
المفاهيم في مواجهة التطرف: قراءة تحليلية في موسوعة تفكيك خطاب التطرف الجزء الأول
رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح
مقدمة
أضحت ظاهرة التطرف الديني إحدى أبرز الإشكالات التي تواجه المجتمعات الإسلامية المعاصرة، نظراً لما تفرزه من تهديدات أمنية وفكرية وحقوقية. وفي هذا السياق، شكلت محاولة الرابطة المحمدية للعلماء، بتعاون مع منظمة الإيسيسكو، لإنجاز “موسوعة تفكيك خطاب التطرف”، مبادرة فكرية طموحة تستهدف إعادة تأصيل المفاهيم الشرعية من داخل المرجعية الإسلامية.
تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة نقدية في الجزء الأول من هذه الموسوعة، الصادر سنة 2024، تحت عنوان “تفكيك الخلفيات الفكرية لخطابات التطرف”، من خلال تقييم مقاربتها المعرفية، وتحليل رهاناتها المنهجية، ورصد مكامن القوة والقصور فيها.
أولاً: السياق والمنهج
. السياق والمنهج في قراءة موسوعة تفكيك خطاب التطرف (الجزء الأول
صدر الجزء الأول من موسوعة تفكيك خطاب التطرف في إطار مشروع علمي طموح أطلقته الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، يندرج ضمن مجهود وطني ودولي أشمل يهدف إلى مواجهة ظاهرة التطرف العنيف، ليس فقط من خلال آليات الأمن التقليدي، بل عبر إعادة بناء المفاهيم الدينية وتفكيك البنية المعرفية التي يستند إليها الخطاب المتطرف.
يمثل هذا الجزء التأسيسي من الموسوعة محطة معرفية مركزية في مشروع من ثلاثة أجزاء، يتوخى تحقيق جملة من الأهداف المتكاملة، أبرزها:
- تحليل الخلفيات الفكرية والنصوص المؤسسة للخطاب المتطرف، من خلال تتبع الجذور المفاهيمية والعقدية التي يعتمدها هذا الخطاب في بناء منطقه الخاص.
- تفكيك المفاهيم المؤدلجة التي يستثمرها الجهاديون لتبرير العنف، مثل مفاهيم “الولاء والبراء”، و”الطاغوت”، و”الجاهلية”، و”الجهاد”، وغيرها.
- إعادة تأصيل المفاهيم العقدية والفقهية عبر استحضار مقاصد الشريعة ومراعاة السياق التاريخي والمعاصر، بما يضمن تصحيح المفاهيم وتحريرها من التوظيفات المغرضة.
وتعتمد الموسوعة مقاربة معرفية داخلية ، تنبني على أدوات العلوم الشرعية واللغوية نفسها التي تستند إليها الجماعات القتالية في بناء أطروحاتهم، إلا أن هذه المقاربة تسلك طريقًا مغايرًا في التأويل والفهم، من خلال توظيف منهجين اثنين متكاملين:
- المنهج المقاصدي التأويلي: والذي يعمل على إعادة قراءة النصوص الدينية في ضوء مقاصد الشريعة الكلية، مثل حفظ النفس والعقل والدين، مع التركيز على فقه المآلات ومراعاة السياقات.
- التحليل المفهومي النقدي: الذي يتعقب المفاهيم المتداولة في الخطاب المتطرف، كاشفًا عن أصولها الاصطلاحية وتحولاتها المفهومية، ومُبرزًا مواطن الانزياح الدلالي والتوظيف الإيديولوجي.
ويمتاز هذا المشروع بكونه جماعيًا وتعدديًا، حيث ساهم في إعداد هذا الجزء الأول أكثر من خمسة عشر باحثًا متخصصًا في مجالات الشريعة، وأصول الفقه، واللغة العربية، والفكر الإسلامي، وهو ما أضفى على العمل طابعًا موسوعيًا تعدديًا، يجمع بين التنوع المعرفي والانضباط المنهجي.
كما أن الموسوعة لم تكتف بالمستوى التحليلي النظري، بل عمدت إلى تقديم معالجة تركيبية تسعى إلى بناء بدائل معرفية وتأصيلية متينة، تتيح للقراء والباحثين والمهتمين أدوات معرفية منهجية لفهم الظاهرة وتفكيك منطقها الداخلي، بعيدًا عن التنميط أو التسطيح الإعلامي أو الأمني.
إن هذا المشروع، في مجمله، يسعى إلى نقل معركة مكافحة التطرف من الساحة الأمنية والسياسية إلى الفضاء المعرفي والعلمي، من خلال إعادة تحرير المفاهيم، وتصحيح التصورات، وبناء خطاب ديني عقلاني، وسطي، ومؤصل.
ثانياً: البناء المعرفي للموسوعة
يتوزع الجزء الأول من موسوعة تفكيك خطاب التطرف، الصادرة عن الرابطة المحمدية للعلماء، على أربعة محاور مركزية، تتكامل فيما بينها لتقديم قراءة تفكيكية عميقة للخطاب المتطرف من داخله، مستندة إلى أدوات معرفية ومنهجية تنطلق من أصول الشريعة ومقاصدها، دون الارتهان لمقاربات خارجية أو إسقاطات استشراقية. ويمكن عرض هذه المحاور على النحو التالي:
- مداخل مفاهيمية ومنهجية
يشكل هذا المحور الإطار النظري التأسيسي للجزء الأول، حيث يتم وضع الأسس المفاهيمية والمنهجية الضرورية لفهم خطاب التطرف وتحليل بنيته الداخلية. وتنطلق الموسوعة هنا من التركيز على مركزية السياق في فهم النصوص، وضرورة الاجتهاد المقاصدي المتجدد، وإدراك طبيعة الواقع المتغير، باعتبارها شروطًا منهجية لفهم سليم للنص الشرعي. كما يسلط هذا المحور الضوء على الوظائف المعرفية للخطاب الديني المتطرف، وكيفية انحرافها عن مقاصد الشريعة حين يتم توظيفها خارج سياقاتها الزمانية والمكانية. - الخلفيات الفكرية
في هذا المحور، تتناول الموسوعة البنية التصورية التي يقوم عليها الخطاب المتطرف، من خلال تحليل عدد من المفاهيم العقدية المركزية، مثل: الخلاص (النجاة)، القوة (كمفهوم متجاوز للبعد الأخلاقي)، الإيمان والتكفير، وعلاقة الكفر بالإيمان. وتُبرز الموسوعة كيف يتم تفكيك هذه المفاهيم عن سياقاتها الأصلية وإعادة تركيبها بما يخدم النزعة الإقصائية. كما يتم التوقف عند فهم بعض الحركات المتطرفة لمفهوم “الفرقة الناجية”، و”احتكار الحق”، مما يؤسس لموقف عدمي من المخالف، سواء داخل الدائرة الإسلامية أو خارجها. - نقض المنطلقات
يعالج هذا المحور المقولات والمفاهيم التي تشكل منطلقًا لتأصيل العنف في الخطاب المتطرف، مثل: الجزية، الولاء والبراء، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلاقة المسلمين بغيرهم. وتشتغل الموسوعة هنا على إعادة قراءة هذه المفاهيم ضمن أطرها الفقهية والتاريخية والمقاصدية، مع بيان كيف يتم اجتزاؤها من سياقها وتأويلها تأويلاً إيديولوجيًا لتبرير الصدام والقطيعة مع العالم. كما تعيد الموسوعة تأصيل المفاهيم المتصلة بالعيش المشترك، وعلاقة الإسلام بالآخر، ومرونة الشريعة في التعامل مع المتغيرات. - نقد المقولات التأويلية
يختتم هذا الجزء بمحور نقدي يتناول بعض المفاهيم الكبرى التي يوظفها خطاب العنف كمقولات تأويلية لتسويغ مشاريعه السياسية والعسكرية، من قبيل: الدولة الإسلامية، دار الكفر، الخلافة، التمكين. وتبين الموسوعة كيف تتحول هذه المفاهيم من مفاهيم تاريخية أو مقاصدية إلى أدوات أيديولوجية لتكريس منطق الثنائيات الصراعية (إيمان/كفر، دار إسلام/دار كفر، خلافة/جاهلية…). وتسعى الموسوعة من خلال هذا المحور إلى استعادة البعد القيمي والوظيفي لهذه المفاهيم، بما يتسق مع روح الإسلام ومقاصده في العدل والرحمة.
ثالثاً: نقاط القوة في الموسوعة
. أصالة المرجعية: تأسيس على النصوص ومقاصد الشريعة
تتجلى إحدى أبرز نقاط القوة في الموسوعة في تمسكها بالمرجعية الإسلامية الأصيلة، حيث تعود في بناء تصوراتها وتحليلها المفهومي إلى الوحي بشقّيه: القرآن الكريم والسنة النبوية، دون اجتزاء أو توظيف انتقائي. فالموسوعة تسعى إلى إعادة تأصيل المفاهيم التي جرى اختطافها من طرف التيارات المتطرفة، وتعيد ربطها بالسياق القرآني الناظم، وبالمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، مثل حفظ النفس والعقل والدين والكرامة الإنسانية.
وهذا التوجه يجعل من الموسوعة محاولة إصلاحية من داخل المرجعية ذاتها، لا تنطلق من عداء للدين أو من موقف أيديولوجي خارجي، بل من وعي علمي مسؤول بأن التجديد والنقد لا يمكن أن يثمر إلا إذا احترم أصول المرجعية وتاريخها التراكمي. ومن ثمة، فإن الخطاب الذي تقدمه لا ينحاز إلى التبرير الفقهي للواقع السياسي، ولا إلى مقولات التفكيك التغريبي، بل يسلك طريقًا ثالثًا يتوسل مناهج الاجتهاد ومقاصد الشريعة لإعادة ضبط المفاهيم المختلة.
- نقد داخلي نادر: تفكيك ذاتي للخطاب المتطرف
تتميز الموسوعة بجرأة معرفية في ممارسة النقد من داخل الحقل الإسلامي نفسه، وهي سمة نادرة في دراسات الظاهرة الجهادية التي يغلب عليها إما الطابع الأمني أو التفسير الغربي الخارجي.
فهي لا تكتفي برصد الظاهرة أو وصف خطاب التطرف، بل تسائل الأسس المعرفية والمنهجية التي أنتجته، وتحلل انحرافه عن الأصول الفقهية والعقدية المعتبرة، وتُظهر كيف جرى قلب المفاهيم الدينية لتخدم مشروعًا عنيفًا ومنغلقًا.
كما أن هذا النقد لا يُمارس من موقع عدائي أو فوقي، بل من داخل الإيمان بقدرة النص الديني على احتضان التنوع، والانفتاح على العصر، وحسم التباسات المفاهيم بالحجة الشرعية. ومن هنا، فإن الموسوعة تمثل نقلة نوعية في الخطاب الإصلاحي الإسلامي، لأنها تواجه خطاب الغلو بالأدوات التي يدّعي الاستناد إليها، فتسحب منه الشرعية من داخل النص ذاته.
- تحليل المفاهيم عبر التاريخ والتوظيف
تقدم الموسوعة عملاً تأصيليًا وتحليليًا متينًا للمفاهيم التي تم توظيفها في الخطاب المتطرف، مثل مفاهيم: الحاكمية، الجهاد، الولاء والبراء، دار الإسلام ودار الكفر، الطاغوت، الخلافة، وغيرها.
ويكمن تميز هذا العمل في تتبع تطور المفهوم تاريخيًا، من لحظة نشأته في النصوص الأصلية، إلى مراحل تأويله وتطويعه في سياقات فكرية وسياسية مختلفة، إلى أن انتهى به الأمر أداة أيديولوجية في الخطاب الجهادي.
كما تستعرض الموسوعة كيف تم تفريغ المفاهيم من بعدها المقاصدي والإنساني، وتحويلها إلى أدوات للفرز والتكفير والعنف، مع ربط هذه التحولات بوقائع سياسية واجتماعية محددة. وتُظهر هذه المقاربة قدرة تحليلية عالية في فهم دينامية المفهوم، بدل تجميده في تعريف قواميسي مغلق.
- تفكيك مزدوج: خطاب التطرف وخطاب المواجهة القاصر
لا تكتفي الموسوعة بتفكيك خطاب الجماعات المتطرفة، بل تُمارس تفكيكًا مضاعفًا عبر توجيه نقد صارم للمنظومات التي فشلت في مواجهته، سواء كانت تربوية أو دينية أو سياسية.
فهي تنتقد فشل المنظومات الدينية الرسمية في إنتاج خطاب بديل يُقنع الشباب ويؤسس لرؤية مقاصدية وسطية متماسكة، كما تُسلّط الضوء على غياب البعد التربوي في المناهج التعليمية، وضعف تكوين الأطر الدينية القادرة على التأطير والوقاية.
كما لا تغفل الموسوعة نقد الخطاب السياسي والإعلامي السطحي الذي اختزل الظاهرة في البعد الأمني، وفشل في قراءة العوامل البنيوية المنتجة للتطرف. ومن هنا، فإنها تدعو إلى إعادة بناء الحصانة الدينية والفكرية، من خلال خطاب معرفي رصين، ينطلق من داخل المرجعية، ويستوعب تحولات الواقع.
من خلال هذه النقاط الأربع، يتبين أن موسوعة “تفكيك خطاب التطرف” لا تقدم مجرد مرافعة فكرية ضد الغلو، بل تؤسس لمشروع علمي قائم على التأصيل، والنقد الذاتي، والتحليل المفهومي الرصين. وهي بذلك تشكل مساهمة معرفية نادرة في العالم الإسلامي، يمكن أن تُستثمر في تطوير مناهج التعليم الديني، وتكوين الأطر، وبناء خطاب ديني معاصر يستند إلى الأصالة ويخاطب الواقع بلغة الفهم لا الإدانة فقط.
رابعاً: ملاحظات نقدية على الموسوعة
ملاحظات نقدية على “موسوعة تفكيك خطاب التطرف” – قراءة تحليلية
رغم أهمية موسوعة “تفكيك خطاب التطرف” كعمل علمي ومؤسساتي نوعي يسعى إلى مواجهة الفكر المتشدد من داخل المرجعية الإسلامية، إلا أن العمل لا يخلو من عدد من الملاحظات التي تستوجب الوقوف عندها، سواء من حيث المنهج أو من حيث الإخراج المعرفي، وسنعرض هنا لأبرز أربع ملاحظات نقدية تستهدف أوجه القصور المحتملة، بما يعزز من فرص تطوير هذا المشروع في أجزائه اللاحقة.
- هيمنة البعد الوعظي والخطابي على بعض الفصول
من أهم الملاحظات على الموسوعة هي تسرب الطابع الوعظي إلى بعض الفصول، مما أضعف من بنيتها العلمية الصارمة. فرغم التزام العديد من المساهمات بمنهجية أكاديمية رصينة، إلا أن بعض النصوص تنزاح إلى خطاب إرشادي تقريري يتوسل بلغة خطابية مباشرة، أقرب إلى خطاب المساجد أو المجالس الوعظية، وهو ما يتنافى مع ما يقتضيه العمل الموسوعي من تحليل نقدي محايد ومتجرد.
ويمكن فهم هذا النزوع باعتباره انعكاساً لهوية بعض المشاركين الذين ينحدرون من خلفيات تقليدية أو فقهية دعوية، غير أن المزج بين الإرشاد الديني والتحليل العلمي يتطلب مهارات تركيبية عالية، توازن بين العمق الديني والدقة المفهومية. وفي غياب هذا التوازن، تنشأ مفارقة منهجية: إذ يصبح خطاب مواجهة التطرف متماهياً في بعض جزئياته مع أساليب التعبئة الوعظية التي يعتمدها الخطاب المتطرف نفسه، ولو من جهة الشكل واللغة.
- غياب البعد السوسيولوجي والسياسي في تحليل الظاهرة
اقتصرت الموسوعة في الغالب على تفكيك الظاهرة المتطرفة من خلال أدوات عقدية ونصية مستمدة من العلوم الإسلامية التقليدية (العقيدة، أصول الفقه، المقاصد)، دون أن تولي عناية كافية بالعوامل السوسيولوجية والسياسية المنتجة للتطرف.
فقد غاب عن التحليل سؤال البيئة الاجتماعية الهشة، وسياقات التهميش، والعوامل السياسية الإقصائية، والظروف الجيوسياسية التي تُعد حاضنة أساسية لتطرف الأفراد والجماعات. وبذلك، جاء الخطاب الموسوعي وكأنه يشتغل على “نص بلا سياق”، مفككاً المفاهيم الخطيرة مثل “الخلاص”، “الجهاد”، و”التمكين”، دون تتبع جذورها في الواقع العيني وفي شبكات المصالح والصراعات.
وهذا الغياب يقلل من نجاعة الخطاب، إذ يحصر التطرف في أبعاده الفكرية المحضة، متجاهلاً البعد النفسي والاجتماعي والاقتصادي. بل إن بعض الدراسات الغربية الحديثة، خصوصاً في علم الاجتماع السياسي والديني، تشير إلى أن التطرف غالباً ما يكون تعبيراً عن اختلالات اجتماعية أكثر منه تعبيراً عن انحرافات فكرية فحسب.
- ضعف التفاعل مع الدراسات الغربية المقارنة
تُسجَّل على الموسوعة ملاحظة منهجية أساسية تتعلق بضعف التفاعل مع الأدبيات الغربية الرصينة حول التطرف والإرهاب، خصوصاً في مجالات علم الاجتماع الديني، وتحليل الخطاب، ونظريات التحول الراديكالي. وقد جاءت معظم الإحالات مقتصرة على إنتاجات داخلية تنتمي إلى نفس الدائرة المرجعية، دون الانفتاح الضروري على المدارس الفكرية الغربية التي راكمت خبرة بحثية واسعة في دراسة هذه الظاهرة المركبة.
وإن كان مفهوماً أن المشروع ينهض على أساس مرجعي بديل عن المناهج الاستشراقية والتفكيكية، فإن غياب الحوار المعرفي مع المقاربات الغربية – بما فيها النقدية – يُعد تفويتاً لفرص غنية في إثراء التحليل وتعميق الفهم النظري والسوسيولوجي لظاهرة التطرف. فقد قدّم باحثون مثل Oliver Roy وScott Atran وQuintan Wiktorowicz وGilles Kepel تحليلات متقدمة تبرز دور القطيعة الاجتماعية، والمشاعر العدمية، وآليات الانتماء، أكثر من الاقتصار على التفسيرات العقائدية أو التأويلات المتشددة.
إن تجاهل هذا الرصيد المعرفي العالمي لا يضعف فقط من البنية التفسيرية للموسوعة، بل قد يوحي بانفصالها عن الحوار الأكاديمي الدولي، مما يقلل من قدرتها على المساهمة الفاعلة في النقاشات الكونية حول التطرف والعنف، ويجعلها أقل قابلية للمقارنة والاستفادة عبر الثقافات والسياقات.
- تكرار المفاهيم وتقاطعها دون تنسيق بنيوي واضح
لاحظ القارئ المتتبع أن عدداً من المفاهيم المحورية (مثل: الجهاد، الخلافة، الحاكمية، الطائفة الممتنعة) تتكرر في أكثر من فصل، دون وضوح في الحدود بين الفصول أو التمايز في مستويات المعالجة. هذا التكرار المفاهيمي يُفهم على أنه محاولة لتعميق التناول، لكنه يتحول أحياناً إلى نوع من الاجترار أو التكرار غير المبرر، مما يثقل البناء العام للموسوعة ويفقدها طابع النسقية.
ويبدو أن هذا الخلل البنيوي يعود إلى تعدد المساهمين واختلاف مرجعياتهم ومستوياتهم المنهجية، دون وجود تحرير دقيق يشرف على تناسق المعالجة ويضبط تراتبية المفاهيم داخل المنظومة العامة للموسوعة. وغياب خريطة مفاهيمية أو جدول اصطلاحي جامع يزيد من صعوبة متابعة التداخلات المنهجية بين الفصول.
ومن ثم، كان من الأنسب أن تُوزع المفاهيم الكبرى على نحو تراتبي (تأصيلي، تأويلي، تطبيقي)، أو تُفهرس بطريقة تسمح للقارئ بفهم التمايز بين المعالجات بدل الوقوع في تكرار لا يضيف عمقاً نوعياً.
تظل “موسوعة تفكيك خطاب التطرف” مشروعاً فكرياً واعداً ومبادرة ذات أبعاد استراتيجية في مواجهة الفكر العنيف من داخل المرجعية الإسلامية. غير أن قوتها لا تعفيها من النقد العلمي، الذي يعد شرطاً من شروط الارتقاء بالخطاب الإسلامي التجديدي. والملاحظات الأربع المشار إليها أعلاه تُشكل فرصاً تطويرية يمكن البناء عليها في الأجزاء القادمة من المشروع، لتحقيق قدر أكبر من التوازن بين المقاربة التأصيلية والمقاربة السياقية، وبين البعد الإيماني والبعد التحليلي الأكاديمي.
.
إرسال التعليق