بين الثورة والدولة، أزمة السلفية الجهادية في سياق الربيع العربي ( هيئة تحرير الشام نموذجا)

آخر الأخبار

بين الثورة والدولة، أزمة السلفية الجهادية في سياق الربيع العربي ( هيئة تحرير الشام نموذجا)

رصد المغرب / عبدالفتاح الحيداوي

شهدت المنطقة العربية في عام 2011 موجة من الثورات الشعبية التي اجتاحت دول شمال أفريقيا، مثل تونس ومصر وليبيا، فيما عرف بـ”الربيع العربي”، فقد شكلت هذه الثورات نقطة تحول كبرى في الحراك السياسي والإجتماعي، إلا أن اللافت في هذا السياق كان التراجع الواضح لدور السلفية الجهادية كقوة محركة أو قيادية في هذه الانتفاضات، فعلى الرغم من مشاركة بعض الشباب المنتمين إلى التيارات السلفية في الحراك الميداني، إلا أن تلك المشاركة ظلت هامشية، ولم تترجم إلى دور قيادي أو توجيهي، مما كشف عن محدودية المشروع السلفي الجهادي في التعامل مع التغيير المدني والسلمي.

وقد اصطدمت السلفية الجهادية، ذات المنطلقات العقائدية الصارمة، بطبيعة الحراك العربي الذي اندلع سنة 2011، والمعروف بثورات “الربيع العربي”، والذي اتسم بطابع مدني وسلمي تعددي، رفع شعارات ترتبط بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، ورفض أشكال الاستبداد والهيمنة الإيديولوجية، والذي وجدت الحركات الجهادية، التي طالما تبنت استراتيجية التغيير عبر الصدام المسلح مع الأنظمة الحاكمة ، نفسها في مواجهة موجة جماهيرية لا تشبه في شيء القواعد التي تعودت استقطابها أو التعبئة ضمنها.

ففي الوقت الذي كانت فيه التنظيمات الجهادية تؤسس مشروعها على الثنائية القطبية “الإسلام والكفر”، و”الولاء والبراء”، وتحصر التغيير في نموذج الثورة المسلحة ضد “اللا عدالة”، جاءت الانتفاضات الشعبية بمفاهيم جديدة غير مسبوقة في خطاب هذه الجماعات، مثل التداول السلمي للسلطة، وشرعية المؤسسات المنتخبة، والتعددية السياسية والفكرية، والمشاركة الشعبية الواسعة، وهو ما أدى إلى عزلة خطاب السلفية الجهادية، وافتقاده للفاعلية السياسية في تلك المرحلة، حيث بدت هذه الجماعات وكأنها تنتمي إلى سياق سابق، غير منسجم مع اللحظة التاريخية التي شكلت فرصة للمجتمعات للتعبير عن تطلعاتها بوسائل مدنية وسلمية.

ولم تقتصر أزمة السلفية الجهادية في تلك المرحلة على البعد الخطابي فقط، بل شملت أيضا بنيتها التنظيمية وآلياتها التعبوية، التي أظهرت عجزا واضحا عن التكيف مع واقع جديد لم يكن خطابها وتصوراتها فيه هو الخيار المجتمعي المفضل، بل أصبح محط نفور جماهيري واسع، فقد تجاوزت الحشود المنتفضة في ميادين الثورة الطروحات الراديكالية التي ظلت لسنوات تتغذى على مشاعر القهر والإقصاء، حيث أصبح صوت المواطن الفرد، بمطالبه الحياتية والسياسية والحقوقية، أقوى من صوت الأيديولوجيا العابرة للحدود.

وهكذا، بدا أن السلفية الجهادية قد تموضعت خارج مسار التحول التاريخي الذي كانت تنتظره منذ عقود، ليس فقط بسبب تعارض رؤيتها الصدامية مع المطالب السلمية للحراك، بل أيضا لأن بناها الفكرية والتنظيمية لم تكن مؤهلة لتقديم نموذج مقنع للتغيير أو للمشاركة السياسية البناءة، وهذا ما فرض عليها لاحقا مراجعة بعض مفاهيمها، أو في حالات أخرى، استغلال الفراغات الأمنية الناتجة عن انهيار بعض الأنظمة للدخول مجددا إلى المشهد عبر بوابة الفوضى ، كما حدث في سوريا والعراق.

ولعل أحد أبرز المظاهر التي عكست حالة العجز البنيوي لدى التيارات السلفية الجهادية، هو انسياق بعض فصائلها خلف موجة الحراك الشعبي التي اجتاحت العالم العربي سنة 2011، من دون أن تمتلك أدوات الفعل القيادي أو آليات التأثير الجماهيري العميق، حيث وجدت هذه الفصائل نفسها تلهث خلف الديناميات الجديدة للشارع، في موقع التابع لا الفاعل، وهو ما عرى هشاشتها التنظيمية وقصورها الاستراتيجي، فقد تأسست هذه الحركات على منطق الجهاد كأداة تغيير وحيدة، وهو ما جعلها عاجزة عن التفاعل الإيجابي مع طبيعة الحراك السلمي الذي قادته نخب مدنية وشبابية غير مؤدلجة.

وفي هذا السياق، برزت داخل بعض الأوساط الجهادية مراجعات خجولة تحاول التأقلم مع الواقع الجديد، حيث بدأت بعض الفصائل، خصوصا في الساحة السورية، تدرك أهمية ما بعد “الفتح العسكري”، أي مرحلة تسيير المناطق وإقامة الهياكل المدنية، والدخول في علاقات دولية تفرض منطقا سياسيا جديدا، لأن هذه الجماعات اكتشفت ، ولو كان بشكل متأخر، أن منطق الجهاد وحده لا يكفي، وأنه لا بد من امتلاك رؤية متكاملة لمفاهيم الدولة والحكم الرشيد، وإدارة الموارد والعلاقات الخارجية، بل وشرعية التمثيل السياسي.

وقد تجلى هذا التحول في محاولات بعض الفصائل تأسيس “حكومات محلية” أو “إدارات مدنية” لإضفاء نوع من المشروعية السياسية على وجودها، كما حصل مع “هيئة تحرير الشام” في إدلب، التي حاولت لاحقا النأي بنفسها عن التصنيفات الإرهابية، من خلال إظهار استعدادها للانخراط في العملية السياسية، رغم التناقض الجذري بين خطابها الأصلي وهذه المراجعات التكتيكية.

إن هذا التحول لا يعكس فقط تغيرا في التكتيك، بل يبرز أزمة عميقة في البنية الفكرية للسلفية الجهادية، التي بنيت على ثنائية الصراع و النفي، لا على منطق المشاركة والتفاوض، فمنذ نشأتها، ظلت هذه الجماعات أسيرة خطاب الثورة الدائمة، رافضة الانخراط في أي مشروع سياسي حقيقي، مما جعلها تفتقر إلى رؤية استراتيجية لبناء مؤسسات الدولة وإدارة شؤون المجتمع، ومع انكشاف الحاجة إلى أدوات الدولة ومؤسساتها، بدا واضحا أن هذه الجماعات لم تكن تملك تصورا حقيقيا لبناء نظام بديل، وإنما كانت تتحرك في فراغ استراتيجي، يغذيه العنف ويستهلكه الواقع، مما أدى إلى مزيد من التآكل في مشروعها وإحباط قواعدها.

غير أن التحول الذي طرأ على هيئة تحرير الشام في إدلب (كما عبّر عن ذلك مصطفى زهران) لأنه قدم نموذجا مختلفا، جعل الباحثين ينظرون إلى هذه الجماعة باعتبارها حالة تتجاوز نظرة “المعركة المفتوحة” إلى منطق “الدولة الممكنة”، فقد أدركت الهيئة، بقيادة أحمد الشرع ، أن الاستمرار في منطق الثورة وحده لا يكفي، بل لا بد من الانتقال إلى منطق الدولة، الذي يقوم على بناء المؤسسات، وإدارة الشؤون اليومية للناس، وتأمين الخدمات وضبط الأمن والاعتراف بحقائق الواقع المعقد.

وبذلك استطاع أحمد الشرع، بما يمتلكه من خبرة متراكمة في العمل الجهادي، أن يستوعب الفرق بين “العمل الثوري” الذي يقوم على الهدم والرفض، و”العمل السياسي” الذي يقوم على البناء والتفاوض، وهو أمر لم تنجح فيه معظم الجماعات الجهادية الأخرى، فقد أسس الشرع لمنطق الدولة في إدلب، حيث عمل على بناء مؤسسات إدارية وقضائية وأمنية، وأعاد هيكلة العلاقة بين المجتمع المحلي والمشروع الإسلامي الذي تتبناه الهيئة، بحيث يصبح هذا المشروع أكثر قابلية للاستمرار والتعايش مع الواقع السوري المتحرك.

فقد تجسد حكومة الإنقاذ هذا التحول بشكل واضح (وهي الدراع الإداري للهيئة)، إذ نشأت كمحاولة لتأطير العمل المدني وتوفير الخدمات في مجالات التعليم والقضاء والاقتصاد، وهو ما يعد تطورا غير مسبوق في مسار الجماعات السلفية الجهادية، فقد أنشأت الهيئة محاكم ودوائر رسمية وشرطة مدنية وحتى إدارات جامعية، في مسعى واضح لتقديم نفسها كبديل “دولتوي” (quasi-state) عن الفوضى والانهيار، ولإضفاء الشرعية على مشروعها أمام الداخل والخارج.

ومع ذلك، فإن هذا التحول لم يكن محل إجماع داخل التيار الجهادي، بل أثار جدلا واسعا في أوساط السلفية الجهادية التقليدية، التي رأت في هذه الممارسات انحرافا عن “النهج الجهادي” الأصيل، واتهاما بالوقوع في “البراغماتية السياسية” على حساب المبادئ، إذ يرى كثير من منظري الجهاد المعاصر أن مشروع الدولة وفق تصور الهيئة هو نوع من “التنازل المنهجي” أمام الضغوط الدولية والمحلية، بل حتى نوع من “التطبيع” مع قوى إقليمية مثل تركيا، وهو ما جعل الهيئة تتعرض لانتقادات شديدة من تيارات جهادية مثل تنظيم حراس الدين وتنظيم القاعدة.

ولكن خلال قراءة متأنية لتجربة أحمد الشرع، فقد تكشف أنه لم يكن مجرد براغماتي يبحث عن البقاء، بل كان قائدا يمتلك القدرة على التمييز بين ضرورات المرحلة وأوهام الثورة الدائمة، بين منطق الدولة ومنطق الفوضى، فقد أدرك الشرع من خلال تجربته في العمل الجهادي والصراع مع القوى المحلية والدولية، أن المشروع الجهادي إذا لم يتحول إلى مشروع دولة بإدارة مؤسساتية وضبط سياسي، فإنه محكوم عليه بالتآكل والاندثار، كما حدث مع تنظيم الدولة (داعش) الذي استنزف نفسه في منطق الصراع الدائم حتى انهار من داخله.

إن نموذج هيئة تحرير الشام (على ما فيه من إشكاليات وتناقضات) يمثل حالة خاصة داخل المشهد الجهادي، إذ يكشف عن لحظة انعطاف حادة في الفكر السلفي الجهادي، من الثورة إلى الدولة، ومن العنف المجرد إلى إدارة الواقع، إنها محاولة لتأسيس “دولة داخل الدولة”، حتى لو كان الاعتراف بها محدودا، لكنها تحمل في طياتها مؤشرات على أن بعض التيارات الجهادية باتت تستوعب تدريجيا ضرورة التعامل مع الواقع لا تجاوزه، ومع تعقيدات السياسة لا الهروب منها.

إرسال التعليق