تعزية غير المسلمين واجب أخلاقي

آخر الأخبار

تعزية غير المسلمين واجب أخلاقي

رصد المغرب / الدكتور فؤاد هراجة  

لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا اليوم ووقف لجنازة يهودي أو زار غلاما يهوديا على فراش مرضه، أو تعهد يهوديا كان يلقي القمامة على بابه فخرج فلم يجدها فسأل عن حاله وزاره في بيته، لقام حراس العقيدة وذكَّروه أنهم كفار لا يجوز أن نتقاسم معهم مشاعر الإنسانية في الفرح والحزن، ولقالوا عنه إسلام كيوت. أما لو كانوا زمن عمر بن الخطاب وقرأوا الوثيقة العمرية وعلموا بدخول أمير المؤمنين إلى كنيسة القيامة وجلوسه في صحنها وترك وصية بحفظ كنائسهم وصلبانهم وممتلكاتهم، لاتهموه بالزندقة وتشجيع الكفر وذكروه بقوله تعالى: “لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة”.

يبدو من خلال نازلة موت بابا الفاتيكان، أن على العديد من المسلمين أن يميزوا بين المشترك الإنساني والخصوصية الإيمانية، وهذا يتطلب إعادة تركيب صورة الإسلام السمحة في أذهاننا، لعل رحمته تستقر في قلوبنا. عندما كان بابا الفاتيكان قيد الحياة، سمعنا كثيرا من أصوات المسلمين تتعالى وتطالب البابا بتحديد موقفه من العدوان الصهيو.ني على غزة، وتساءلوا أين هي مشاعر المسيحيين مما يجري في فلسطين؟ كان جواب البابا عمليا بأن توشح الكوفية الفلسطينية وأدان الكيان الصهيو.ني أشد الإدانة حتى أن الإعلام الصهيو.ني حرم التعزية فيه ومنعها على منصات التواصل والإعلام.

فلماذا تسمح هذه العقلية المتفشية عند العديد من المسلمين، لذاتها بمطالبة الآخر المختلف أن يقوم بواجبه الإنساني تجاه الأمة الإسلامية، رغم اختلافه العقدي معها، وتمنع هذا التعامل الإنساني المتعلق بالمواساة أن يتم في حق نفس المخالف؟ هذا هو الكيل بمكيالين أو بلغة القرآن:

“أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ”، ومن البر مواساة الناس ومشاركتهم أحزانهم والوقوف بجانبهم في السراء والضراء، وهذا لا يعني الذوبان أو التنازل عن المبادئ، بل إن هذا الفعل يؤكد القناعة والثقة والثبات ورسوخ المبادئ، بحيث تصبح دافعا للتعارف والتواصل والتكامل في أفق العيش المشترك.

ورحم الله الإمام عبد السلام ياسين الذي جدد المفاهيم ودعا إلى ضرورة التخلص من بعض الموروثات الفقهية من قبيل، “دار الإسلام ودار الحرب”، وأكد أن على المسلمين أن يعتبروا الناس جميعهم منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة أنهم أمته التي أرسله الله إليها، وأنه بعد التحاقه بالرفيق الأعلى ترك أمانة التبليغ بالرحمة وبالتي هي أحسن لكل مسلم شاهد بالقسط ومنه قوله تعالى،: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا”. فإقامة الشهادة على الناس لا تكون بالمقال فحسب، بل تكون بالحال وبالنموذج والقدوة المؤثرة وبالأخلاق الرفيعة التي تتجاوز دائرة التحزب العقدي والطائفي إلى دائرة الإنسانية جمعاء. هذا هو مذهب الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى حين أكد أن الناس تجمعهم رحم واحدة ألا وهي الرحم الآدمية، ومن مقتضيات وحقوق هذه الرحم صلتها وعدم قطعها، وذلك بالتعاون على البر والتقوى لبناء مجتمع العمران الأخوي الذي يضمن قيام عدالة عالمية تضمن الكرامة والحرية والمساواة والحياة الكريمة لكل إنسان بغض النظر عن لونه أو جنسه أو عرقه أو لغته أو معتقده…، تحقيقا بقوله تعالى: “أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.

فأنَّى لنا بكل هذه المعاني والفهوم والآفاق المستقبلية المنتظرة، إن كان يضيق صدرنا ولا تتسع حويصلة قلوبنا وعقولنا كمسلمين لتقاسم مشاعر الحزن مع إخواننا في الآدمية من المسيحيين الذين فقدوا رمز ديانتهم ومن يمثل رابطة إيمانهم؟ لا مكان في مشروع العمران الأخوي الإنساني لمن يتعمد إقحام المعارك العقدية في دائرة العيش المشترك، فالسجالات العقدية لها سياقاتها ولها مجالها في البيان والتبيين، دون أن تصبح عائقا أمام العيش المشترك والاستخلاف المشترك الذي هو جزء لا يتجزأ من إيماننا، ورحم الله الإمام عبد السلام ياسين الذي اعتبر الناس أمة واحدة تتضمن أمتين؛ أمة الاستجابة وهم المسلمون وأمة الدعوة وهم غير المسلمين الذين خذلناهم بتخلفنا على جميع المستويات وفرقتنا السياسية حتى أصبحنا نحن الحجاب والحاجز والعائق بينهم وبين معرفة حقيقة الإسلام السمحة، وغدونا كمن يمتلك أحجارا كريمة وقد أشبعها وسخا حتى طمس حقيقتها وزاد عن ذلك أنه يفتقر لفن ترويج السلع، فبارت سلعته ليس لقلة قيمتها وإنما لأنه يحتاج إلى تنقيتها مثلما يحتاج إلى تجديد خطابه ونظرته للآخر الذي يسعى إلى إقناعه باقتنائها.

 

وفي الختام أود أن أشكر قيادة جماعة العدل والإحسان ومجالسها الشورية التي اهتدت بتوفيق من الله سبحانه وبفضل تشبتها بأدبيات الإمام المرشد المؤسس عبد السلام ياسين إلى تقديم تعزية مواساة إلى مؤسسة الفاتيكان وإلى كل مسيحيي العالم تعبر فيها عن تقاسم مشاعر الحزن معهم من منطلق أخلاقي قيمي إنساني ومبدئي، لا تبتغي وراءه جزاء ولا شكورا، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الفهم السليم والوسطي للإسلام، كما يدل على سعة أفق مشروع العمران الأخوي الإنساني لجماعة العدل والإحسان الذي يسع الجميع ولا يستثنى منه أحد، ولنتذكر جميعا قوله سبحانه: “وقولوا للناس حسنا” أمر إلهي لعباده المؤمنين يستغرق عموم الناس أيا كان وضعهم ومعتقدهم وحيثياتهم، ومن القول الحسن المواساة بكل أشكالها ومنها تعزية الناس وتقاسم مشاعر الحزن معهم سيما وأن العالم أصبح اليوم كله جوار ومن حقوق الجوار المواساة.

إرسال التعليق