تحول السلفية الجهادية نحو العمل الحقوقي – دراسة الحالة المغربية

تحول السلفية الجهادية نحو العمل الحقوقي – دراسة الحالة المغربية
رصدالمغرب / عبدالفتاح الحيداوي
المقدمة
شهد العقدان الأخيران تحولاً لافتاً داخل بعض دوائر السلفية الجهادية، تمثل في تبني قوالب العمل الحقوقي، مثل البيانات والوقفات والشهادات وتنسيقيات الدفاع عن المعتقلين. هذا التحول يثير تساؤلات جوهرية، خاصة وأن الحقل الحقوقي كان يُنظر إليه سابقاً داخل هذه الدوائر على أنه “قانون وضعي” و“مشروع أممي” يتنافى مع المرجعية العقدية للسلفية الجهادية. تفترض هذه الدراسة أن هذا التحول لم يأتِ عبر تأصيل معرفي منهجي داخلي، بل كان استجابة لضغوط موضوعية فرضتها التغيرات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها موجات الاعتقال الواسعة بعد عام 2003، والخبرة السجنية التي اكتسبها العديد من أفراد هذا التيار، بالإضافة إلى البراغماتية المتزايدة في إدارة العلاقة مع الدولة والإعلام، ومحاولة بناء شرعية مدنية في سياقات جديدة.
مشكلة البحث وأهميته
تكمن مشكلة البحث في فهم طبيعة هذا التحول غير المسبوق في سلوك السلفية الجهادية، والتي كانت تاريخياً ترفض الانخراط في الأطر القانونية والمدنية. إن غياب التأصيل المنهجي المسبق لهذا الانخراط يطرح تحدياً لفهم الديناميكيات الداخلية لهذه الجماعات، وكيفية تكيّفها مع الواقع المتغير دون مراجعة عقائدية صريحة. تبرز أهمية هذه الدراسة في كونها تسعى إلى تقديم تحليل معمق لهذه الظاهرة، مما يسهم في فهم أعمق للحركات الإسلامية بشكل عام، والسلفية الجهادية بشكل خاص، في سياق تفاعلها مع مفاهيم الحداثة وحقوق الإنسان. كما أنها تفتح آفاقاً جديدة للبحث في العلاقة بين الفكر الديني والممارسة السياسية والاجتماعية.
أسئلة الدراسة
سؤال مركزي: كيف ولماذا انفتحت شرائح من السلفية الجهادية على الحقل الحقوقي بدون تأصيل سابق، وما هي أنماط هذا الانفتاح وحدوده؟
أسئلة فرعية:
1. ما العوامل البنيوية (سياسية/قانونية/إعلامية) التي دفعت إلى هذا التحول؟
2. كيف استُنسخت قوالب يسارية/مدنية في العمل الحقوقي داخل بيئات سلفية؟
3. ما الفرق بين “التوظيف الحقوقي” و“التأصيل الحقوقي”؟
4. هل نشأت مراجعات معرفية تُعيد تعريف الحقوق والحريات من داخل المرجعية السلفية؟
فرضيات الدراسة
تفترض هذه الدراسة أن التحول نحو تبني العمل الحقوقي لدى السلفية الجهادية هو في الأساس تحول تكتيكي ، مدفوع بضغوط واقعية وحاجة للدفاع عن النفس وبناء شرعية في مواجهة القمع، وليس نتيجة لمراجعة عقائدية أو تأصيل منهجي لمفهوم حقوق الإنسان. كما تفترض أن هذا التبني قد أدى إلى استنساخ قوالب عمل حقوقي جاهزة من تيارات أخرى (يسارية/مدنية) دون تكييفها مع المرجعية العقدية، مما يخلق تناقضات وإشكالات مفهومية.
هيكل الدراسة
تتكون هذه الدراسة من عدة فصول، تبدأ بمقدمة تحدد الإطار العام للبحث. يلي ذلك فصل مخصص للإطار النظري الذي يستعرض المفهوم التقليدي لحقوق الإنسان في الفكر السلفي الجهادي والعوامل الدافعة للتحول. ثم تنتقل الدراسة لتحليل العوامل البنيوية والسياقية التي أدت إلى هذا الانفتاح. بعد ذلك، سيتم تفصيل أنماط التعاطي المختلفة مع الحقوق لدى الفاعلين ذوي الخلفية الجهادية، مع دراسة كيفية استنساخ القوالب الحقوقية. ستناقش الدراسة أيضاً مسألة المراجعات المعرفية، وتختتم بتقديم إطار مقترح لـ“حقوقي إسلامي” يراعي المرجعية العقدية دون مصادمة للقانون الوطني والمواثيق الدولية، بالإضافة إلى الخاتمة والتوصيات.
الإطار النظري: السلفية الجهادية وحقوق الإنسان
لفهم التحول الذي طرأ على تعاطي السلفية الجهادية مع الحقل الحقوقي، من الضروري استعراض الإطار النظري الذي يحكم هذا التحول، والذي يتضمن المفهوم التقليدي لحقوق الإنسان في الفكر السلفي الجهادي، والعوامل الدافعة لهذا التحول، والتمييز بين “التوظيف الحقوقي” و“التأصيل الحقوقي”، بالإضافة إلى مفهوم “التأصيل المعرفي المنهجي” في الحركات الإسلامية.
المفهوم التقليدي لحقوق الإنسان في الفكر السلفي الجهادي
تاريخياً، نظرت السلفية الجهادية إلى مفاهيم حقوق الإنسان والقانون الوضعي والمواثيق الدولية بعين الريبة والرفض، واعتبرتها متناقضة مع مرجعيتها العقدية القائمة على مبدأ “الحاكمية لله” ورفض أي تشريع غير مستمد من الشريعة الإسلامية. كان الانخراط في هذه المفاهيم يُنظر إليه على أنه “مداهنة” للأنظمة “الطاغوتية” أو للكفر العالمي، وأنها “آليات تغريبية” تتنافى مع الشريعة [1]. فمثلاً، كان منظرو السلفية الجهادية الكبار مثل أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني يؤكدون على مركزية العقيدة ورفض الانخراط في أي خطاب إصلاحي أو ديمقراطي.
هذا الرفض لم يكن مقتصراً على الجانب النظري، بل امتد ليشمل الممارسة، حيث كانت الجماعات السلفية الجهادية تركز على الجهاد المسلح لإقامة دولة الخلافة وتطبيق الشريعة، معتبرة أن أي محاولة لتحقيق الحقوق عبر القنوات المدنية أو القانونية هي انحراف عن المنهج الصحيح. كانت مفاهيم مثل “العدالة” و“الحرية” و“حقوق الإنسان” تُعتبر جزءاً من “مشروع أممي” يهدف إلى علمنة المجتمعات الإسلامية وإبعادها عن هويتها الدينية.
العوامل الدافعة للتحول
على الرغم من هذا الموقف العقائدي الصارم، شهدت السلفية الجهادية تحولاً ملحوظاً في تعاطيها مع الحقل الحقوقي، وهو تحول لم يكن نابعاً من مراجعة فكرية داخلية بقدر ما كان استجابة لضغوط موضوعية وعوامل سياقية متعددة [1]. يمكن إجمال هذه العوامل فيما يلي:
1. موجات الاعتقال بعد 2003: بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وما تلاها من حملات “الحرب على الإرهاب”، تعرضت كوادر وأفراد السلفية الجهادية لموجات اعتقال واسعة النطاق في مختلف أنحاء العالم. هذه الاعتقالات الجماعية، وما صاحبها من انتهاكات لحقوق الإنسان في كثير من الأحيان، دفعت أفراد هذه الجماعات إلى البحث عن آليات للدفاع عن أنفسهم وذويهم [2].
الخبرة السجنية: تعتبر الخبرة السجنية عاملاً محورياً في تفسير هذا التحول. فالسجون، التي كانت تهدف إلى عزل هؤلاء الأفراد، تحولت في كثير من الأحيان إلى فضاءات للتفاعل وتبادل الأفكار. داخل السجون، احتك العديد من قيادات وأفراد السلفية الجهادية بفاعلين من تيارات فكرية وسياسية أخرى، مثل الإسلاميين السياسيين والليبراليين، الذين يمتلكون خبرة سابقة في العمل الحقوقي والمدني. هذا الاحتكاك أتاح لهم فرصة الاطلاع على آليات العمل الحقوقي، وأهمية استخدامها في الدفاع عن النفس [2].
علاوة على ذلك، فإن الظروف القاسية داخل السجون، من سوء معاملة وانتهاكات، دفعت المعتقلين أنفسهم إلى المطالبة بحقوقهم الأساسية، مما فرض عليهم التعامل المباشر مع مفاهيم حقوق الإنسان. هذه التجربة الشخصية مع الظلم والانتهاك ساهمت في بلورة وعي جديد بأهمية الحقوق، حتى وإن لم يكن هذا الوعي مبنياً على تأصيل عقائدي مسبق، بل على الحاجة الملحة للدفاع عن الذات [2].
البراغماتية في إدارة العلاقة مع الدولة والإعلام: مع تزايد الضغوط الأمنية وتضييق الخناق على الحركات الجهادية، أصبحت هناك حاجة ملحة لإدارة العلاقة مع الدولة والإعلام بشكل أكثر براغماتية. فبدلاً من الرفض المطلق، بدأت بعض هذه الجماعات تستخدم لغة حقوق الإنسان لتجميل صورتها، أو لنفي الاتهامات الموجهة إليها، أو لكسب تعاطف الرأي العام المحلي والدولي [1]. هذا التكتيك سمح لهم بالتقاطع مؤقتاً مع أجندات مدنية أو حقوقية دون إعلان تنازل عقدي.
محاولة بناء شرعية مدنية في سياقات ما بعد “الربيع العربي”، حيث انهارت بعض الأنظمة وظهرت مساحات جديدة للعمل السياسي والمدني، سعت بعض الفصائل الجهادية إلى بناء نوع من الشرعية المدنية، خاصة في المناطق التي سيطرت عليها أو كان لها نفوذ فيها. هذا تطلب منهم تبني خطاب أقرب إلى هموم الجماهير، واستخدام مصطلحات مثل “المظلومية السياسية” و“العدالة الاجتماعية” و“قمع الحريات” و“الأنظمة الديكتاتورية” [1].
هذا التحول في الخطاب يهدف إلى كسب تأييد السكان المحليين، وتجنيد الدعم، والتقاطع مؤقتاً مع أجندات مدنية أو حقوقية أوسع. فبدلاً من خطاب “تحكيم الشريعة أو القتال لإعلاء كلمة الله”، صار الخطاب يُصاغ أحياناً ضمن سرديات أقرب إلى “الدفاع عن كرامة المسلمين” و“حماية المستضعفين”. هذا التغيير في اللغة يعكس محاولة للتكيف مع البيئة الجديدة، والبحث عن مصادر للشرعية تتجاوز الشرعية الدينية التقليدية، لتشمل الشرعية الشعبية والمدنية
الفرق بين “التوظيف الحقوقي” و“التأصيل الحقوقي”
من الأهمية بمكان التمييز بين “التوظيف الحقوقي” و“التأصيل الحقوقي” في سياق هذه الدراسة:
• التوظيف الحقوقي: يشير إلى استخدام مفاهيم وآليات العمل الحقوقي كأداة تكتيكية أو براغماتية لتحقيق أهداف معينة، مثل الدفاع عن المعتقلين، أو تحسين الصورة، أو كسب الدعم. في هذه الحالة، لا يترتب على هذا الاستخدام أي تغيير جوهري في المرجعية الفكرية أو العقائدية للجماعة. فالهدف ليس الإيمان بمبادئ حقوق الإنسان كقيم أصيلة، بل استغلالها كأداة وظيفية [1].
• التأصيل الحقوقي: يعني بناء فهم عميق لمفاهيم حقوق الإنسان من داخل المرجعية العقدية والفكرية للجماعة، بحيث تصبح هذه المفاهيم جزءاً لا يتجزأ من نسقها الفكري، وتُعاد صياغتها وتكييفها بما يتوافق مع أصولها. يتطلب التأصيل مراجعة فكرية ومنهجية، وقد يؤدي إلى تغييرات في العقائد أو الممارسات. هذا ما قامت به حركات إسلامية أخرى في سياق مراجعاتها الفكرية [3].
نفترض أن التحول في السلفية الجهادية يندرج في الغالب تحت “التوظيف الحقوقي”، وليس “التأصيل الحقوقي”، وهو ما يفسر غياب المراجعات الفكرية العميقة التي تعيد تعريف الحقوق والحريات من داخل مرجعيتها.
مفهوم “التأصيل المعرفي المنهجي” في الحركات الإسلامية
يشير “التأصيل المعرفي المنهجي” في سياق الحركات الإسلامية إلى عملية بناء فهم شامل ومتكامل لمفهوم أو قضية معينة، استناداً إلى الأصول الشرعية (القرآن والسنة) والمقاصد الكلية للشريعة، مع مراعاة الواقع المعاصر وتحدياته. هذه العملية تتضمن:
• الاجتهاد: بذل الجهد لاستنباط الأحكام والمفاهيم من النصوص الشرعية.
• المراجعة الفكرية: إعادة تقييم الأفكار والمفاهيم السابقة في ضوء المستجدات.
• التكييف: تكييف المفاهيم الحديثة بما يتوافق مع المرجعية الإسلامية، أو تطوير مفاهيم إسلامية أصيلة لمواجهة التحديات المعاصرة.
• البناء النظري: صياغة إطار نظري متكامل يربط بين الأصول الشرعية والمفاهيم الحديثة.
على عكس الحركات الإسلامية الأخرى التي خاضت تجارب تأصيلية معمقة في مجالات مختلفة (مثل الاقتصاد الإسلامي، أو الفقه السياسي)، يبدو أن السلفية الجهادية لم تخض تجربة تأصيلية مماثلة في مجال حقوق الإنسان، مما يجعل تعاطيها مع هذا الحقل أقرب إلى الاستجابة للواقع بدلاً من البناء المعرفي المنهجي [1].
أنماط التعاطي مع الحقوق لدى فاعلين ذوي خلفية جهادية
نخلص إلى رصد ثلاثة أنماط رئيسية للتعاطي مع الحقوق لدى فاعلين ذوي خلفية جهادية، وهي أنماط تعكس درجات مختلفة من التكيف في مواجهة الضغوط الواقعية، دون أن ترقى بالضرورة إلى مستوى المراجعة الفكرية العميقة أو التأصيل المنهجي. هذه الأنماط هي: التعاطي التكتيكي الاحتجاجي، التعاطي الإدماجي المدني، والتعاطي التأويلي الإصلاحي.
1. التعاطي التكتيكي الاحتجاجي
يمثل هذا النمط الشكل الأكثر شيوعاً وبداهة للتعامل مع الحقل الحقوقي لدى السلفية الجهادية. وهو يقوم على استخدام آليات العمل الحقوقي كأداة مؤقتة لتحقيق أهداف محددة، دون الإيمان الجوهري بمبادئ حقوق الإنسان أو الاعتراف بشرعية الأنظمة القانونية التي تستند إليها. ينشأ هذا النمط بشكل أساسي كاستجابة مباشرة للضغوط الأمنية والقضائية، خاصة في سياقات الاعتقالات الجماعية والانتهاكات التي يتعرض لها أفراد التيار [1, 2].
الخصائص والأمثلة:
• الدفاع عن المعتقلين: يُعد هذا هو الدافع الأبرز للتعاطي التكتيكي. فبعد موجات الاعتقال الواسعة، برزت الحاجة إلى تشكيل لجان وتنسيقيات للدفاع عن المعتقلين، وإصدار بيانات تندد بالانتهاكات، وتنظيم وقفات احتجاجية للمطالبة بالإفراج عنهم أو بتحسين ظروف احتجازهم. هذه الأنشطة لا تعني بالضرورة قبولاً لمفهوم المحاكمة العادلة في إطار القانون الوضعي، بل هي محاولة لاستغلال المساحات المتاحة للدفاع عن الأفراد [2].
• استخدام لغة المظلومية: يتبنى هذا النمط خطاباً يركز على “المظلومية السياسية” و“قمع الحريات” و“الاضطهاد” الذي يتعرض له أفراد التيار. هذه اللغة، التي كانت تاريخياً حكراً على التيارات اليسارية أو الليبرالية، تُستخدم هنا لكسب التعاطف المحلي والدولي، وتعبئة الرأي العام ضد الأنظمة القائمة، دون أن تعني تحولاً في النظرة إلى هذه المفاهيم كقيم عالمية [1].
• تجميل الصورة ونفي الاتهامات: في بعض الحالات، يُستخدم العمل الحقوقي كأداة لتحسين صورة السلفية الجهادية في مواجهة الاتهامات الموجهة إليها بارتكاب انتهاكات. قد تصدر بيانات تنفي ارتكاب مجازر ضد المدنيين، أو تحاول تبرير أفعالها بلغة “الرد على الجرائم”، مستخدمة مفردات من الخطاب الإنساني العالمي. هذا يعكس محاولة “تجميل العنف الجهادي” عبر أدوات خطابية عالمية، واستيعاباً لأهمية الصورة العامة والشرعية السياسية [1].
• التعامل المؤقت مع المنظمات الحقوقية: قد يصل الأمر إلى التعامل البراغماتي مع المنظمات الحقوقية الدولية، أو على الأقل محاولة التأثير في تقاريرها أو مواقفها. هذا التعامل لا يعني اعترافاً بشرعية هذه المنظمات أو مرجعيتها، بل هو استغلال لوجودها وتأثيرها في الساحة الدولية لتحقيق مكاسب تكتيكية [1].
حدود هذا النمط وإشكالاته المفهومية:
• غياب التأصيل العقائدي: يظل هذا النمط سطحياً، حيث لا يترتب عليه أي تغيير في البنية العقدية الأساسية للسلفية الجهادية. فمفاهيم مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان العالمية، والقانون الوضعي، لا تزال تُعتبر كفراً أو أدوات تغريبية في نظر هذا التيار، مما يجعل أي تعاطٍ معها مجرد تكتيك مؤقت [1].
• التناقض المنهجي: يكمن التناقض في استخدام أدوات وآليات تنتمي إلى منظومة فكرية وقانونية يرفضها التيار عقائدياً. هذا التناقض قد يؤدي إلى إشكالات داخلية، خاصة عند محاولة تبرير هذا الانخراط لأتباع التيار الذين قد يرون فيه تنازلاً عن المبادئ الأساسية [1].
• الاستغلال المتبادل: قد يُنظر إلى هذا التعاطي على أنه استغلال متبادل، حيث تستغل السلفية الجهادية الحقل الحقوقي لتحقيق أهدافها، بينما قد تستغل بعض الجهات الحقوقية هذا الانخراط لإظهار مرونة التيار أو إمكانية دمجه، مما قد يخدم أجندات سياسية معينة [2].
التعاطي الإدماجي المدني(دراسة الحالة المغربية
يمثل هذا النمط تطوراً للتعاطي التكتيكي، حيث يتجاوز مجرد الاستخدام المؤقت لأدوات حقوقية إلى محاولة إدماج بعض الفاعلين ذوي الخلفية الجهادية في الأطر المدنية والسياسية، وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة مراجعة عقائدية شاملة. تبرز الحالة المغربية كنموذج مهم لهذا النمط، خاصة بعد تفجيرات الدار البيضاء عام 2003 وما تلاها من حملات اعتقال واسعة [2].
الخصائص والأمثلة في الحالة المغربية:
• موجات الاعتقال والخبرة السجنية: بعد تفجيرات 2003، تعرض الآلاف من المنتمين للتيار السلفي الجهادي في المغرب للاعتقال، وقضى العديد منهم سنوات طويلة في السجون. هذه الخبرة السجنية، وما صاحبها من انتهاكات، دفعت المعتقلين وذويهم إلى البحث عن آليات للدفاع عن أنفسهم. وقد أدت هذه الضغوط إلى ظهور لجان وتنسيقيات للدفاع عن المعتقلين، مثل “اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين”، التي تبنت خطاباً حقوقياً واضحاً للمطالبة بالإفراج عنهم أو بتحسين ظروف اعتقالهم [2].
• الحوار مع الدولة والمراجعات: شهدت الحالة المغربية حوارات بين الدولة وبعض قيادات التيار السلفي الجهادي داخل السجون وخارجها. هذه الحوارات، التي تهدف إلى “إعادة إدماج” هؤلاء الأفراد في المجتمع، تضمنت مراجعات فكرية قام بها بعض الشيوخ، وإن كانت هذه المراجعات محل جدل حول عمقها ومدى تأثيرها على البنية العقدية للتيار [2]. فمثلاً، أعلن بعض الشيوخ مثل محمد الفيزازي ومحمد عبد الوهاب رفيقي (أبو حفص) عن مراجعات فكرية، وشاركوا في مبادرات للحوار مع الدولة، مما أدى إلى الإفراج عنهم في مراحل لاحقة [الجزيرة نت، 2012].
• محاولة الانخراط السياسي والمدني: بعد الإفراج عن بعض قيادات التيار، ظهرت محاولات للانخراط في العمل السياسي والمدني، وإن كانت هذه المحاولات تواجه تحديات كبيرة. فبعضهم حاول تأسيس جمعيات حقوقية أو المشاركة في فعاليات مدنية، بينما سعى آخرون إلى الانخراط في العمل الحزبي، وإن لم تتوفر الشروط لتأسيس حزب خاص بهم ،. هذا الانخراط يعكس رغبة في البحث عن شرعية مدنية، واستغلال المساحات المتاحة للعمل العلني، وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة التخلي عن الأفكار الجهادية بشكل كامل.
• حدود الإدماج في الحالة المغربية: على الرغم من هذه المحاولات، يظل الإدماج في الحالة المغربية محدوداً ويواجه تحديات. فالسلفية الجهادية في المغرب، كما تشير بعض الدراسات، لم تتأسس على بنية تنظيمية صارمة أو هياكل واضحة كما هو الحال في بعض التجارب الجهادية الأخرى [. بل ظلت أقرب إلى “الخلايا المتفرقة” التي تتبنى المرجعيات الفكرية ذاتها لكنها تفتقر إلى الإطار التنظيمي الموحد. وهذا الغياب للبنية التنظيمية المتماسكة يجعل عملية الإدماج أكثر تعقيداً، حيث لا يوجد كيان واحد يمكن التفاوض معه أو إدماجه بشكل كامل. كما أن السلطات المغربية لا تزال تتعامل بحذر مع هذا التيار، وتعديل قانون مكافحة الإرهاب عام 2015 يعكس هذا التشدد، حيث يجرم السفر إلى مناطق القتال والانضمام إلى الجماعات المتطرفة 3
.3 التعاطي التأويلي الإصلاحي
يمثل هذا النمط الشكل الأكثر عمقاً وتأصيلاً للتعاطي مع حقوق الإنسان من داخل المرجعية السلفية، وإن كان هذا النمط لا يزال محدوداً ونادراً في سياق السلفية الجهادية. يقوم هذا النمط على محاولة بناء فهم جديد لمفاهيم حقوق الإنسان من داخل الأصول الشرعية، وتكييفها بما يتوافق مع مقاصد الشريعة، بدلاً من رفضها أو استخدامها تكتيكياً. هذا يتطلب مراجعة فكرية ومنهجية قد تؤدي إلى تغييرات في العقائد أو الممارسات.
الخصائص والأمثلة:
• البحث عن تأصيل شرعي: يسعى هذا النمط إلى إيجاد أسس شرعية لمفاهيم حقوق الإنسان، من خلال إعادة قراءة النصوص الدينية وتأويلها بما يتوافق مع القيم الإنسانية العالمية. هذا قد يتضمن التركيز على مفاهيم مثل “العدل” و“الرحمة” و“حفظ النفس” و“حفظ العقل” و“حفظ النسل” و“حفظ المال” (مقاصد الشريعة) كأصول لمفهوم حقوق الإنسان في الإسلام.
• المراجعات الفكرية العميقة: يتطلب هذا النمط مراجعات فكرية عميقة تتجاوز مجرد التكتيكات البراغماتية. هذه المراجعات قد تشمل إعادة النظر في مفهوم “الحاكمية”، والعلاقة بين الشريعة والقانون الوضعي، ومفهوم “الولاء والبراء”، وغيرها من المفاهيم التي كانت تشكل عوائق أمام تبني حقوق الإنسان.
• بناء إطار “حقوقي إسلامي”: الهدف النهائي لهذا النمط هو بناء إطار نظري متكامل لـ“حقوقي إسلامي” يراعي المرجعية العقدية دون مصادمة للقانون الوطني والمواثيق الدولية. هذا الإطار يسعى إلى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وتقديم رؤية إسلامية لحقوق الإنسان تكون قادرة على التفاعل مع التحديات الحديثة.
حدود هذا النمط:
• الندرة في سياق السلفية الجهادية: هذا النمط لا يزال نادراً جداً في سياق السلفية الجهادية، حيث أن أغلب التحولات تندرج تحت نمطي التعاطي التكتيكي أو الإدماجي. فالبنية الفكرية للسلفية الجهادية، التي تركز على الجمود العقائدي ورفض أي تأويل قد يمس الأصول، تجعل من الصعب تبني هذا النمط.
• مقاومة داخلية: قد يواجه هذا النمط مقاومة شديدة من داخل التيار، حيث قد يُنظر إلى أي محاولة للتأويل أو المراجعة على أنها “تنازل” أو “انحراف” عن المنهج الصحيح.
• صعوبة التوفيق: يظل التوفيق بين المرجعية السلفية الجهادية الصارمة ومفاهيم حقوق الإنسان العالمية تحدياً كبيراً، ويتطلب جهداً فكرياً ومنهجياً هائلاً.
الخاتمة والتوصيات
تُظهر هذه الدراسة أن تحول السلفية الجهادية نحو تبني قوالب العمل الحقوقي هو ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه، لا يمكن اختزالها في تفسير واحد. فبينما كان الحقل الحقوقي يُنظر إليه تاريخياً بعين الريبة والرفض من قبل هذا التيار، إلا أن الضغوط الواقعية والعوامل السياقية، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وموجات الاعتقال الواسعة، دفعت بالعديد من الفاعلين ذوي الخلفية الجهادية إلى التكيف مع هذه المفاهيم والآليات. وقد رصدت الدراسة ثلاثة أنماط رئيسية لهذا التعاطي: التعاطي التكتيكي الاحتجاجي، التعاطي الإدماجي المدني (مع التركيز على الحالة المغربية)، والتعاطي التأويلي الإصلاحي.
تؤكد الدراسة أن النمط الغالب في هذا التحول هو “التوظيف الحقوقي”، الذي يستخدم مفاهيم وآليات العمل الحقوقي كأداة براغماتية ومؤقتة لتحقيق أهداف محددة، مثل الدفاع عن المعتقلين أو تحسين الصورة، دون أن يترتب على هذا الاستخدام أي تغيير جوهري في المرجعية الفكرية أو العقائدية للجماعة. وقد برزت الحالة المغربية كنموذج مهم للتعاطي الإدماجي المدني، حيث شهدت محاولات لإعادة إدماج بعض قيادات التيار في المجتمع، وإن كانت هذه المحاولات تواجه تحديات كبيرة بسبب غياب بنية تنظيمية متماسكة للتيار في المغرب، واستمرار الحذر الأمني.
أما النمط التأويلي الإصلاحي، الذي يسعى إلى بناء فهم عميق لمفاهيم حقوق الإنسان من داخل المرجعية العقدية والفكرية للجماعة، فيظل نادراً جداً في سياق السلفية الجهادية، ويواجه مقاومة داخلية شديدة، مما يعكس صعوبة التوفيق بين المرجعية السلفية الجهادية الصارمة ومفاهيم حقوق الإنسان العالمية.
.
المراجع
[1] السلفية الجهادية بين التكيف الإيديولوجي والانخراط الحقوقي. (2025, June 30). rassdalmaghrebe.com. https://rassdalmaghrebe.com/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%88%D9%84/ [2] حوار حول الجهاديين السلفيين في المغرب. (2015, February 17). Carnegie Endowment for International Peace. https://carnegieendowment.org/sada/2015/02/an-interview-on-moroccan-salafi-jihadis?lang=ar [3] “السلفية الجهادية” بالمغرب تعود للواجهة. (2012, December 3). الجزيرة نت. Retrieved from https://www.aljazeera.net/news/2012/12/3/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D8%AA%D8%B9%D9%88%D8%AF [4] السلفية الجهادية في المغرب: خلايا عابرة أم تنظيم مهيكل؟. (2025, May 31). العمق المغربي https://al3omk.com/1074802.html [5] قيادي سلفي: لم تتوفر بعد شروط تأسيس حزب لنا بالمغرب. (2013, April 1). AA. https://www.aa.com.tr/ar/archive/%D9%82%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D8%B3%D9%84%D9%81%D9%8A-%D9%84%D9%85-%D8%AA%D8%AA%D9%88%D9%81%D8%B1-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B7-%D8%AA%D8%A3%D8%B3%D9%8A%D8%B3-%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D9%84%D9%86%D8%A7-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8/259683
إرسال التعليق