
تفسيرات قرآنية لشحرور(2): الشيطان
رصد المغرب / الدكتور ادريس الكنبوري
يخترع محمد شحرور نوعين من الشياطين في القرآن الكريم، الأول يسميه “الشيطان الفيعالي”، والثاني يسميه”الشيطان “الفعلاني”، وهو تقسيم لا يؤسسه على أي منطق أو معنى، بل يؤسسه فقط على الموازين الصرفية، فيجعل الأول فيعالي لأنه على وزن”فيعال” في العربية، والثاني فعلاني لأنه على وزن”فعلان”.
ويقول شحرور إن”لفظة الشيطان في الكتاب هي من المصطلحات المتشابهة، فلهذه الكلمة معنيان متباينان تماما، ويؤخذ أحد هذين المعنيين حسب السياق العام للآية التي ورد فيها مصطلح الشيطان” . وهذا خطأ كلمة “شيطان” ليست من الألفاظ المتشابهة، إذ التشابه نقيض الترادف، فإذا كان الترادف هو دلالة كلمتين على معنى واحد، فإن التشابه أو الاشتراك اللغوي هو دلالة كلمة واحدة على معنيين، وهذا مفتقد في كلمة شيطان. فالكلمة ليس لها سوى معنى واحد، لكن له تعبيرات مجازية كثيرة في القرآن.
ولعل ما يبين لنا جهل شحرور باللغة العربية ـ وهو أمر سجلناه عليه مرات كثيرة ـ أنه يطلق عبارة “مصطلح” على شيطان، ومع ذلك يعتبر أنه من الأسماء المتشابهة، والحال أن المصطلح في الأصول اللغوية لا يمكن أن يعني إلا أمرا واحدا، وإلا فقد مشروعيته الاصطلاحية. وقد تتعدد معاني الكلمة الواحدة من الناحية اللغوية، لكن نفس الكلمة إذا حولناها إلى اصطلاح فإن معناها الاصطلاحي يصبح محصورا، خلافا لمعناها اللغوي.
في معنى القسم الأول وهو”الشيطان الفيعالي” يقول شحرور “وفعل شطن يعني البعد فنقول بئر شطون أي بعيدة القعر، والشطن هو الحبل لأنه بعيد ما بين الطرفين، ومنه أيضا معنى الغرابة. في هذا المعنى مصطلح الشيطان هو مصطلح مادي موضوعي له وجود خارج الوعي الإنساني، ولكي نفرقه عن المعنى الآخر للشيطان سنطلق عليه مصطلح: الشيطان الفيعالي” . وهكذا لم نعد أمام مصطلح شيطان، بل أيضا أمام مصطلح آخر هو”الشيطان الفيعالي”، فالأمر إذن يتعلق بمصطلحين في واحد.
وتحت هذا القسم يضع شحرور مجموعة من الآيات التي وردت فيها كلمة شيطان بالجمع، مثل قوله تعالى:”وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون”، وقوله:”طلعها كأنه رؤوس الشيطان”، وقوله:”واتبعوا ما تتلو الشياطين”، إلى غير ذلك من الآيات، إلا أنه يدرج أيضا آية وحيدة وردت فيها كلمة شيطان مفردة هي قوله تعالى:”الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذين يتخبطه الشيطان من المس”.
أما القسم الثاني وهو”الشيطان الفعلاني”، فهو عنده ما يدل على “الباطل ـ الوهم في الفكر الإنساني، وسنطلق عليه مصطلح الشيطان الفعلاني، أي أن الشيطان الفعلاني هو أحد أطراف العملية الجدلية في الفكر الإنساني الذي يحاول معرفة الحقيقة الموضوعية الرحمانية، لذا فوجوده فكري بحت وليس موضوعيا أي أنه يمثل الطرف الوهمي في الفكر الإنساني وهو الطرف النقيض للرحمان الذي هو الطرف الحقيقي وهما العنصران المتناقضان في الفكر الإنساني” .
وتحت هذا القسم الثاني يضع شحرور مجموعة من الآيات التي وردت فيها كلمة شيطان مفردة، مثل قوله تعالى:”يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا”، وقوله:”فوسوس إليه الشيطان”، وقوله:”وكان الشيطان للإنسان خذولا”، وغيرها من الآيات.
ومن خلال هذا التعريف يتضح لنا الارتجال والتخبط عند شحرور. فالتقسيم كما قلنا أعلاه مبني على الوزن الصرفي، وبناء التقسيم الدلالي للكلمة في القرآن ـ أيا كانت ـ على وزنها الصرفي نوع من التعسف، لأن الأوزان الصرفية ليست لها معان أو دلالات في ذاتها، فهي صيغ جامدة، فارغة، جوفاء، لذلك نحتار في فهم المقصود من عبارة”الشيطان الفعلاني” وعبارة “الشيطان الفيعالي”، هل هما مبنيان على اشتقاق لغوي لا صرفي، بحيث يكون معنى فعلاني من الفعل، وفيعالي من الانفعال؟ وحتى إذا اعتبرنا أن التقسيم مبني على ما هو لغوي لا صرفي فإن المعنى يظل غامضا لا يؤدي الغرض، لأننا نلاحظ أن الكاتب يتحدث عن شيطان فاعل في الحالتين معا، لا عن شيطان منفعل.
ولكننا إذا ما أعدنا قراءة الآيات التي جمعها تحت كل قسم من القسمين بدا لنا التخبط واضحا جليا لا يحتاج بذل جهد من القارئ، إذ لا نهتدي إلى المقاييس “العلمية” التي اعتمدها في جمع كل مجموعة من الآيات تحت قسم معين، اللهم التخبط والارتجالية والبحث عن المسحة “العلمية”. وعلى سبيل المثال فإنه وضع الآية التالية:”وإن يدعون إلا شيطان مريدا” في القسم الأول، الفيعالي، ووضع الآية التالية:”يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا” في القسم الثاني، الفعلاني، وهما لهما نفس الدلالة والمعنى، فدعاء الشيطان في الآية الأولى هو بمعنى عبادته في الآية الثانية، وقس على ذلك جميع الآيات الأخرى.
وقد تعمد شحرور، كسائر عاداته، اللجوء إلى التلاعب بالكلمات اللغوية التي تحيل على المعجم الفلسفي لإظهار نزعته “العلمية” والتحذلق أمام القارئ، مثل قوله المشار إليه، أن “الشيطان الفعلاني هو أحد أطراف العملية الجدلية في الفكر الإنساني الذي يحاول معرفة الحقيقة الموضوعية الرحمانية، لذا فوجوده فكري بحت وليس موضوعيا أي أنه يمثل الطرف الوهمي في الفكر الإنساني وهو الطرف النقيض للرحمان الذي هو الطرف الحقيقي وهما العنصران المتناقضان في الفكر الإنساني”. ففي هذه الفقرة استعمل عبارة”العملية الجدلية في الفكر الإنساني”، وهي عبارة مشحونة بدلالات مناقضة للمفاهيم القرآنية التي يدعي شحرور أنه يلتزم بها، بل مناقضة تماما للعقيدة الإسلامية. ذلك أن معناها أن كلا من الشيطان والرحمان هما مفهومان ذهنيان فحسب، يعيشان داخل الوعي الإنساني، ولا حقيقة لهما في الخارج، أو بتعبير شحرور، ليس لهما “وجود مادي خارج الوعي الإنساني”. يتضح لنا هذا المعنى بشكل أكبر في كلامه حين يقول:”وهما العنصران المتناقضان في الفكر الإنساني”، وهذا كلام غير سليم لأنه يؤدي بنا إلى السقوط في العقيدة الثنوية لدى المانوية، الديانة الفارسية القديمة، التي تقول بوجود إلهين اثنين هما إله النور وإله الظلمة، أو إله الخير وإله الشر، وهما إلهان متناقضان، تماما مثل “عنصري” شحرور المتناقضين في الفكر الإنساني؛ فلا فرق بين هذا الكلام وبين النزعة الثنوية سواء في الدين أو في الفلسفة.ولعل شحرورا لم يفهم بشكل جيد أن للشيطان معاني عدة في القرآن بحسب العلماء والمفسرين، فهي تعني الهوى والنفس الأمارة بالسوء، بدليل أن القرآن لا يتحدث عن شيطان واحد، مثل إبليس مثلا، بل عن شياطين، ويقول العلماء إن لكل شخص شيطانه، بمعنى قواه وقواه النفسية الخاصة به. وتعني الكلمة أيضا كل من يغوي شخصا معينا ويحرفه عن الصراط المستقيم، مثلما في قوله تعالى:”وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم”، فالشياطين هنا تشير إلى ملأ قريش وكبرائها.
إرسال التعليق