
حرب الإثني عشر يوم
رصد المغرب / عبدالكبير بلفساحي
حرب الإثني عشر يوم، إذا صح لنا تسميتها كذلك ، بين إيران والكيان الصهيوني، قد تكون بحق بداية النهاية لإسرائيل كما نعرفها، لأن إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن “انتهاء الحرب” لم يكن إلا تتويجا لصراعٍ أكبر، عنوانه هو”حرب الخداع الكبير”،بحيث هذه الحرب لم تكن تسعى لتحقيق نصر عسكري حاسم بقدر ما كانت أداة لإعادة إنتاج سرديات الشرعية الداخلية في كل من إيران وإسرائيل، بمعنى آخر لم يكن الهدف تصفية حسابات تاريخية أو حسم صراع تقليدي ، بل استثمار اللحظة العسكرية لتثبيت شرعية الأنظمة السياسية داخليا.
فطريقة إنهاء الحرب كما بدت، وكأنها مصممة لحفظ ماء وجه جميع الأطراف، حيث لم يهزم أحد صراحة، ولم يعلن أحد عن استسلام، وكل طرف صاغ روايته الخاصة للنصر، واحتفل بها وفقا لمنطقه ودوافعه الداخلية، حتى وإن كانت تلك السرديات مناقضة للواقع أو محاطة بالشك وسط الخداع وانتصارات وهمية، لأن أحد أبرز ملامح هذه الحرب هو التضارب الكبير في السرديات والمعلومات، فإسرائيل على سبيل المثال، أعلنت اغتيال عدد من القادة العسكريين الإيرانيين البارزين، إلا أن هؤلاء القادة ظهروا لاحقا في احتفالات النصر في طهران، أو في اجتماعات رسمية مثل اجتماع وزراء دفاع منظمة شنغهاي في الصين، حيث وزير الدفاع الإيراني ومستشار المرشد الأعلى علي شمخاني، واللذان أشيع أنهما اغتيلا، ظهرا أحياءا في مناسبات علنية.
وأما فيما يخص البرنامج النووي الإيراني، فقد ادعت الولايات المتحدة وإسرائيل تدميره بالكامل، بينما نفت إيران ذلك جملة وتفصيلا، حتى أن تقارير استخباراتية أوروبية أكدت عدم تأثر مخزون إيران من اليورانيوم، حيث أدى ذلك إلى مشهد شهير حين انفعل ترامب وطالب بطرد مراسلة شبكة CNN لمجرد إعلانها هذا الخبر، حتى أنه تلفظ بحقها بعبارات غير لائقة.
ورئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، حاول تصوير الحرب كمكسب سياسي داخلي، لكنه استراتيجيا وعلى المستوى العسكري والأمني تكبد خسائر رمزية جسيمة، ولأول مرة منذ عام 1948 يتم استهداف تل أبيب بهذا الشكل العنيف، في قلبها وأعماقها، رغم وجود “القبة الحديدية” التي لطالما وصفت بأنها درع لا يخترق، بحيث سقوط هذا الوهم وحده يمثل هزيمة معنوية كبرى لإسرائيل، لأن هذه الحرب لم تكن حربا تقليدية بقدر ما كانت معركة سرديات وخداع إعلامي وسياسي، حيث لم يكن فيها منتصر حقيقي، بل سعى كل طرف إلى رسم صورة نصر وهمي، يخدم أهدافه الداخلية، بل إنها حرب انتهت، لكن آثارها ستبقى حاضرة في شكل أزمة شرعية متبادلة، وهشاشة في صورة كل من النظامين أمام جمهورهما.
ويمكن النظر أيضا إلى الصراع بين إيران وإسرائيل، ليس فقط كعداء تقليدي أو خصومة تاريخية، بل كضرورة وجودية تستخدم من كلا الطرفين لتثبيت شرعية النظام السياسي داخليا، فمنذ عام 1979، أصبح “العدو الصهيوني” جزءا أساسيا في الخطاب السياسي والإعلامي الإيراني، ويستخدم كأداة لاختبار واستمرار شرعية الأنظمة المتعاقبة، لأن الثورة الإيرانية عام 1979 تمثل حجر الزاوية في تشكيل الهوية السياسية لإيران، واستمرار هذا الخطاب العدائي يعزز من تماسك النظام أمام الداخل، وأما بالنسبة لإسرائيل فإنها تقدم إيران كخطر وجودي لا يهدد فقط أمن إسرائيل، بل أمن المنطقة والعالم ككل، وتستخدم كفزاعة تبرر سياسات عسكرية وأمنية كثيرة، حيث نجح بنيامين نتنياهو، من خلال هذا التصعيد، في تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، وهي ضمان استمرار عسكرة الدولة:،إذ وفر الصراع مبررا مقنعا لاستمرار تعزيز القدرات العسكرية وزيادة ميزانيات الدفاع، تحت ذريعة مواجهة التهديد الإيراني، والحفاظ على الدعم الغربي، خصوصا الأميركي ، لأنه رغم تراجع التعاطف الأوروبي مع إسرائيل نتيجة حربها على غزة، إلا أن نتنياهو استطاع عبر التركيز على التهديد الإيراني أن يعيد توجيه الأنظار ويحافظ على جزء من هذا الدعم، وأخيرا تحقيق مكاسب سياسية داخلية، حيث استخدم التصعيد مع إيران كأداة لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، حيث نتنياهو الذي كان يواجه أزمة سياسية عميقة وفشلا في تحقيق أهداف الحرب على غزة، إضافة إلى ملاحقات قضائية واحتمال سقوط حكومته، وجد في الضربة الإيرانية فرصة للالتفاف الشعبي حوله، لأنه بمجرد وقوع الضربة، توحدت القوى السياسية خلفه، بما في ذلك المعارضة التي عادت وأعلنت دعمها له، بل إن استطلاعات الرأي بدأت تصب في صالحه، حتى أنه فكر في الدعوة لانتخابات مبكرة.
وفي المقابل، كانت إيران تمر منذ عام 2022 بموجة احتجاجات داخلية واسعة، بدأت مع مقتل “مهسا أميني” على يد الشرطة، وتصاعدت حتى قبيل الضربة العسكرية بأيام، حيث شهدت 93 مدينة في 27 محافظة إيرانية احتجاجات واسعة على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ومع ذلك وفور وقوع الهجوم، توحد الشارع الإيراني خلف النظام، حتى المعارضة الداخلية أوقفت انتقاداتها، و مثال على ذلك ما صرح به الأديب وأستاذ الاجتماع السياسي الإيراني “بيات”، الذي أكد أنه لا يمكن الوقوف ضد الدولة الإيرانية في هذا الظرف، ومن أبرز رموز هذا التوحد كانت “سحر إمامي”، المذيعة الإيرانية التي قتلت جراء قصف مبنى التلفزيون الإيراني أثناء بث مباشر، فتحولت صورتها اليوم إلى رمز من رموز الصمود والمقاومة، حيث تملأ صورها شوارع وميادين طهران، وبالتالي فإن هذه الحرب لم تخض بهدف تحقيق نصر عسكري حاسم، بل كانت وسيلة لإدارة الأزمات الداخلية لدى الطرفين، فلقد تجاوز الصراع الأبعاد العسكرية التقليدية، ليتحول إلى أداة لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتثبيت شرعية الأنظمة الحاكمة وسط أزمات داخلية متفاقمة.
ورغم أن الهدف الإسرائيلي المعلن من الضربة الأخيرة على إيران كان مزدوجا، وهو إسقاط النظام الإيراني وإنهاء البرنامج النووي، إلا أن أيا من هذين الهدفين لم يتحقق فعليا، فلم يسقط النظام ولم ينه البرنامج النووي، بل بالعكس تعززت شرعية النظام داخليا، وتوحد الإيرانيون خلف حكومتهم في مشهد يعكس كيف يمكن للعدوان الخارجي أن يتحول إلى وقود يوحد الداخل بدلا من أن يفككه، على عكس إسرائيل، وتحديدا حكومة بنيامين نتنياهو، والتي كانت تسعى من خلال هذه الضربة إلى تحقيق مكاسب سياسية داخلية، في ظل أزمات متلاحقة تعصف بالحكومة، من الفشل في غزة، إلى تصاعد النقد الدولي، وصولا إلى تراجع شعبيته وانقسامات الكنيست، فقد رآى نتنياهو في الضربة على إيران فرصة للهروب من مأزقه السياسي.
فمنذ التسعينات، شكلت إيران جوهر المشروع السياسي والفكري لنتنياهو، لأن في كتابه الأول عام 1993 بعنوان “مكان تحت الشمس”، ثم لاحقا في كتابه الثاني عام 1997، لم يتوقف نتنياهو عن تصوير إيران كتهديد وجودي ليس فقط لإسرائيل، بل للمصالح الغربية ككل، مؤكدا أن امتلاك إيران للسلاح النووي سيكون كارثة على المنطقة والعالم، وهذا الخطاب نفسه استخدمه لاحقًا لإقناع الولايات المتحدة بخوض مواجهة مباشرة مع طهران، وهي الضربة الأميركية الأخيرة للمنشآت النووية الإيرانية، والسؤال هنا هو هل ورط نتنياهو الولايات المتحدة في هذه المواجهة؟ أم أن واشنطن كانت تخطط لها سلفا؟، والجواب يظل معقدا، حيث أن الإدارة الأميركية لم تبادر بالضربة إلا بعد الرد الإيراني العنيف، والذي استهدف العمق الإسرائيلي بصواريخ لأول مرة منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، فقد كانت هذه الضربات صادمة وغير متوقعة، وهو ما دفع الرئيس الأميركي للقول بوضوح إن التدخل الأميركي “أنقذ إسرائيل”.
بالفعل، فإن الضربة الإيرانية التي طالت قلب إسرائيل أربكت الحسابات العسكرية والسياسية، وكادت تقلب المكاسب المحدودة التي حققها نتنياهو إلى خسائر استراتيجية، لكن ومن منطق “الهروب إلى الأمام”، حاول نتنياهو استثمار اللحظة لتقديم نفسه كقائد حاسم قادر على مواجهة أكبر خصوم إسرائيل، رغم أن أهدافه الكبرى لم تتحقق، لأن الطموح الإسرائيلي المتمثل في القضاء على البرنامج النووي الإيراني وإسقاط النظام ليس جديدا، لكنه كان يتغذى دائما على هشاشة الوضع الداخلي في إيران، من احتجاجات اجتماعية واقتصادية، وتراجع ثقة الإيرانيين بنظامهم، ومع ذلك فإن الضربة جاءت بنتائج عكسية تماما، فقد نجح النظام الإيراني في استغلال التصعيد الخارجي لتوحيد الجبهة الداخلية، بل وجذب حتى بعض المعارضين إلى خندق الدولة، لأن الشارع الإيراني، رغم الاحتجاجات المتواصلة منذ 2022 عقب مقتل “مهسا أميني”، أظهر قدرة مدهشة على التوحد في لحظة الخطر، فالشعب ذو الغالبية الفارسية يتمتع بخصوصية قومية واعتداد بالهوية، يجعل أي اعتداء خارجي سببا في الالتفاف حول النظام بدلا من تقويضه.
وأما المعارضة الإيرانية، فليست متجانسة ولا موحدة، ففي الخارج تسيطر على المشهد تنظيمات مثل منظمة مجاهدي “خلق” بقيادة “مريم رجوي”، وحركة الملكيين المتحالفة مع نجل الشاه، فضلا عن جماعات انفصالية كحزب “حرية كردستان”، لكن هذه القوى، رغم أنها تتبنى خطاب إسقاط النظام، تفتقر إلى الدعم الشعبي الحقيقي داخل إيران، كما أنها ترفض فكرة تغيير النظام عبر تدخلات خارجية، وهوما يضعف من فاعليتها حتى في لحظات التأزم، في المقابل وفي الداخل، فإن المعارضة أكثر تشتتا، تتوزع على حركات طلابية وحقوقية غير منظمة، لا تملك أدوات تغيير فعالة، وإن كانت تعبر عن مزاج شعبي ناقم يظهر على شكل موجات احتجاجية متفرقة، ولذلك فإن الرهان على سقوط النظام الإيراني من خلال ضربات خارجية كان ولا يزال رهانا غير واقعي، وهو ما أثبتته هذه الجولة من التصعيد، وفي النهاية، تظهر هذه المواجهة أن السياسة في الشرق الأوسط لم تعد تقاس فقط بميزان القوة العسكرية، بل بقدرة الأنظمة على توظيف الصراع خارجيا لتعزيز مواقعها داخليا، فنتنياهو لم يحقق الأهداف التي أعلنها، بل ربما وجد نفسه في موقع دفاعي بعد الرد الإيراني، وأما طهران، فقد استخدمت الضربة كأداة لإعادة لحمة الداخل، رغم كل التصدعات، ليبقى السؤال الأهم هوهل كان هذا الاصطفاف الداخلي الإيراني مؤقتا؟ وهل تعود الأمور إلى سابق عهدها بعد انتهاء الحرب؟، والإجابة لن تتأخر كثيرا، لكن الواضح أن إسقاط النظام الإيراني، كما تروج له إسرائيل، لن يكون ممكنا عبر الطائرات والصواريخ، بل يحتاج إلى ما هو أعمق، وهوتحولات اجتماعية وسياسية من الداخل، لا تصنع تحت القصف.
وكما سبق ذكره، ورغم الضربات الإسرائيلية المركزة التي استهدفت الداخل الإيراني، ورغم الاغتيالات الدقيقة التي طالت “رؤوسا كبيرة” في هرم القيادة الإيرانية، إلا أن إسرائيل أثبتت مرة أخرى أنها غير قادرة على إسقاط النظام الإيراني، ولم تتراجع عن هذه الفكرة على الرغم من فشلها المتكرر، وكل ذلك راجع إلىى أن الجغرافيا الإيرانية، الممتدة على مساحة تفوق العراق بثلاثة أضعاف، والديموغرافيا المعقدة التي تتميز بتنوع عرقي ومذهبي، تجعل من فكرة إسقاط النظام الإيراني عبر ضربات جوية أو عمليات استخباراتية محدودة مجرد وهم استراتيجي، لأن إيران ليست كغزة، ولا تشبه لبنان أو سوريا من حيث حجم الأرض وطبيعة الحكم وتركيبة النظام وحجم القاعدة الشعبية التي يتمتع بها.
والرهان الإسرائيلي، وإن بدا جريئا على السطح، لم يتجاوز كونه محاولة لاستثمار القدرة التقنية والاستخباراتية في اختراق المنظومة الدفاعية الإيرانية، وخلق حالة من الضغط الداخلي عبر الحرب النفسية ومنصات التواصل الاجتماعي، التي ذهبت إلى حد تقديم استشارات طبية للجرحى داخل إيران، ولكن هذه الأدوات، مهما بلغت دقتها، لا تكفي لإسقاط نظام بهذا العمق، لأنه في الحقيقة، إسقاط النظام الإيراني يتطلب حربا شاملة ومعقدة ومتعددة الأطراف، وتحالفا دوليا واسعا تقوده الولايات المتحدة، كما حدث في العراق عام 2003 ضد نظام صدام حسين، ولكن السياق الإيراني مختلف كليا، من حيث البنية السياسية والقوة العسكرية والتحالفات الإقليمية والدولية.
وعليه فإن إسرائيل رغم الضجيج الإعلامي والسياسي، لم تحقق أهدافها الإستراتيجية، وإن كان نتنياهو يحاول تقديم “مكاسب رمزية” في الداخل الإسرائيلي لتغطية هذا الفشل، خصوصا في ظل إخفاقاته المتواصلة في غزة، ففي الواقع، عادت استطلاعات الرأي الإسرائيلية مؤخرا لتؤكد أن الحرب في غزة أصبحت عبئا أكثر منها مكسبا، وأن الوقت حان للبحث عن تسوية سياسية أو هدنة، مما ينسف جزءا كبيرا من السردية التي يحاول نتنياهو ترسيخها حول “الانتصارات” الإسرائيلية، لذلك فإن الضربة الأمريكية هي لإنقاذ إسرائيل أم نتنياهو و حفظ ماء الوجه.
ومن جهة أخرى، لا يمكن قراءة هذا المشهد دون التطرق إلى الموقف الأمريكي، فالإدارة الأمريكية الحالية، بقيادة دونالد ترامب، حاولت أن تقدم نفسها كالقوة الوحيدة القادرة على إدارة التوازن في الشرق الأوسط، وذلك بتوجيهها ضربة لإيران، ثم دعت إلى التهدئة والمفاوضات، حيث أرادت أن تقول بوضوح “نحن من نملك مفاتيح الحرب والسلام معا”، ولكن الضربات الإيرانية القوية التي طالت عمق إسرائيل، كشفت حدود الدور الإسرائيلي، وأكدت لواشنطن أن إسرائيل وحدها لم تعد قادرة على لعب دور “الردع الدائم” في المنطقة، لأن تصريح ترامب بأنه تدخل “لإنقاذ إسرائيل” يعكس هذه الحقيقة، لكن في جوهره، لم يكن المقصود إنقاذ الدولة بقدر ما كان المقصود إنقاذ نتنياهو شخصيا من الانهيار السياسي.
ولعل الأوضح في ذلك هو طلب ترامب من الرئيس الإسرائيلي منح العفو لنتنياهو، واعتباره “بطلا قوميّا” يستحق التكريم لا المحاكمة، حيث هذا الموقف بدا وكأنه تدخل مباشر في الشؤون القضائية لدولة ديمقراطية، وأثار استياءا واسعا داخل الأوساط الإسرائيلية، حتى من قبل المعارضة التي اعتبرت ذلك إهانة لسيادة القانون والمؤسسات المستقلة، ورغم محاولات نتنياهو استغلال العلاقة مع ترامب سياسيا، فإن القضاء الإسرائيلي رفض طلبه تأجيل المحاكمة، وأكد أن جلسات محاكمته ستجري كما هو مقرر خلال الشهر الحالي، حيث هنا يتكشف التناقض الكبير بين المشهدين، لأن هناك زعيم يحاول أن يصور نفسه بطلا قوميا، بينما يقف أمام القضاء بتهم فساد خطيرة، في تناقض وتحول من أدوات الردع إلى أدوات السياسة، ليبقى السؤال هو الأهم الذي يطرح نفسه في ظل هذا التصعيد، وهو هل باتت الضربات الإسرائيلية أداة من أدوات السياسة الأمريكية لفرض “السلام بالقوة”؟، ووفق نهج إدارة ترامب، يبدو أن الجواب نعم، لأن الولايات المتحدة تسعى لفرض واقع سياسي في الشرق الأوسط يخدم مصالحها أولا، حيث تعتبر إسرائيل أحد أدواتها التنفيذية لتحقيق هذا الواقع، وبالمقابل تلعب إيران دور الخصم العنيد في هذه المعادلة، بدعم روسي وصيني، وبشراكة تكتيكية مع قوى إقليمية متعددة.
وتعود إسرائيل مرة أخرى إلى حالة التأزم الداخلي، نتيجة تعقيدات المشهد السياسي والعسكري، وعلى رأسها استمرار العدوان على غزة، هذه الأزمة المتجذرة داخل إسرائيل لم تحل، بل تعمقت أكثر خاصة في ظل غياب أي حل حاسم أو نتائج استراتيجية واضحة، ولهذا ومع تزايد ضغوط الوسطاء، سواء من الجانب المصري أو القطري، يبدو أن اتفاقا سيفرض في نهاية المطاف، وسيجد نتنياهو نفسه مضطرا للموافقة عليه، في محاولة لإنهاء هذا المشهد، وإن لم يكن اعترافا رسميا من جميع الأطراف، فسيكون اعترافا ضمنيا بأن لا أحد حقق نصرا كاملا، لأن الكل خسر والكل يدعي النصر.
والنظرة الواقعية للصراع تكشف أن لا أحد خرج منتصرا بشكل واضح، والبرنامج النووي الإيراني لم يدمر كما كانت تصرح الولايات المتحدة، والنظام الإيراني لم يسقط، ولم يتم القضاء على “وكلاء” إيران في المنطقة كما كان مخططا منذ بداية العمليات، وأيضا الفصائل الفلسطينية ما زالت تنفذ ضربات موجعة ضد القوات الإسرائيلية في غزة، ولا تزال تشكل خطرا عسكريا حقيقيا، فيما بقيت أذرع إيران الأخرى، كحزب الله والحوثيين، خارج نطاق الاشتباك الفعال رغم التوقعات بتدخلهم، لأن إيران، رغم كل الضربات، دخلت هذه المواجهة وكأنها بلا دعم ظاهر من حلفائها التقليديين،فلا روسيا ولا الصين ولا حزب الله تدخلوا بشكل مباشر، وهو ما يكشف حجم الضغط الأميركي، ودور واشنطن في تحييد هذه القوى، لصالح تعزيز موقف إسرائيل على الأرض، والغريب أن كل هذه الأذرع التي أنفقت إيران سنوات في بنائها، لم تفعل في هذه اللحظة الحرجة، حتى حزب الله الأقرب جغرافيا لإسرائيل ظل ساكنا، وإن صدر عنه بعض الخطابات التصعيدية.
ورغم أن الأهداف الكبرى للعملية لم تتحقق، إلا أن هناك من يرى أن إسرائيل نجحت في تحييد “الفاعلين المسلحين من غير الدول”، أو ما يعرف بمحور “الإسناد والمقاومة”، لا سيما في البحر الأحمر، كفشل الحوثيون في التأثير الجاد على حركة الملاحة في تلك المنطقة الحساسةوالذي يعد مكسبا ضمنيا لتل أبيب، التي تسعى لتأمين الممرات البحرية باعتبارها شريانا اقتصاديا حيويا للشرق الأوسط.
وعلى الجانب الإيراني، أثبتت طهران قدرتها على امتصاص الضربة الافتتاحية التي وجهت إليها بل والرد عليها، وهوما ساهم في تثبيت الجبهة الداخلية وإعادة تماسك النظام السياسي، لأن بعد تلك الضربة، لجأت واشنطن وتل أبيب إلى ما يعرف بنظرية “الخداع الاستراتيجي”، حيث تم تضليل المتابعين بإعلانات متضاربة حول وجود خطط تصعيدية أو هدنة محتملة، ما أبقى الغموض مسيطرا على المشهد، ليبقى السؤال المهم، هوهل سترد إيران باتباع نفس استراتيجية الغموض فيما يخص ملفها النووي؟.
وهناك تقاريرغربية تؤكد أن البرنامج النووي الإيراني لم يتأثر، وأن منشآت التخصيب لا تزال تعمل بكفاءة، بل إن تحركات أقمار صناعية رصدت نشاطا لافتا قبل الضربة وبعدها، ما قد يشير إلى تحضيرات استباقية إيرانية، حيث وزير الخارجية الإيراني خرج بعد الضربة ليؤكد أن البرنامج النووي لم يصب، بل لا يزال قائما ويعمل بكامل طاقته، بل عاد بعد أيام ليكرر التصريح نفسه، ما أثارعدة أسئلة ، وهي هل تريد طهران طمأنة الداخل بأنها ما زالت قوية؟ أم أنها تخفي أضرارا حقيقية لحماية موقعها التفاوضي؟، والراجح أن إيران، كما اعتادت عبر سنوات، تحترف استخدام “الورقة النووية” كأداة للردع والمساومة، لا كأداة للاشتباك المباشر، وحتى التلويح بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي يدخل ضمن هذا الإطار، وهو ما حذر منه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باعتباره خطوة قد تزعزع استقرار النظام الدولي.
وفي خضم هذا التصعيد، تبقى المفارقة الكبرى، مثل أن دولة مثل إسرائيل، ليست عضوا في معاهدة حظر الانتشار النووي، وتملك ترسانة نووية غير خاضعة لأي إشراف دولي، تقوم بشن هجوم عسكري مباشر على دولة عضو في المعاهدة، وهي إيران، التي رغم كل الخلافات، تخضع منشآتها النووية لرقابة جزئية من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهنا تطرح طهران تساؤلا مشروعا، وهولماذا يسمح لإسرائيل بامتلاك سلاح نووي خارج إطار القانون الدولي، بينما تلاحق إيران لمجرد برنامج نووي مدني (بحسب وصفها؟، بل ترى أن الهجوم الإسرائيلي ذاته هو مبرر لمواصلة التخصيب، وتحصين منشآتها النووية باعتبارها جزءا من أدوات الردع الاستراتيجية، بل ربما أبرز تساؤل يطرحه المشهد حاليا هو أنه إذا كانت واشنطن قادرة على إنهاء الصراع المباشر بين إسرائيل وإيران بمجرد “كلمة” من الرئيس دونالد ترامب، فلماذا لا يتم إنهاء الحرب في غزة؟، والجواب قد يكمن في تعقيدات المصالح السياسية، وتوازنات الداخل الإسرائيلي، ورغبة بعض الأطراف في استثمار الوقت لتحقيق مكاسب تفاوضية، ولكن في نهاية المطاف، لا يبدو أن هناك إرادة حقيقية لحل شامل، فالجميع، سواء إيران أو إسرائيل أو الولايات المتحدة، فالكل يخوض هذا الصراع بمنطق “إدارة الأزمة” لا إنهائها، وإلى أن يتغير هذا المنطق، ستبقى غزة مشتعلة، وطهران متحفزة، وتل أبيب مأزومة، وسط صراع لا نهاية قريبة له.
إرسال التعليق