجع حزب التقدم والإشتراكية حقه في العمل العلني، وانتعشت حياة الأحزاب وتعددت مرامي التجمعات الحزبية التي يتحدث فيها المعارضون. وخرج الصدح السياسي للشارع واستلذ الجميع بدايات حرية التعبير في مغرب البناء الذي وضع أسسه الراحل الحسن الثاني . ومع نجاح المسيرة الخضراء وتحقق أهدافها ،بدأ التحدي الجديد للمغرب .تحدي أساسه التنمية، كيف يستطيع هذا المغرب ونظامه السياسي الذي ناضل من أجل إسترجاع أراضيه الصحراوية ، وبايعه الصحراويون وعلقوا أملا كبيرا عليه في الإنتصار لهم وتحقق رفاهية العيش السليم لأهلهم داخل إطاره وتحت حماية التاج المغربي،وبالفعل تغيرت معظم مظاهر الحياة في هذه الأراضي، وتحولت رمال الصحراء وسهولها الجرداء لمدن وحواضر بكل لوازمها . بها طرق معبدة على الآلاف من الكيلومترات وموانئ ومطارات شيدت وفتحت أبواب الصحراء أمام باقي الوطن والعالم الخارجي،في وقت تحولت فيها مظاهر الوسط الإجتماعي للأروع والأعظم. قال الحسن الثاني في ذلك :” إن المسيرة ستكون مسيرة فتح مبين على الشعب المغربي وعلى إخواننا الصحراويين.” ذلك ما سنعرضه في الفصل الثالث فور حديثنا عن مسلسل التنمية بالصحراء المغربية ونفقاته.
III– الفصـــل الثــالــث
في التنمية بالأقاليم الصحراوية
-أ-في مفهوم التنمية الصحراوية ودلالتها :
– سجل العالم كله عبقرية الحسن الثاني في الدفاع عن الوحدة الترابية وتحرير الأراضي المغتصبة في الجنوب الصحراوي بدبلوماسية راقية وسياسة حكيمة والتحام شعبي متين أعطى مثالا واضحا في قوة هذا الشعب وإرادة الملك الراحل وترابط العلاقة بينهما. ومع عودة المسيرة إلى ربوع انطلاقتها بدأ عهد الإزدهار والنماء في الأراضي الصحراوية، وانطلق قطار التنمية ليشمل كافة مناح الحياة في الجنوب الصحراوي المغربي المسترجع، هذه التنمية التي سعت لتطوير الأقاليم المسترجعة في إطار من التعبئة لإنخراط الجميع في هياكلها من أجل رفاهية الكل وازدهار واقتصاد الجميع في سياق العيش الكريم للساكنة بأتمها. لأن هذه التنمية حين تحقق هذه الأهداف تكون قد ساهمت إلى جانب الوعي بالمؤامرات المحاكة ضد المغرب والصحراويين من قبل الاعداء للوحدة الترابية في متانة الجبهة الداخلية وتعزيز البناء الديمقراطي والتنموي بإرادة سلاحية وطنية لهذه المناطق ولأجل تحقيق المساعي. هذه فرض النظام الملكي في المغرب على الحكومة أن تكون الأقاليم الصحراوية في صدارة الجهوية المتقدمة المنشودة لما يعزز تدبيرها الذاتي للشؤون المحلية ، وبما يجعلها في مستوى التحديات الجديدة للمغرب وكذا للرفع من نجاعتها في سياق الدفاع عن مغربية الصحراء وتنميتها . وعليه ترسخت مشاريع تنموية وبشرية في الصحراء المغربية، وخلقت برامج علمية لتوفير فرص الشغل للشباب. وعززت مكانة العمالة الإجتماعية والإنصاف، وفتح الباب للتائبين والعائدين من مخيمات تنذوف وتم استقبالهم وإعادة إدماجهم ، وعززت مجالات العدالة الإجتماعية والإنصاف في كامل مداراتها وكل ذلك لتكون هذه المنطقة متميزة تنمويا وتكون دليلا على نجاح مفهوم الجهة في المغرب.
ب– في مسارات التنمية بالصحراء ونفقاتها :
حين عادت الصحراء لربوع المغرب عام 1975 ، عبر المسيرة الخضراء والمفاوضات المغربية الإسبانية التي تلتها، كانت المظاهر العامة للمناطق الصحراوية المسترجعة سيئة وكان إقتصاد هذه المناطق مزريا ، وتجهيزات البنية التحتية ضعيفة جدا ، والخدمات رديئة فكان من الضروري بذل قصارى الجهود لأجل تحسين الأوضاع في مناطق كانت نائية بالأمس كالساقية الحمراء ووادي الذهب حتى تكون في مستوى باقي مناطق المغرب تنمويا وحتى تندمج بدورها بسرعة في قطار الحياة المغربية الوطنية. فالصحراء حين سلمت للمغرب كمنطقة من قبل الإستعمار ، كانت جل مناطقها كانت منعدمة البنية التحتية . فالطرق لم يكن يتجاوز طولها كشبكة 70 كلم عام 1975 وهي الآن تتجاوز 9457 كلم تغطي كلها الجهات الثلاثة للمنطقة هذه . والتعليم كان محدودا جدا فلم يكن عدد الحاصلي على الباكلوريا مابين 1960 و 1975 عددهم يتراوح ثلاثة شخوص وهم لم يحصلو على شهادة الباكلوريا هذه إلا بعد ذهابهم لإسبانيا حيث أتموا دراستهم الثانوية . وبعد 1975 تم بناء مؤسسات تعليمية غطت كل أقاليم المنطقة ولم تتخرج الدف الأولى من حاملي شهادة الباكلوريا بالصحراء إلا عام 1987. وقد ضحى المغرب بأموال كثيرة من أجل بناء المقومات الإقتصادية والإنسانية للمناطق المسترجعة في وقت كان هو بحاجة إلى هذه الأموال لتطوير وتلبية إحتياجاته العسكرية وعتاد حربي وتقوية بنيته الإقتصادية. لكن النظام الملكي المغربي أنذاك وشعبه قررا التضحية لأجل تحدي الواقع البئيس للصحراويين انذاك الذين استنجدوا به، فقام بتقوية البنيات الإقتصادية والتحتية للأراضي المسترجعة الصحراوية على حساب القدرات الشرائية للمغاربة ومستوى عيشهم وذلك لحماية الوحدة الترابية الوطنية . لكن للأسف الشديد كان هناك خلل في التسيير الإداري والمالي لتجربة التنمية المغربية في الأقاليم الصحراوية. فالتقرير الذي قدمه المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي أمام الملك في أكتوبر 2013 يقول أم مفعول الإطار التحفيزي والنفقات العمومية على القطاع الخاص في الصحراء بقي محدودا والنفقات العمومية على القطاع الخاص في هذه المنطقة بقي محدودا ولم يحقق الإقلاع الإقتصادي في الجهات الجنوبية وهذا ما جعل مستوى البطالة يبقى مرتفعا بالمقارنة مع المعدل الوطني ( 15% من منطقة الصحراء مقابل 9 % على المستوى الوطني، وجعل الاهداف التي من أجلها ضحى الملك والشعب بأموال عدة للإقلاع التنموي في الصحراء لم تتحقق وهي محور الآثار الكلية لمخلفات الإستعمار بسرعة . لكن مع مرور أكثر من 40 عاما من الصراع من أجل طي ملف النزاع حول هذه الصحراء المفتعل بين المغرب والأعداء الجيران لم يتحقق أي تقدما ملموسا في هذا الإتجاه. حيث تؤكد المعطيات الواردة من الأقاليم الجنوبية الصحراوية أن مؤشرات التعليم والتربية والصحة تقدمت في حين تراجع مستوى الفقر وتحسنت الخدمات والبنيات التحتية حتى أصبحت هي الاعلى على المستوى الوطني. ورغم أن الدراسة المالية الدقيقة لما تم صرفه على عملية التنمية الإقتصادية والإجتماعية تؤكد وجود مشاكل كثيرة في التسيير الإداري لهذه العملية، وكذا ضعفا للمردودية مقارنة ما صرف من دولارات واستثمارات للغاية. لكن إجمالا يمكن الجزم بأن المجهود المغربي الإنمائي في الصحراء قد غير ملامح الضعف والتهميش التي عرفناها وعهدناها في الأراضي المسترجعة الجنوبية فور حصول المغرب عليها من قبل الإسبان، لدرجة تبوئت معها هذه المنطقة المركز الأول وطنيا على مستوى الإستثمار وعلى مستوى ارتفاع مؤشرات الصحة وإنجاز البنيات التحتية كالموانئ ذات المستوى الرفيع والمطارات بمدن الصحراء الرئيسية وأصبحت المدن أكر تطورا وعصرنة وتمدنا على مستوى الوطن، حيث أن السكان المقيمين في الحواضر في المنطقة الصحراوية تبلغ نسبتهم 74 % مقابل 60 % في كافة جهات المغرب، وهي طفرة حصلت بشكل عميق نتاج أساليب الحياة التي تطورت في المدن وشجعت الصحراويين على الهجرة للعصرية منها خصوصا على المستوى الإجتماعي الذي حصلوا على مزايا عدة وامتيازات تختلف عن الآخرين. لكن هذا المستوى يسعى الصحراويون لتطويره حاليا حيث يرغبون في تحديث أساليب التنمية القائمة لمدنهم والتي تبدو لهم أكثر من 40 عاما متجاوزة . لذلك يجب استنباط أساليب جديدة تتجاوب مع الإشكاليات الجديدة المطروحة، وموافقة لدينامية مشروع الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب كحل للقضية منذ عام 2007. ذلك أن سكان الصحراء أصبحوا يرفضون بشكل كلي حالة الجمود في الوضع الصحراوي الذي يرغب في مواصلة تكريسه الجانب الجزائري أو البوليساريو. لأن الجمود والحفاظ عليه هو المبرر الحقيقي على إفلاس الطرف الجزائري والبوليساريو في كافة إستراتيجيته لتدبير النزاع في ملف الصحراء الغربية . فالدبلوماسية الملكية أفلحت بعلاقاتها الخاصة في استيعاب التحولات التي عرفها العالم والتغييرات التي عاشتها المنطقة من جراء ذلك فاقتنعت الأطراف الدولية بفعالية نظرتها ورؤيتها السديدة لمعالجة إشكالية الصحراء الغربية. مما أدى بردود الفعل الجزائرية أو “البوليسارية” للسعي فقط لتأزيم الوضع في المناطق المغاربية بشكل أكبر وفي الساحل عبر تشجيع نمط الإرهاب القاعدة أو داعش أو غيره هناك. وكل ذلك يكرس معاناة فضيعة لشعوب المنطقة حاليا أو مستقبلا .
فالمغرب إذن منذ إسترجاعه أراضيه الصحراوية عمل على نهج سياسة التمييز الإيجابي بالنسبة للأقاليم الصحراوية وذلك نظرا أولا : لكون الإستعمار الإسباني في تعامله مع المناطق الصحراوية عمل فقط على استنزاف ثرواتها ولم يعمل على تقوية بنياتها ،فكان ضروري للمغرب أن ينمي القدرات الذاتية لهذه المناطق فور عودتها لحاضرة الوطن.ثانيا : لأن العمل الإنمائي الذي قام به يدخل في باب تعزيز التيار الوحدوي بالأقاليم الصحراوية الجنوبية وتثبيت السلم الإجتماعي داخل هذه الأقاليم ، ولهذا انطلق منذ الثمانينات من انتهاج هذه السياسة العمومية الهادفة إلى خلق تنمية ايجابية لفائدة الأقاليم الصحراوية لردم الهوة بين الشمال والجنوب فيما يتعلق بالتنمية الإجتماعية . ولعل المتتبع لمسار التنمية بالمناطق هذه سيلاحظ نموذجين من هذه التنمية ؟ الأول: انطلق من 1975 إلى 1999 ، وهو نموذج أسسه النظام الملكي على تعاقد بينه وبين أعيان المناطق الصحراوية وكلفهم بذلك في سياق تعزيز الوحدة الترابية ، وتعاقد فيه كذلك مع النخب الصحراوية المحلية لتحقيق هذه الغاية ولإدارة مشكل الصحراء، وهو اتجاه صب في سياق منح اللإمتيازات الريعية لبعض الأعيان والتي للأسف الشديد غذت النزاعات الإنفصالية لدى فئة من الشباب والعاطلين المهمشة . والنموذج التنموي الثاني : إنطلق في الصحراء مع بداية الملك الشاب ” محمد السادس ” ، والذي أعطى فيه الأولوية للبرامج التنموية التي تروم تقوية الأقاليم الجنوبية الصحراوية على مستوى الخدمات الإجتماعية والسوسيواقتصادية ، وأيضا البنيات الصحراوية . وإذا كانت النتائج على مستوى التنمية بالصحراء غير مقبولة وغير مفرحة لدى العديدين ، فإن ذلك مرجعه هو طبيعة جغرافية للصحراء المتشعبة ، وكذا الإرث الإستعماري الذي ورثه المغرب عن الاستعمار الإسباني لهذه المناطق .حيث تركها مناطق خالية شبه قاحلة . وإلى جانب هذا هناك عامل اختراق ” بوليساريو الداخل ” للمغرب الذي جعل هؤلاء يحركون رياح الإحتجاج والثورات من الشارع كنتيجة مباشرة لأي هفوة أو تقصير في الأداء الإنمائي ، ولعل رواد الطرح التقصير الإنمائي في الصحراء يدعمهم أصحاب النظرية القائلة بكون المغرب لم يستثمر في التنمية بالصحراء حتى الجزء القليل مما يكسبه من ثروات الصحراء الطبيعية وهو طرح في حقيقته عديم الجدوى لأن المغرب يستثمر أكثر مما يجنيه على مستوى استغلال الثروات السمكية . فهو يبيع للإتحاد الأوربي ولشركائه الدوليين هذه الثروات السمكية بأثمان زهيدة للحفاظ فقط على اعتراف ضمني من قبلهم بمغربية الصحراء فيما يتعلق الأمر بالأسماك سواء تعلق الأمر بالأسماك والصيد البحري . أما ما تعلق بالرمال والمقالع وكل الثروات الطبيعية فإن المغرب لا يستفيد منها مباشرة لأن الصحراويون هم من يستفيدون من امتيازات مباشرة كقبائل وتحالفات عائلية كبرى في الجنوب الصحراوي معروفة . وهذا في الواقع يبين أن المغرب استثمر في الصحراء دون أن يكون لديه مقابل على المستوى الإقتصادي من حيث إسهام الإقتصاد الصحراوي في الإقتصاد الوطني ، ولا على المستوى السياسي والدبلوماسي من حيث الإعتراف بالمجهودات التي استثمرها المغرب في هذه المناطق الجنوبية ، كما أن معطيات وأرقام التنمية البشرية مرتفعة في الصحراء وتؤكد ذلك ، إلى جانب أن تصريح ملك المغرب في طرح مشروع الحكم الذاتي كمقاربة علاجية للنزاع حول الصحراء الغربية في النقطة 13 من مبادرة الحكم الذاتي المتحدث عنها والتي قدمها المغرب في مجلس الامن الدولي في 11 أبريل 2007 يؤكد على ضرورة أن تستفيد الصحراء من موارد مالية ذاتية وأن يكون إقتسام الثروات والموارد بشكل يسمح لهذه الجهات والأقاليم بالنمو المستديم والذاتي ، وهذا دليل على كون المغرب لم يستفيد من ثروات الصحراء لتنميتها لا اليوم ولا غذا . ولا يمكن لأي متتبع محلي أو دولي أن ينكر المجهودات الجبارة التي قامت بها الدولة المغربية في أقاليمها بالصحراء منذ استرجاعها لها حيث ضخت أموالا كثيرة في ذلك لأجل تسريع المشروع الإنمائي بالصحراء. فعلى مستوى الطرقات فقط وكما أشرنا سالفا كل الأقاليم والجهات بالصحراء مرتبطة بالشبكة الطرقية والمطارات حيث أصبحت كل المدن تتوفر عليها ولعل النموذج هو مطار الحسن الأول بالعيون ، ومطار الحسن الثاني بالداخلة ، والموانئ عديدة والقرى مرتبطة بالطرق فمثلا بجهة العيون بوجدور نلاحظ جل القرى مرتبطة بالجهة والطرق ، والصيد البحري تم تأهيل قرى الصيادين وتجديد الموانئ وإعادة تأهيلها ، وبالسكن لم تعد هناك مساكن صفيحية في جهة العيون بوجدور ولا السكن العشوائي . والصحة أصبحت هناك مراكز صحية كثيرة ، وقد كلفت هذه المشاريع الإنمائية في الصحراء ميزانية تفوق 1200 مليار درهم وهو مبلغ يظن الكثيرون أنه كان كافيا لأن يجعل المناطق الجنوبية تعيش رخاء تاما ، لكن الملحوظ هو كون المدن الجنوبية تعرف تناقضا واضحا ما بين ما رصد لها من أموال لترسيخ البنية التحتية في الأقاليم الجنوبية وما تعيشه بعض مناطق الصحراء من إهمال ملحوظ لبنياتها . ولعل هذا مرجعه سوء التدبير الذي عرفه التسيير الإداري لعملية التنمية هناك ، حيث أن الأربعين سنة الماضية في مجال الإستثمار التنموي لاحظ علماء الإقتصاد والإجتماع أن التغييرات التنموية لم تبد بشكل ملحوظ إلا في العشر سنوات الأخيرة ، في حين الثلاثين السالفة كان فيها تسيب في تدبير المال العمومي حيث أن هناك فواتير لمشاريع وهمية لم تخرج حيز الوجود ، إلى جانب مشاريع أخرى صرفت عليها أموال كثيرة دون أن يكون لها وقع تنموي على سكان المنطقة وكأنها لا تهمهم في شيء مطلقا . كما أن هناك أزمات لم تحل إلى الآن في هذه المناطق كأزمة البطالة التي لا زالت مرتفعة إلى الآن مقارنة مع مدن شمال المغرب . وقد سعى النظام الملكي عبر استثماراته الإنمائية هناك إلى معالجتها لكن مند صدور قرار منع الوظيفة العمومية المباشرة أصبحت مدن الجنوب تعرف ارتفاعا كبيرا في عدد العاطلين مما قد يشكل خطورة على الوضع الصحراوي الحالي لان أهل الصحراء ممدوحون منذ القديم بناء على مراسيم وقرارات صدرت بعهد الحسن الثاني تقتضي منحهم امتيازا على مستوى التوظيف المباشر مقارنة مع الداخل ، وهذه الخطورة لأجل امتصاصها تتحمل الدولة المغربية ملياران ونصف شهريا لإنعاش الصحراويين حيث أن هناك آلاف الصحراويون مستفيدون في عطالتهم من بطاقات الإنعاش الوطني حتى اصبحت هذه الاستفادة مدخولا قارا لعائلات كثيرة . وحتى أصبحت هذه البطائق لأغلب السكان ” نمط عيش ” لأن هذه البطائق أصبحت مقياسا للحظات الغضب الشعبي التي تعرفها أقاليم العيون والداخلة والسمارة وبوجدور بين الحين والآخر نتاج اقصاءات لها من الإستفادة من بطائق الإنعاش . ويصل عدد العاطلين عن العمل والمستفيدين منه 16 ألف بطاقة نصفها بالعيون لوحدها ، أي أن حوالي 40 ألأف نسمة بالعيـون : إذا فرضنا أن معدا عدد أفراد الأسرة الواحدة يصل إلى خمسة تعيش من مدخول إنعاش مما يعني أن 41 بالمئة من الساكنة تعاني الهشاشة الإجتماعية وكل بطاقة إنعاش عن البطالة يأخذ صاحبها 1500 درهم شهريا ، إذن مبلغ المساعدة للتعويض عن البطالة المخصصة للصحراويين سجل 24000000 درهم ( أي حوالي مليارين ونصف سنتيم)، منها 12386000 تضخ في جيوب العيون وحدها وأمام التحالف الإقتصادي والإجتماعي الذي كانت تعرفه المنطقة الصحراوية لجأت الدولة لهذا الأسلوب خصوصا أمام الجفاف الذي عرفه المغرب في الثمانينات . فقبل الإستقلال كان الصحراويون يعتمدون نظام رعوي أو نشاط تجاري بسيط يربطهم بجزر الكناري حيث يستوردون الشاي والأثاث المنزلي من هناك ، وقد مكنتهم حكومة أحمد عصمان من رخص تجارية وشجعتهم على القيام بأنشطة تجارية استيرادية كما اشرنا معها استطاع الصحراويون مراكمة الثروات ، غير أن اصضدامهم من طرف العامل صالح مرزاك أعادهم إلى نقطة البداية وذكرهم بالحقبة الاستعمارية ، حيث عانوا سكان طانطان والعيون وطرفاية وبوجدور الكثير في عهده ، ووضعوا في سجون قلعة مكونة والغى تراخيصهم التجارية مما أدى إلى شلل إقتصادي ، عاد معه السكان لممارسة تربية الإبل والماعز . وعانوا أكثر مع الجفاف الذي عرفه المغرب (1985-1982 ) والذي اذى إلى نفوق أعداد كبيرة من قطعان الإبل والماعز وإفلاس أصحابها . مما أذى إلى وضعية إقتصادية سيئة كانت ستؤدي للإشتعال لولا حكمة الملك الراحل،حيث لمس وجودى نزوع انفصالي داخلي بدأ يتكون سيؤدي لموجة احتجاجات ، فقام بالحد منه ، وحاول تجاوز انعكاسات هذا الجفاف بتوزيع بطائق الإنعاش الوطني على الآلاف من الصحراويين . هكذا إذن سيتضح وبشكل ملموس أن المغرب قام بكثير من الجهود المادية والمعنوية من اجل تنمية الأقاليم الصحراوية مند استرجاعها إلى الآن ، وكانت كلها مضنية ومكلفة بالنسبة لإمكانيات دولة كالمغرب . ورغم ذلك لم يكترث النظام الملكي لهذا ، بل عمل على الإستمرار وشعبه في هذا المشوار الذي بدأه مند 1975 ،لأنه أسس عمله على منطق كونه استرجع شيئا ضائعا منه ويجب الحفاظ عليه مهما كلف الثمن . مما أدى إلى إيمان الجميع بهذه القناعة والعمل عليها . لكن هذه المجهودات انتابها الخلل على مستوى التسيير الإداري والمالي . وقد أحس بذلك الملك الشاب وصرح به قائلا في إحدى خطاباته وبشجاعة وصراحة كما عهدناه فيه …أدركنا معه أننا لم نكن في حقيقة الأمر سوى بصدد إنتاج كل شروط المجتمعات الريعية الإشكالية المليئة ببؤر الفساد والمفسدين بكل تجلياتهم ، إفتقدنا معه في هذه المناطق ذلك الجنوبي الزاهد والعفيف والصدوق الذي كان مضرب الأمثال لكل ابناء الاقاليم الاخرى لتجد الدولة نفسهـا في مأزق كبير وهي تحاول لملمة الأمور وإصلاحها، خصوصا بعد التقرير الصادم للمجلس الإجتماعي الإقتصادي والبيئي .فبؤر الفساد توغلت ، بل أصبحت هي من يدير هذه الأقاليم أمام سلطات محلية وعمومية ضعيفة ومرتبكة ، إن لم تكن متواطئة ، هكذا هي الخلاصات التي أختمرت الآن رؤوس كل أبناء الأقاليم الذين تغنوا في يوم من الأيام بالأماني الإصلاحية .يقول الفاعل الحقوقي بالصحراء “ابراهيم الغزال ” ، وهو يتحدث عن بؤر الفساد في الصحراء : ” …المشهد التنموي الآن بهذه الأقاليم الذي أفلت زمامه من دولة المصلحة ، هو الآن في قبضة نخب منحدرة من بؤر الفساد تلك التي لن تشيد لنا إلا طرق مغشوشة كسابقتها ومشاريع وهمية وهي في حقيقة الأمر توزع كل تلك الإمكانات الهائلة فيما بينها غير آبهة بمعدلات البطالة المرتفعة ولا بكل الرهانات التي تبين تؤرق الدولة الآن ” . وانطلاقا مما سلف يتبن نوع من الغيظ في نفوس الصحراويين الأشراف على إخوتهم من اصحاب المطامع الذين استغلوا قضيتهم في الواجهة وربحوا منها كثيرا وخيبة الأمل . وفي حديث هؤلاء عن استغلال ثروات الصحراء يعرجون على ذلك بقولهم أن هناك إطارين في مناقشة هذا الأمر . أما الأول والذي تنامى مؤخرا ، فإنه يروج لنفسه على المستوى الدولي وهو جزء من الطرح الإنفصالي التابع لأجندا البوليساريو وهو مليئ بمعطيات غير حقيقية . وإطار آخر يؤسس خطابه على قيم العدالة الإجتماعية والتوزيع العادل للثروات علما أن الجميع متأكد بأن ما أنفقه المغاربة على أقاليم الصحراء لأجل تنميتها يفوق بكثير ما يحصل عليه من ثروات الصحراء. وكل ذلك في سياق استكماله لمعركة الوحدة المغربية لأراضيها ، وتلبية لنداء الشعب الصحراوي وقبائله التي أعلنت البيعة للتاج العلوي بطواعية واقتناعا منها بأنه السبيل الوحيد لخلاصها من المستعمر الإسباني وتوفير العيش الهنيئ لها .
من خلال ما سلف نلاحظ أن الأقاليم الجنوبية الصحراوية مند استرجاعها عرفت ايقاعا حركيا تنمويا متواصلا ، اتسم بتعدد الأوراش التي قام بها المغرب في إطار التنمية المستديمة لهذه الأقاليم ونهوضه بمستوى التنمية في هذه المناطق بما ضمن انخراطها الفاعل في محيطها السوسيواقتصادي على المستويين : الجهوي والوطني . لأن هدف المغرب ونظامه الملكي من كل هذا العمل المضني هو تحقيق الرفاهية والعيش الكريم ، والكرامة الإنسانية لشعبه الوفي الصحراوي والآخر بكامل أرجاء المملكة الشريفة من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال حبا في هذا الشعب وعملا من أجل إسعاده وأمنه وراحته وجعله يعيش حياة كريمة عبر الدفع به إلى الأمام بين الأمم ، وقد أصبحت هذه الأقاليم بفعل هذه المجهودات الجبارة شريكا فعالا في التنمية المستدامة كمثيلتها بالداخل ، كما يقول الصحافي عبد السلام عبد الواحد الهيشو في كتابه : ” العقد المفتوح للمسيرة الخضراء في بناء أوراش الإصلاح والتنمية “، حيث شهدت المناطق الغربية تحولات في مختلف المجالات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والإنسانية والبيئية والرياضية والصناعية والحياة العامة إلى جانب نظيرتها الشمالية والغربية والشرقية والوسطية . ويسعى المغرب حاليا في الظرف الراهن الذي يعيشه ، والناتج عن تعدد المؤامرات التي تدور حوله وتسعى لخلق القلاقل داخله وكذلك خلق الإضطرابات وسطه والتي تساعد العديد من الجمعيات المشبوهة حقوقيا والأحزاب السياسية ذات الأجندا الاجنبية عليه والتي تتقاضى ملايير الدراهم لأجل دعم انفصاليين بالصحراء أو بالداخل وكذلك عدم تشبث الدول الكبرى بموقف ثابت اتجاه إدارة ملف الصحراء الغربية وتقلبها في المواقف بين الحين والآخر ، إلى خلق ثورة نوعية تنموية في الصحراء ، تقطع الصلة مع التسيير الإداري الفاسد والمالي بهذه المناطق على مستوى التنمية واستثمار الأموال المخصصة لها في الطريق السليم بعيدا عن دعم القباليات أو كبار الصحراويين المستفيدين من الريع وامتيازات الدولة المغربية على حساب المهمشين من أبناء هذه المناطق. وذلك حتى يقطع الطرق امام إحتجاجات الشارع التي يمكن أن يستثمرها أعداء الوحدة الترابية والإنفصاليين عبر إضفاء روح جديدة على المشاريع الإنمائية بالصحراء الغربية لرفع التحديات المذكورة سالفا الآنية المستقبلية لقضيته الوطنية . وهذه الثورة التنموية الجديرة تعتمد على قناعات وأرضيات خمسة يجب الاستناد إليها والإعتماد عليها بشكل رئيسي ، وهي :
• 1- الحرص على جعل المناطق الصحراوية في صدارة الجهات التي يجب أن يعمل المغرب على جعلها متقدمة في الشكل المنشود ، لأن هذا العمل يقويها ويجعلها تعزز بنفسها تقدمها عبر تسييرها لشؤونها الداخلية وتدبيرها الذاتي لكينونتها في سياق جدي وملتزم .
• 2- عبر جعل هذه الأقاليم نموذجا لعدم التمركز ، وللحكامة الجيدة المحلية ، وذلك بواسطة تزويدها بأجود الأطر ، وتخويلها بالصلاحيات الواسعة تحت الإشراف القانوني الحازم لولاة وعمال الملك .
• 3- بواسطة إعادة هيكلة المجلس الملكي الإستشاري للشؤون الصحراوية ، في أفق إنتهاء ولايته ، عبر إعادة النظر في تركيبته وتقوية تمثيليته ، بانفتاحه على نخب جديدة ذات كفاءة وغيرة وطنية ،وتأهيل وملائمة هياكله ، وطرق تسييره مع التحديات الجديدة والرفع من نجاعته في التعبئة للدفاع عن مغربية الصحراء وتنميتها .
• 4- بالسعي لمراجعة سياق العمل لوكالة تنمية الأقاليم الجنوبية ونفوذها الترابي عبر تركيز كافة جهود هذه على الأقاليم الصحراوية بالإنكباب على إنجاز مشاريع التنمية البشرية ، وبرامج تنشيطية وتقويمية لفائدة المنطقة .
• 5- بحث المواطنين والإعلاميين وأصحاب الهيئات السياسية والنقابية والجمعويين على ضرورة تأطيرها للمواطنين ذوي النزوع الإنفصالي أو المحسوبين على حساب أجندا الجزائر وغيرها ، من أجل زرع روح الغيرة لديهم على هذا الوطن وقيمه وقيم المواطنة الحقة . لأن هذا العمل لا يجب أن يقتصر على الدولة والنظام والسلطة فقط بل يقتضي تآطر الكل بما فيهم رؤساء الفعاليات الوطنية والمحلية للقيام بهذه التعبئة الشاملة.
وتعتمد كذلك على ترسيخ مفهوم الجهة الموسعة ، الذي يعتبر خيارا سياسيا واجتماعيا حديثا تبناه الملك الشاب محمد السادس في تسيير شؤون البلاد وخلق الانفتاح الديمقراطي الحداثي بالمغرب ، و يتوخى منه في العمق تمكين مختلف الجهات البلد من الصلاحيات والموارد التي تؤلها لتلبية حاجيات سكانها ومتطلباتهم والإسهام بشكل موازي في التنمية الوطنية الشاملة على مرتكز التضامن والتآزر والمساهمة في التطور العام للدولة ، والجهوية هذه يجب أن تتم في إطار (مغربي- مغربي ) كما قال صاحب الجلالة: “أي أن تكون في دلالتها وعمقها ذات ارتباط بالهوية الوطنية أرضا وفكرا من خلال التأكيد على الخصوصية المغربية والتنوع للروافد الثقافية والمجالية المنصهرة في هذا الوطن وهويته الموحدة. يقول الملك محمد السادس : ” طموحنا الوطني الإرتقاء من جهوية متقدمة ذات جوهر ديمقراطي وتنموي. إذن الجهوية الموسعة التي يريدها صاحب الجلالة هي جهوية تشكل تحولا نوعيا في أنماط الحكامة الترابية وتكون بمثابة انبثاقا لدينامية جديدة للإصلاح المؤسساتي العميق ،ولعل اعتماد مفهوم الجهوية الموسعة في المناطق الصحراوية يعتبر رسالة من الملك لأعداء الوحدة الترابية فهي تعزيز للمسار الديمقراطي في المغرب ،نظرا لكونها سيضمن الإقلاع لجميع الجهات المغربية لأجل تنمية مستدامة لكل وتحتفظ بخصوصية كل منطقة على حدة،خصوصا في المناطق الصحراوية حيث ستزيد في مساهمة كل القطاعات السياسية والإقتصادية والإجتماعية في التنمية والإنتاج وخلق الثروات والإستجابة لاحتياجات الصحراويين على جميع المستويات بما فيها دمقرطة الحياة العامة وكذا الرد على خصوم المغرب وأعداء القضية الوطنية ، وهي إلى جانب هذا كله إنجاز مغربي ملكي هيكلي بشكل كبير لا يرده الملك عاديا بل يريده انبثاقا كليا لدينامية جديدة للإصلاح المؤسساتي العميق ، ولهذا فهي توجه حاسم تحديثي لتطوير هياكـل الدولة والنهوض بالتنميـة المندمجة وليسـت مجرد إجـراء تقنـي أو إداري ،ولذلك يجب أن يقود هذه الجهات ويرأسها شخوص ذوي غيرة وطنية على المصلحة العامة ومن مختلف المشارب ، وتتكامل اختصاصاتهم وخبرتهم الواسعة بالشأن العام وبالخصوصية المحلية لبلدهم التي سيكتشفونها ويدافعون عنها في إطار مقاربة تشاركية بين الهيئات والفعاليات المعنية والمؤهلة للنهوض بمدنهم . فالغاية المثلى للعمل بالجهوية في المغرب وإشراك الصحراء بخطة العمل هذه التي اختارها المغرب لتكون قاعدة نموذجية للدول النامية ونموها تعتبر مبادرة ملكية شهمة تسعى لإكمال مسار التنمية في الصحراء مع تجاوز الأخطاء الناتجة عن التسيير الإداري لهذه التنمية في الأربعين سنة السالفة . ولذلك بلور لها الملك مرتكزات أربع يجب أن تتأسس عليها وهي :
①التشبث بمقدسات الأمة وثوابتها في وحدة الدولة والوطن والتراب والعمل في سياقها على أن تكون الجهوية الموسعة تأكيدا ديمقراطيا للتمييز المغربي المليء بروافد متنوعة ثقافية ومجالية منهمرة في وطنية موحدة.
②الإرتباط الوثيق بآليات التضامن والإلتزام بها ، حتى لا تختزل الجهوية في مسار توزيع جديد للسلطات بين المركز والجهات . فالتنمية الجهوية لن تكون متكافئة وذات طابع وطني إلا إذا تلازم استثمار كل جهة لمؤهلاتها على الوجه الأمثل مع إيجاد سبل ناجعة للتضامن المجسد للتكامل والتلاحم بين المناطق في المغرب الموحد .
③إعتماد تناسق والتلازم والتوازن في الصلاحيات والإمكانيات وتفادي تداخل الإختصاصات أو تضاربها بين مختلف الجماعات المحلية والسلطات والمؤسسات.
④إنتهاج اللاتمركز الواسع الذي لن تستقيم الجهوية دون تفعيله في نطاق حكامة ترابية ناجعة قائمة على التناسق والتفاعل .
مع مراعاة هذه المرتكزات واعتمادها تبلغ إذن الجهوية مستواها الرائع وتحقق الهدف الأسمى منها وهو إيجاد جهات قائمة الذات وقابلة للإستمرار عبر بلورة معايير عقلانية وواقعية لمنظومة جهوية جديدة تحتوي تمثيلا حقيقيا للصحراويين ولفئة الشعب المغربي لا صوريا وتكون جهوية انتاجية تثلج صدور العباد بانجازاتها وليست بيروقراطية فقط ذات عناصر غير ابهة للمصلحة العامة وغير مؤهلة لحسن تدبير شؤون مناطقها . وقد أولى العاهل المغربي في خضم اهتماماته بالجهوية الموسعة في المغرب كمركز حضاري وعملي جديد في مغرب التغيير والتحديث عناية خاصة للجهوية في الأقاليم الجنوبية المسترجعة ، حيث أرادها أن تكون في صدارة الجهوية المتقدمة لان المغرب سيسعد كثيرا إذا حقق أهداف الصحراويين في النماء والعيش الجميل والرفاهية المرجوة من قبله وسيكون قد أنجز وعده وجسد عزمه القوي على تمكين أبناء وسكان الصحراء المغربية الأوفياء للعرش من تدبير شؤونهم المحلية ضمن جهوية متقدمة يتولى تفعيلها بإرادة سيادية وطنية ترتقي بالجهوية الناشئة إلى مستوى الجهوية السامية ذات البعد التنموي الحق والديمقراطي المتميز التي يراهن الملك الشاب وشعبه على أن يكون عماد الصرح المؤسسي للدولة المغربية التي يحرص على ترسيخها كدولة عصرية للقانون والمؤسسات والحكامة الجيدة في تلازم وثيق يحقق ذلك بين صيانة حقوق الوطن في وحدته وحوزته وسيادته وحقوق كل المغاربة بمن فيهم الصحراويين في المواطنة المسؤولة ،والكرامة الموفورة ضمن مغرب موحد ومتضامن ، آمن ومتقدم .
خلاصة الوضع في الصحراء وتحديات المستقبل
يمكن اعتمادا على ما سلف ذكره من أرقام وشهادات صحراويين: الإقرار بأن ما تحقق من بناءات في الصحراء منذ الأربعين سنة ، وخاصة ما عرفه عهد الملك الشاب محمد السادس من انجازات هامة تقاطعت في مقوماتها السياسية والتنموية مع الاهداف التي يسعى الملك من خلالها إلى إعادة التوازن المطلوب في نظر الساهرين والمسؤولين عن الملف ، بين تحسين شرط الأمن والإستقرار في هذه المناطق الصحراوية المنتج الذي يوفر فرص الحياة الطبيعية لسكان الصحراء وبين متطلبات ترسيخ الإختيارات الديمقراطية والحقوقية التي يفرضها انفتاح المغرب على محيطه الإقليمي والدولي . إلا أن هذه البناءات ظلت غير كافية وغير متوازنة نظرا لما عرفته من إخلالات مالية وسوء تسيير من قبل المسؤولين ضمن المفارقات التي نلاحظها خلال اطلاعنا على الأرقام السالفة للنفقات وللأموال التي ضخت في التنمية بالأقاليم الجنوبية الصحراوية كون هذه الإنجازات ضل تأثيرها ضئيلا على مستوى تحسين التنمية البشرية في الأقاليم الصحراوية حيث نرى مؤشرات البطالة والفقر والأمية والتغطية الصحية لازالت مقلقة وضعيفة جدا رغم أن هذه الإنجازات التنموية بهذه المناطق تركت آثارا واضحة على البنيات ، غير أن شرائح كثيرة من الصحراويين، نفقات من مساعدات الدولة وتدخلات بعض الجهات الرسمية والهيئات المنتخبة لسد بعض الحاجيات المؤقتة . ولهذا فإنه من الضروري للدولة أن تواصل إلتزاماتها إزاء الصحراويين ضمن إطار عام وفي السياق المجتمعي الكامل للمغرب بشكل يحمي الحقوق الاساسية للأفراد والجماعات ويقطع الصلة مع مقاربة التمييز سواء في شكلها الإيجابي أو السلبي .والتي كرست عددا من السلوكات الغير الصحيحة التي فتحت الباب أمام اجتهادات متطرفة عدة ، لأن تردد المسؤولين في اتخاذ قرارات تصحيحية هامة ضمن هذا المسار لأجل تدارك بعض الإشكاليات السياسية والإقتصادية والتنظيمية التي علقت بكيفية تنمية الأقاليم الصحراوية إداريا وماليا ، وكذا كيفية تدبير ملف الصحراء حتى لا تصاب هذه المؤسسات والدولة أضرارا تتعلق بمصداقيتها وتجعلها أمام المحك في ظل تطور الوعي لدى النخب الصحراوية المحلية وظهور فئة هامة تقبل التغيير في ظل الوحدة والإستقرار لا تزال تنتظر فرصتها للعمل على ترجمة أفكارها على الأرض ودون مواربة أو نفاق سياسي . ونظرا لما تكتسيه أهمية الترويج المغربي لنموذج المملكة المجتمعي الحديث الذي يؤسسه محمد المغربي سياق تطويري تحديثي ديمقراطي انفتاحي يؤمن بكرامة الفرد وحريته وبحل القضية الصحراوية ضمن مقاربة الحكم الذاتي . فإن النظام السياسي للبلاد لا يجب أن يحجبه ما يروج له عن المغرب من تطوير إمكاناته واعتماد المقاربة الحقوقية والإنمائية في مناطق الجنوب، عن ما تعيشه هذه الأقاليم الصحراوية من تحديات بين الفينة والأخرى، ارتبطت أحيانا بواجب الإنفتاح على وفود الزائرين للمنطقة من نشطاء دوليين ومسؤولين رسميين مهتمين بمجال حقوق الإنسان( من زاوية المزاوجة بين ضمان) وما يحمله ذلك في طياته من التزامات قد تحمل المغرب على القبول بصيغة رقابية معينة يظن أعداؤه أنها تمكن أن تتناسب مع الوضع القانوني للإقليم ، وفي هذا السياق يجب التفكير الجاد في خلق هيئة من ممثلي كامل القطاعات المتداخلة في ملف الصحراء ومنتدبين عن المؤسسة التشريعية يعهد إليها باليقظة والتتبع وتنسيق المبادرات ووضع الخطط القادرة على استباق التقارير والعمل على تطويق النوايا الخبيثة الموجهة للمغرب والمبيتة ضده من قبل الجيران الأعداء ، أو الإنفصاليين والحد من تأثيرها وتكريس الفعالية في التعاطي مع المبادرات الأممية. وهذا لن يتحقق مالم يعمل المغرب على بذل جهد كبير في تعزيز الثقة وتحقيق شروط التوازن المطلوب في تدبير ملف القضية الصحراوية ، عبر تثمين الطاقات المحلية وترشيد قدراتها لما يخدم مصلحة البناء لا الهدم . ويعزز صورة البلد القادر على احتضان صحرائه بأرضها وسكانها وتشجيع فرص الاستثمار في بناء الإنسان من خلال التعليم والتكوين المنتج وتطوير المهارات وتنويع المبادرات التنموية الخلاقة التي تتناسب مع الخصوصية المحلية .
لقد آن الأوان لكي يدرك المسؤولون عن تدبير ملف القضية الصحراوية بأن المغرب يجب أن يوفر إلى جانب جهوده الإنمائية القويمة بأقاليمه الجنوبية المسترجعة ،إستيعابا تاما لآثار التحولات العميقة التي بدأت تعصف بالثوابت والتوازنات الإستراتيجية في العالم بشكل يجعلها تؤثر على السياسات الخارجية للدول وتدفعها لتجديد أساليب عملها لمسايرة المتغيرات . ومنها على الخصوص مشاكل الإستقرار الداخلي ورهانات النمو ومصاعب الإقتصاد ومقومات التنمية الداخلية، فضلا عن التحديات الخارجية المتمثلة في قضايا الإرهاب ومشاكل الحدود وتهريب المخدرات والإتجار في الأسلحة ومكافحة الهجرة غير الشرعية وجرائم الأنترنيت والتحكم في التقنية المعلوماتية . إذا أراد كسب هذه القضية وطي ملفها الذي كلفه كثيرا والمغاربة إلى جانبه في ظل إصرار ملكه وتأكيده عبر إشارات تم إطلاقها من قبله في خطابات عدة ،عن العزم الراسخ على المضي قدما في مسار بناء الصحراء، وتهييئ الشروط المناسبة لإنجاح مشروع الجهوية المتقدمة ، إنطلاقا من جهة الصحراء، والتي ستؤسس للنموذج التنموي الذي يرغب الصحراويون أنفسهم في خلقه وتحصين مكتسباتهم المحققة، وقطع الصلة مع الممارسات التي رهن العملية التنموية ، كما رصدها التقرير الأخير للمجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي عبره، ودعم الخطوات المهمة التي يبذلها ملك البلاد في اتجاه ترسيخ الصورة الرائعة للتحولات الهادئة التي عرفتها المملكة في عهده . والتي ابرزت معالم النموذج المغربي الذي يسعى الكل ” العربي والأمازيغي والصحراوي …”كل هؤلاء يتعايشون داخله في إطار ما يمكن أن يبلغه إبداع الإنسان من آليات ديمقراطية التي توفر للجميع العيش الآمن والمستقر في ظل ما تشهده من تحولات عصفت بعدد من الأنظمة وتحمل أخرى على تلاقي العواصف للحفاظ على مقومات وحدتها الترابية والوطنية والإثنية ، والتي يحرص صاحب الجلالة على تجاوزها عبر الدعوة لرأب الصدع داخل المغرب في مشاكله الداخلية وتحصينه أمام الإنفصاليين ، والأعداء للوحدة الترابية وعبر تنويع علاقاته الدبلوماسية التي تطورت أخيرا في إتجاه دعم آسيا من خلال زيارته لروسيا والصين والهند المرتقبة ودول الخليج العربي لتأمين الدعم الكامل لموقفه من الصحراء المغربية، والمساندة اللوجستية والسياسية والمالية والإقتصادية له في ذلك، وإشارته للإنتقادات الواضحة لطبيعة العلاقات المغربية الأمريكية والأوربية المبنية على الإنتهازية و الوصولية والتفكير في مصالحها الذاتية لا غير .
إرسال التعليق