
المصالحة الحقيقية مع معتقلي السلفية: الإدماج النفسي والمجتمعي وجبر الضرر
رصد المغرب /الحيداوي عبد الفتاح
المصالحة الحقيقية مع معتقلي السلفية: الإدماج النفسي والمجتمعي وجبر الضرر
مقدمة
تعتبر قضية المصالحة مع معتقلي السلفية من القضايا الشائكة والمعقدة التي تتطلب مقاربة شاملة ومتعددة الأبعاد لضمان تحقيق إدماج حقيقي وفعال في المجتمع. فالسجن، وإن كان محطة للعقوبة، إلا أنه يترك آثارًا نفسية واجتماعية عميقة على المعتقل، مما يجعل نسيانها أو التصالح معها أمرًا صعبًا، خاصة في ظل تجارب التعذيب أو المعاملة القاسية. إن المصالحة الحقيقية تتجاوز مجرد الإفراج عن المعتقل، لتبدأ من إدماج نفسي ومجتمعي شامل، يرافقه جبر للضرر، بهدف منع العود إلى التطرف وبناء مجتمع أكثر تسامحًا وشمولًا.
الإدماج الحقيقي: أبعاده النفسية والمجتمعية
- الإدماج النفسي
إن التجربة السجنية، وما قد يرافقها من عنف أو تعذيب، تترك ندوبًا نفسية عميقة. لذا، فإن الإدماج النفسي للمعتقل السابق أمر حيوي لضمان تصالحه مع ذاته ومع المجتمع. يتطلب ذلك:
- الدعم النفسي المتخصص: توفير جلسات علاج نفسي فردية وجماعية لمساعدة المعتقلين على التعامل مع الصدمات النفسية، اضطرابات ما بعد الصدمة، والقلق والاكتئاب المرتبطين بتجربة السجن. يجب أن يكون هذا الدعم سريًا ومتاحًا على المدى الطويل.
- بناء الثقة: العمل على إعادة بناء الثقة بين المعتقل السابق والمؤسسات، خاصة تلك التي كانت مسؤولة عن اعتقاله أو سجنه. يتطلب ذلك شفافية في التعامل، والاعتراف بأي انتهاكات قد تكون حدثت، وتوفير آليات للشكوى والإنصاف.
- الإدماج المجتمعي
لا يقل الإدماج المجتمعي أهمية عن الإدماج النفسي، فهو يضمن عودة المعتقل السابق إلى الحياة الطبيعية كفرد منتج ومسؤول. يشمل ذلك:
- توفير فرص العمل والتعليم: إن غياب الفرص الاقتصادية والتعليمية هو أحد العوامل الرئيسية التي تدفع الأفراد نحو التطرف. لذا، يجب توفير برامج تدريب مهني، ومساعدتهم في الحصول على وظائف كريمة، أو استكمال تعليمهم.
- مكافحة الوصم الاجتماعي: يواجه المعتقلون السابقون وصمًا اجتماعيًا كبيرًا، مما يعيق اندماجهم في المجتمع. يتطلب ذلك حملات توعية مجتمعية لتغيير النظرة السلبية تجاههم، وتشجيع التسامح والقبول.
- إشراك المجتمع المدني: تلعب منظمات المجتمع المدني دورًا حيويًا في تسهيل الإدماج المجتمعي من خلال تقديم الدعم الاجتماعي، وتوفير شبكات الدعم، وتنظيم الأنشطة التي تعزز التفاعل الإيجابي بين المعتقلين السابقين والمجتمع.
- دور العائلة: يجب إشراك العائلة في عملية الإدماج، وتقديم الدعم اللازم لها، حيث تلعب العائلة دورًا محوريًا في إعادة دمج الفرد في نسيج المجتمع.
جبر الضرر: أساس المصالحة الحقيقية
إن جبر الضرر ليس مجرد تعويض مادي، بل هو عملية شاملة تهدف إلى الاعتراف بالمعاناة التي تعرض لها المعتقل السابق وضحايا التطرف بشكل عام، وتعزيز العدالة والمساءلة. يشمل جبر الضرر:
- الاعتراف الرسمي: اعتراف الدولة أو المؤسسات بالضرر الذي لحق بالمعتقلين السابقين، خاصة في حالات التعذيب أو الاعتقال التعسفي. هذا الاعتراف يمثل خطوة أولى نحو المصالحة.
- التعويضات: تقديم تعويضات مادية مناسبة للمعتقلين السابقين الذين تعرضوا لانتهاكات، . يجب أن تكون هذه التعويضات عادلة ومنصفة.
- إعادة التأهيل: توفير برامج إعادة تأهيل شاملة للمعتقلين السابقين، بما في ذلك الدعم الطبي والنفسي والاجتماعي، لمساعدتهم على استعادة حياتهم الطبيعية.
- ضمانات عدم التكرار: وضع آليات قانونية ومؤسسية لضمان عدم تكرار الانتهاكات، وتعزيز سيادة القانون، ومحاسبة المسؤولين عن أي تجاوزات.
- العدالة الانتقالية: في بعض الحالات، قد تكون آليات العدالة الانتقالية ضرورية لتحقيق المصالحة الشاملة، بما في ذلك لجان الحقيقة والمصالحة التي تهدف إلى كشف الحقائق، وتوثيق الانتهاكات، وتقديم توصيات لضمان عدم التكرار.
تجارب دولية ناجحة في المصالحة ومنع العود للتطرف
لقد أظهرت العديد من الدول نجاحًا في برامج المصالحة وإعادة الإدماج، مما أدى إلى تقليل حالات العود إلى التطرف. نستعرض هنا بعض الأمثلة:
- تجربة المغرب: برنامج “مصالحة”
يُعد برنامج “مصالحة” في المغرب نموذجًا رائدًا في المنطقة العربية والإسلامية. يهدف البرنامج إلى تأهيل سجناء قضايا الإرهاب من خلال المصالحة مع الذات، والنص الديني، والمجتمع. يركز على القيم والنظم التي تنظم العلاقة بين الفرد والمجتمع والمؤسسات الشرعية. بدأ البرنامج عام 2017 بشراكة بين المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، والرابطة المحمدية للعلماء، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
أبرز ملامح البرنامج:
- محاور شاملة: يتضمن البرنامج محاور متعددة تشمل التربية الدينية، المواكبة النفسية، ورش عمل قانونية، نشر ثقافة حقوق الإنسان، وتأطير سياسي واقتصادي.
- أهداف واضحة: يهدف إلى مكافحة التطرف، تفكيك خطاب التنظيمات الإرهابية، تسهيل إعادة إدماج المدانين التائبين في المجتمع، وتقليل حالات العود.
- نتائج إيجابية: استفاد من البرنامج مئات السجناء، وتم الإفراج عن عدد كبير منهم بعد انتهاء محكوميتهم أو بموجب عفو ملكي. وقد نال البرنامج إشادة دولية من منظمات حقوقية وعدة دول أوروبية.
- تحديات: على الرغم من نجاحه، يواجه البرنامج تحديات تتعلق بتحول مسار المصالحة إلى “شهادة حسن سلوك” للاستفادة من برامج الدعم، مما قد يخلق تمييزًا بين المعتقلين. كما أن الدعم المقدم قد لا يرقى إلى مستوى التحديات التي يواجهها المعتقل السابق في ظل وصمة المجتمع وغياب برامج إدماج فعالة.
- تجربة ألمانيا: التعامل مع العائدين من مناطق النزاع
واجهت ألمانيا تحديًا كبيرًا مع عودة مواطنيها الذين سافروا إلى سوريا والعراق للانضمام إلى تنظيم داعش. وقد طورت ألمانيا نهجًا شاملًا للتعامل مع هؤلاء العائدين، يهدف إلى تحقيق التوازن بين تعزيز إعادة التأهيل والإدماج وضمان الأمن الوطني.
أبرز ملامح التجربة الألمانية:
- نهج متعدد الأبعاد: يشمل العمل الاجتماعي الشامل، والدعم النفسي المستهدف، والمراقبة من قبل الأجهزة الأمنية.
- برامج متنوعة: طورت ألمانيا برامج لمكافحة التطرف داخل نظام السجون وخارجه، توفر التوجيه والدعم للأفراد لتشجيعهم على التخلي عن أيديولوجياتهم المتطرفة العنيفة وإعادة الاندماج في المجتمع.
- نموذج تنسيق العائدين: نفذت ألمانيا نهجًا شاملًا ومنسقًا لإدارة عودة مواطنيها، يتم تنفيذه من قبل منسقي العائدين في الولايات الفيدرالية الألمانية. يعمل هؤلاء المنسقون كحلقة وصل بين أصحاب المصلحة الفيدراليين والولائيين والمحليين (إنفاذ القانون، الحكومة المحلية، المجتمع المحلي، منظمات المجتمع المدني، المنظمات الاستشارية، مؤسسات الصحة العقلية).
- التركيز على الفرد: يدرك النهج الألماني تعقيد وتنوع سيناريوهات العائدين، ويقدم حلولًا فردية تتناسب مع احتياجات كل حالة.
- تجربة السعودية: برامج المناصحة
تعتبر برامج المناصحة في السعودية من التجارب الرائدة في مجال إعادة تأهيل المتطرفين. وقد حققت هذه البرامج نتائج إيجابية في مكافحة الإرهاب وتقليل حالات العود.
أبرز ملامح التجربة السعودية:
- برامج شاملة: تشمل برامج الوقاية وإعادة التأهيل والنقاهة.
- الإرشاد الشامل: يهدف برنامج الإرشاد الشامل إلى إعادة تثقيف المتطرفين العنيفين والمتعاطفين معهم، وتشجيعهم على التخلي عن إيديولوجياتهم الإرهابية. يتم ذلك من خلال لقاءات مع علماء دين لتقديم النصح وتصحيح المفاهيم الخاطئة.
- مشاركة العائلة: يتم تشجيع مشاركة العائلة في عملية إعادة التأهيل، وتقديم الدعم المادي والمعنوي لها، مما يعزز فرص نجاح الإدماج.
- برامج النقاهة: تهدف إلى ضمان استمرار عمليات إعادة التأهيل والإرشاد بعد الإفراج عن المعتقلين، من خلال التدريب التربوي، والإرشاد الديني والنفسي المستمر، والدعم المكثف من الشبكات الاجتماعية.
- نسبة نجاح عالية: تدعي السلطات السعودية تحقيق نسبة نجاح تتراوح بين 80 و90% في عمليات إعادة التأهيل، مع عدد قليل جدًا من حالات العود.
خطة عمل الأمم المتحدة لمنع التطرف العنيف
تدعو خطة عمل الأمم المتحدة لمنع التطرف العنيف إلى نهج شامل لا يشمل فقط الإجراءات الأمنية الأساسية لمكافحة الإرهاب، بل خطوات وقائية منهجية لمعالجة الظروف الأساسية التي تدفع الأفراد إلى التطرف. تقدم الخطة أكثر من 70 توصية للدول الأعضاء ومنظومة الأمم المتحدة لمنع زيادة انتشار العنف، وتؤكد على أهمية تطوير خطط العمل الوطنية. تركز الخطة على منع التشدد الذي يفضي إلى التطرف العنيف في السجون، وإعداد السجناء المتطرفين الذين يجنحون إلى العنف لإعادة إدماجهم في المجتمع، وتعزيز التوافق العالمي في مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف.
التوصيات
بناءً على الدراسة للتجارب المختلفة، يمكن تقديم التوصيات التالية لتعزيز المصالحة الحقيقية مع معتقلي السلفية ومنع العود إلى التطرف:
1.فصل برامج الإدماج الاجتماعي عن الشروط الدينية أو الفكرية: يجب أن تكون برامج الإدماج حقًا أساسيًا لكل معتقل سابق، بغض النظر عن مدى “توبته” أو “ندمه”. يجب أن تركز هذه البرامج على تزويد الأفراد بالمهارات والأدوات اللازمة للعيش الكريم في المجتمع.
2.إنشاء هيئة مستقلة متعددة التخصصات للإشراف على ملف الإدماج: تضمن هذه الهيئة الشفافية والعدالة في التعامل مع المعتقلين السابقين، وتوفر لهم الدعم اللازم دون تحيز أو تمييز.
3.وضع مسارات إدماج مرنة وفردية: يجب أن تأخذ برامج الإدماج في الاعتبار الاحتياجات الفردية لكل معتقل سابق، وأن تكون قابلة للتكيف مع ظروفهم المتغيرة.
4.إطلاق حملات وطنية لمكافحة الوصم الاجتماعي: يجب أن تعمل هذه الحملات على تغيير النظرة السلبية تجاه المعتقلين السابقين، وتعزيز ثقافة التسامح والقبول في المجتمع.
5.إشراك المعتقلين السابقين في صياغة برامج إدماجهم: إن إشراكهم في عملية التخطيط يضمن أن تكون البرامج ذات صلة باحتياجاتهم وتحدياتهم، ويزيد من فرص نجاحها.
6.تعزيز جبر الضرر: يجب أن يكون جبر الضرر جزءًا لا يتجزأ من عملية المصالحة، ليشمل الاعتراف الرسمي بالانتهاكات، وتقديم التعويضات، وتوفير برامج إعادة التأهيل، ووضع ضمانات لعدم التكرار.
7.التركيز على البعد النفسي: يجب أن يتضمن الإدماج دعمًا نفسيًا متخصصًا ومستمرًا لمساعدة المعتقلين السابقين على تجاوز الصدمات النفسية وإعادة بناء صحتهم العقلية.
8.التعاون الدولي وتبادل الخبرات: الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة في مجال المصالحة وإعادة الإدماج، وتبادل أفضل الممارسات بين الدول لتعزيز فعالية البرامج.
إن المصالحة الحقيقية مع معتقلي السلفية تتطلب مقاربة شاملة تتجاوز البعد الأمني، لتركز على الإدماج النفسي والمجتمعي وجبر الضرر. من خلال تبني برامج شاملة ومرنة، ومكافحة الوصم الاجتماعي، وتعزيز العدالة، يمكن للمجتمعات أن تضمن عودة هؤلاء الأفراد كأعضاء فاعلين، وبالتالي بناء مجتمعات أكثر أمانًا وتسامحًا. إن الاستثمار في المصالحة والإدماج هو استثمار في مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا للجميع.
إرسال التعليق