
سلفي فرنسي بالمغرب (الحلقة الثانية)
رصد المغرب/الدكتور ادريس الكنبوري
مسار الأمير التائه
يعتبر الفرنسي روبير ريشار أنطوان أول شخص أجنبي من جنسية أوروبية يعتقل في دولة عربية وإسلامية بتهمة التحضير لعمليات إرهابية(1)، ويمثل نموذجا للأوروبيين الذين تم استقطابهم من قبل تنظيم القاعدة أو جماعات السلفية الجهادية (2). ليس هذا فحسب، بل إن روبير ريشار يعد أيضا حالة متفردة لشخص أوروبي يجري اختياره كـ”أمير” لواحدة من الجماعات الجهادية، حتى وإن كان مفهوم الإمارة هنا لا يعني الإمارة الدينية بل نوعا من القيادة العسكرية. وهو يمثل أيضا واحدا من ضحايا الجماعات السلفية الجهادية في العالم العربي والإسلامي الذين تم استقطابهم
ــــــــــــــــــــــ
1 ـ اعتقلت السلطات المغربية في نفس الظروف التي اعتقل فيها الفرنسي ريشار مواطنا بريطانيا يدعى” جانسن أنطوني بيري” الذي اعتنق الإسلام عام 1994 وأصبح يسمى”ياسين”، للاشتباه في انتمائه لـ”الحركة الإسلامية الدولية المتطرفة”، وإجرائه اتصالات مع عناصر من السلفية الجهادية بالمغرب. غير أن المحكمة برأته من تهمة الانتماء للسلفية الجهادية وأدانته بالفساد وحكمت عليه بأربعة أشهر سجنا، كونه أبرم عقد زواج غير موثق لدى العدول مع فتاة من مدينة فاس بعدما لجأ إلى المغرب هاربا من العدالة البريطانية.
2 ـ شيوخ ما يسمى بتيار السلفية الجهادية، والعديد من المعتقلين، يقولون بأن المصطلح من اختلاق الدوائر الأمنية المغربية ولا وجود حقيقيا له. ونحن نستعمله هنا استعمالا إجرائيا لأنه أصبح شائعا من الناحية الإعلامية ولدى المهتمين، وإن كنا نفضل عليه مصطلح”السلفية المتشددة” أو”جماعات الغلو” حتى تبقى المصطلحات والمفاهيم في إطار مجالها التداولي الإسلامي، بحكم أن التاريخ الإسلامي عرف العديد من الجماعات المتطرفة أو الغالية التي تميزت بالغلو في الدين والتشدد في فهم النصوص الدينية. فإضافة كلمة الجهاد إلى كلمة السلفية تثير إشكالا، من حيث أن الجهاد أكدت عليه النصوص الدينية من قرآن وسنة في حيثيات نص عليها الفقهاء، بينما يتميز موقف السلفيين المتشددين بتبني التكفير السياسي وإسقاط تفسيرات السابقين على الوضع الجديد في واقع اليوم ويتعاملون مع النصوص بحرفية(أورثوذوكسية). لمعرفة التطور التاريخي الذي خضع له مفهوم الجهاد لدى المسلمين يمكن الرجوع إلى كتاب ماهر الشريف: تطور مفهوم الجهاد في الفكر الإسلامي، دار المدى، دمشق، الطبعة الأولى 2008.
وتجنيدهم من قبل المتطرفين الإسلاميين، بعد اعتناقهم للإسلام دون المرور عبر تأطير ديني سليم، وتحويلهم مباشرة من تلقين الشهادة إلى العمل الحركي.
يساعد استقطاب الأجانب، الذين اعتنقوا الإسلام، إلى تيارات التطرف والتكفير على لعب دور مزدوج. في الوقت الذي يتحركون داخل تلك الجماعات فإنهم يتوفرون نسبيا على نوع من الحصانة، ذلك أن كونهم أوروبيين يبعد عنهم شبهة الإرهاب، أما الدور الثاني الأكثر أهمية، فهو تحويلهم إلى طُعم لاستقطاب مقاتلين محليين، عبر جعلهم مثالا يحتذى بالنسبة لهم، وكأن لسان حال قيادات تلك الجماعات يقول: إذا كان شخص أجنبي وهب حياته للدفاع عن هذا الدين، وهو لم يسلم إلا حديثا، فأحرى بالمسلمين أن يكونوا في الصفوف الأولى. وهذا هو نفسه ما حصل مع روبير ريشار، إذ يعترف في الحوار المنشور في هذا الكتاب بأنه كان نموذجا للآخرين، لأن كونه فرنسيا” جاء من فرنسا باسم الجهاد ومحكوم بالمؤبد”، جعل أفراد السلفية الجهادية الآخرين يرون فيه مثالا يقتدى به ودفعهم إلى القول إنه طالما أن هناك شخصا فرنسيا بينهم “فليس مهما لنا إذا حوكمنا”.
ولد روبير ريشار في 30 يناير 1972 في”شامبون فوجيروليس” بضواحي سانت إيتيان، وهي مدينة صغيرة لم يكن عدد سكانها في تلك الفترة يتعدى عشرين ألفا، شهدت موجات هجرة متتالية نحو المدن الفرنسية الأخرى منذ السبعينات من القرن العشرين.
عرفت شامبون فوجيروليس، التي يرتبط اسمها بنهر الأندين الذي يغطي مساحة 125 كيلومترا مربعا، بالصناعات الحربية الصغيرة عبر تاريخها، مثل صناعة السكاكين والقذافات والمعادن خلال الثورة الفرنسية. وفي عام 1880 كان يعيش بالمدينة الصغيرة حوالي خمسمائة عامل في تنقية وإصلاح المعادن، وأكثر من ألف حداد وصانعي السكاكين. وخلال السبعينات من القرن العشرين، عندما ولد بها روبير ريشار، كان هناك بضعة معامل فقط، وكان من الطبيعي أن لا يجد الكثير من الشباب موقعا لهم في المدينة، وأن تظل حياتهم مرتبطة بمدينة سانت إيتيان على بعد عشر كيلومترات، والتي أخذت اسمها من القديس سانت إيتيان الذي يقول المسيحيون إنه أول شهيد في تاريخ الديانة المسيحية.
نشأ روبير في أسرة تتكون من ثلاثة إخوة، هو الثاني بينهم من حيث التسلسل. الوالد عامل متقاعد كان يعمل في مصنع للزجاج، والوالدة متقاعدة كانت تعمل في معمل للصناعات الغذائية. تلقى روبير تعليمه في مسقط رأسه نفسه، ولكنه لم يتمكن من متابعة دروسه وانقطع في القسم التاسع من التعليم الأساسي، ليدخل حياة الانحراف والتشرد، ويبدأ رحلة البحث عن الذات في مدينة صغيرة يقيم بها العديد من المهاجرين الأتراك الذين يمتلكون محال تجارية بالمدينة ويسيرون المنتديات الرياضية والجمعيات. ومن الواضح أن المراهقة والضياع والرغبة المحمومة في التعبير عن الذات، أو ما يسميه الفيلسوف الألماني هيغل”رغبة اعتراف الآخرين بك”، هي الثالوث المقدس الذي يؤدي بالمرء مباشرة إلى التمرد، والتمرد هو وقود الثورات الشبابية الرومانسية، مثلما حصل في ثورة 1968 في باريس، والتي كانت خليطا من الطموح إلى نيل الاعتراف وتكريس الحرية الجنسية وفرض الأشكال الثقافية الجديدة. غير أن رموز هذه الثورة الجديدة في بداية التسعينات، حين بدأت العولمة تفرض وجودها رويدا رويدا وتتغير القناعات الماضية مع تهاوي جدار برلين، لم يعد جان بول سارتر أو ميشيل فوكو، بل قناع شخص من أرومة عربية يدعى أسامة بن لادن، أصبح بالنسبة لكل من يعتبر نفسه واحدا من المعذبين في الأرض الحق في ارتدائه والصعود على خشبة المسرح للعب دور البطولة الباحثة عن نفسها وسط غابة من الأساطير.
بعد توقفه عن الدراسة لفترة قصيرة التحق روبير بإحدى المدارس الخاصة وحصل على ديبلوم في شعبة المحاسبة، ثم اشتغل خلال عامي 1991و1992 في معمل للقطن بمسقط رأسه، لتبدأ مرحلة جديدة كلية في حياته، سوف تقوده فيما بعد ليصبح أحد المقيمين الرئيسيين المرحب بهم في سجون المغرب. فقد تعرف على شخصين من جنسية تركية يعتنقان المذهب الحنفي، حسب قوله، وسرعان ما توطدت العلاقة معهما، ليتمكنا في الأخير من إقناعه باعتناق الدين الإسلامي، فاعتنق الإسلام واختار اسما جديدا له هو يعقوب.
يعرف الكثير من الغربيين عن الإسلام بمقدار ما يعرفه أي مشتغل بنجارة الخشب عن الكيمياء، أو مخرج تلفزيوني عن علم الأجنة، ولذلك فإن عمى الألوان يصبح واقعة مسلما بها وذات أساس منطقي. وعندما يتعرف أي مواطن غربي على شخص مسلم فإن من الطبيعي أن يتكون لديه اعتقاد بأنه أمام نسخة مطابقة لجميع المسلمين الموزعين في الأرض، فالغربي يملك صورة جد نمطية عن الإسلام والمسلمين، تم نحتها طيلة مراحل زمنية طويلة بفعل الدراسات الاستشراقية والآلة الإعلامية، وقليلا جدا ما تتم الإشارة إلى التعدد والتعقد الذي يتميز به الحقل الديني في العالم العربي والإسلامي، والتمايزات المذهبية الموجودة بداخله، وإن كانت هذه الصورة بدأت تختفي تدريجيا عقب تفجيرات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن فقط لتترك مكانها لصورة نمطية أخرى، حيث بات التركيز على السلفية وتيارات العنف
في الإسلام يحظى بالأسبقية(3).
من الواضح أن روبير ريشار كان متأثرا بالصورة النمطية الأولى، شأنه شأن العديد من الفرنسيين والغربيين عموما قبل تفجيرات 11 سبتمبر، لذلك كان من السهل أن يرى في الأشخاص الذين تعرف عليهم في مدينته نماذج للإسلام الواحد النمطي، وأن يعتنق الإسلام على هذا الأساس، من غير أن يعرف أنه يعتنق واحدا من تيارات الغلو والتشدد الديني التي تعبر عن حالة الشذوذ في الحقل الإسلامي. إن هذا هو ما يفسر كيف أنه تقدم بالتماس لمقابلة قس الكنيسة الكاثوليكية في الرباط في مارس من عام 2007، إثر الأزمة النفسية التي ألمت به بعد ابتعاده عن سجناء السلفية الجهادية داخل سجن سلا، وعندما بدأ في تغيير قناعاته ومواقفه المتطرفة، والتخلي عن أداء بعض العبادات، كما يعترف هو شخصيا. ففي الحوار(4) الذي أجريناه معه، يعترف بأنه بدأ يشكك في قناعاته الدينية نفسها، وبأنه ظل ثلاثة أشهر لا يصلي، وكان بحاجة
ـــــــــــــــــــــ
3- يمكن الرجوع هنا إلى الدراسة القيمة التي أنجزها الباحث المغربي في جامعة مدريد المستقلة محمد المدكوري معطاوي حول صورة العربي والمسلم بعد 11 سبتمبر 2001.
ـ Mohamed El Madkouri Maataoui :La representación del inmigrante Árabe tras los atentados de 11-S.In :
Analisis del discurso :Lengua, cultura, valores.actas del 1 congreso internacional.Madrid.2006.p :2207-2230.
4- أجري الحوار في يوليوز 2007، أي بعد مضي أربع سنوات على اعتقاله والحكم عليه بالسجن المؤبد. إن الفاصل الزمني بين اعترافات روبير ريشار أمام الضابطة القضائية وبين تاريخ إجراء الحوار يكشف عن حصول تحولات في قناعات”الأمير الأشقر”، كما وصفته الصحافة الفرنسية، بعد تجرية السجن طيلة تلك الفترة. في الفصل الخاص بالمراجعات من هذا الكتاب سوف نتطرق بكثير من التفصيل لهذه النقطة.
إلى من ينصت إليه، فجاء طلبه لقاء قس الكنيسة الكاثوليكية. ووفق تصريحات محاميه، الفرنسي فانسان كرسيل لابروس لوكالة”أ إف بي”، فإن روبير كان يود التكفير عن خطئه”لكونه لازم إسلاميين متطرفين في السابق”، وأن طلبه لقاء القس نابع “من إرادة حقيقية من لدنه”.
وإذا كانت تلك الحالة النفسية محصلة طبيعية في أي انتماء شاذ، من شأنها أن تدفع المرء إلى الاتجاه المضاد لدى أي اختبار بسيط، فإنها تكشف بالتالي معطى هاما وجديرا بالملاحظة، وهو أن الانتماء إلى تيارات السلفية الجهادية، بشتى أنواعها، إنما هو تعبير عن الخلل في التدين الفردي والجماعي. لقد التصق الإسلام في لاوعي روبير بالتجند لفائدة السلفية الجهادية، فكان من الطبيعي أن يتناهى إلى تصوره أن الانفكاك عن التطرف هو انفكاك عن الإسلام نفسه في ذات الوقت. وليس روبير ريشار حالة شاذة بل هو واحد من نماذج عدة حصلت وما زالت تحصل في الغرب. فكثيرون تعرفوا على الإسلام من خلال الطرق الصوفية، وظلوا يعيشون على وعي مغلوط بأن الطريقة التي اعتنقوها هي هي الإسلام، وأن الإسلام الذي لامس قلوبهم هو هو الطريقة. في الواقع يتعلق الأمر بمشكلة أساسية هي كيفية تقديم الإسلام للآخر، وتعدد قنوات تصريف صورة الإسلام في الخارج في غياب سياسات حقيقية للدوائر الإسلامية في الغرب وما عداه.
لقد كان اعتناق روبير ريشار للإسلام تجنيدا في الوقت ذاته، فهو إذن لم ينتم للإسلام بقدر ما انتمى لتيار سياسي معين باسم الإسلام نفسه. في الثامنة عشرة من العمر، السن التي أسلم فيها روبير، يصعب على الشاب التمييز ين الأشياء التي تقدم له، خصوصا إذا كانت من خارج ثقافته، أما إذا كان المرء في تلك السن ضائعا وفاقدا لنقطة ارتكاز ثابتة في حياته، كما كان روبير حقا، ويبحث عن معنى لوجوده، فإن الأمور تصبح أكثر تعقيدا. وإذا عرفنا أساليب التجنيد لدى السلفيين الجهاديين في صفوف الشباب المسلم، كما هو الحال في المغرب، وعرفنا كيف يتم غسل أدمغة هؤلاء الشباب بسهولة، أدركنا إلى أي حد تكون المهمة أسهل مع شخص أجنبي.
من”الإسلام” إلى أفغانستان
عندما اعتنق روبير ريشار الإسلام، كانت فرنسا تمور بالتموجات الاجتماعية والسياسية على خلفية بروز الإسلام فوق السطح وخروج الجاليات المسلمة للتعبير عن نفسها في الشارع العام. قبل أن يعتنق روبير الإسلام بعامين كانت فرنسا قد شهدت أولى التحركات لمسلمي بلد فولتير عام 1989 بعد نشر الكاتب الهندي سلمان رشدي روايته”آيات شيطانية”، إثر الفتوى التي وضعها آية الله الخميني والتي استباح فيها دم الكاتب ودعا المسلمين عبر العالم إلى التظاهر احتجاجا على الرواية. لم يفطن أحد إلى أن تلك الفتوى كانت في الحقيقة بداية”عولمة العنف باسم الإسلام”، وسواء اختلف المرء معها أم لا، فهي كانت تعبيرا عن عنف الدولة باسم الدين، وخارج الحدود الإقليمية للدولة.
بعد فترة قصيرة من تفجر تلك القضية ظهرت على سطح الأحداث قضية جديدة هي ما سمي بـ”حرب التشادور”. ففي الخامس من شهر أكتوبر 1989 نشرت أسبوعية”لا نوفيل أوبسيرفاتور” بتعاون مع القناة الفرنسية الثانية ملفا حول الحجاب أثار غضب مسلمي فرنسا، وغذى نقاشا سياسيا ساخنا تصدر الصفحات الأولى للصحف والمجلات والنشرات الرئيسية للأخبار التلفزيونية. وفي العام التالي اندلعت “انتفاضة الضواحي” في باريس وبعض المدن الفرنسية الأخرى، وانعكس ذلك على طبيعة الجدل السياسي القائم في فرنسا، وحصل نوع من التحول في طريقة تعاطي السلطات الفرنسية مع موضوع الإسلام(5).
تلا هذه الأحداث على مستوى الداخل حدثان بارزان على الصعيد الخارجي كان لهما تأثير واضح على المسلمين المهاجرين في فرنسا، وخاصة في صفوف الجالية الجزائرية. الحدث الأول هو الغزو العراقي للكويت في غشت من سنة 1990، بعد انتفاضة الضواحي مباشرة، والتدخل الدولي أو ما سمي بـ”التحالف الثلاثيني” لإخراج النظام العراقي من الكويت. بعثت تلك الحرب مصطلحا كانت الذاكرة الإسلامية حتى ذلك الحين توظفه في النظر إلى التاريخ فقط، وهو الحرب الصليبية، فضخت فيه دماء جديدة ووجد مكانا خصبا قابلا لأن يزرع فيه، أمام ثلاثين دولة أجنبية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة دولة عربية مسلمة. أما الحدث الثاني فهو المواجهة التي اندلعت بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ
ــــــــــــــ
5-Thomas Deltombe :L islam imaginaire.La construction médiatique de l’islamophobie en France, 1975-2005.La decouverte.Paris 2005.p :170-261.
والسلطة في الجزائر بعد الانقلاب على نتائج الانتخابات البلدية عام 1991، وما تلاه من نشأة الجيش الإسلامي للإنقاذ (جيا). وإذا كان الحدث الأول قد حرك المسلمين في فرنسا والبلدان الغربية عموما، تحت وطأة الشعور بـ”جرح الكرامة القومية”، فإن الحدث الثاني كان له تأثير بالغ جدا على الوضع الفرنسي في الداخل، مع وجود جاليات جزائرية كبيرة العدد، وحصول استقطاب واسع في صفوفها لكلا التيارين المتحاربين في الجزائر.
القصد من هذه الإشارة إلى أهم التطورات السياسية ذات العلاقة بالمكون الإسلامي في فرنسا في تلك الفترة، هو التأكيد على أن روبير ريشار أثناء اعتناقه الإسلام وجد نفسه في مناخ معبأ سلفا لصالح الجانب المتوتر، وكان احتكاكه مع مغاربة وجزائريين من أتباع التيار السلفي الوهابي ممن يترددون على “الجمعية الثقافية الإسلامية” في بوشي، بإقليم لالوار، بداية ترسخ”قناعاته” الجهادية نتيجة عملية التعبئة وغسيل المخ التي كان يخضع لها باستمرار. وفي عام 1994، أي بعد عامين على إسلامه، سوف يهاجر إلى تركيا بإيعاز من مسؤولي المساجد التركية في فرنسا، حسب اعترافاته في محضر الضابطة القضائية في 7 يونيو 2003، وذلك من أجل”تقوية معارفه الدينية”، ولأنه لم يكن يملك عملا في ذلك الوقت ولا الإمكانيات المادية للسفر، فقد تكلف أحد المهاجرين الأتراك في مدينة سانت جيست، يدعى”إحسان”، بأعباء سفره (6).
في تركيا أقام روبير لمدة شهر في بيت شقيق “إحسان” المشار إليه، يدعى “شكير”، بمدينة كونيا على بعد300 كيلومترا من أنقرة. وكونيا هي المدينة التي تؤوي ضريح المتصوف مولانا جلال الدين الرومي وتعرف بأنها مدينة المساجد والقباب، لأن العثمانيين عملوا على تحويل الكثير من الكنائس فيها إلى مساجد. وخلال تردده على مساجد المدينة تعرف على شخصين عراقيين، أقنعه أحدهما، ويعمل مدرسا للغة العربية، بالإقامة معه في بيته. وقد بقي روبير في بيت العراقي المسمى”خالد” مدة ستة أشهر، درس خلالها على يديه اللغة العربية وتلقى عنه دروسا في الفكر السلفي، على منهج ناصر الدين الألباني(7)، حسب محضر اعترافاته.
ـــــــــــ
6 – الرجوع إلى المحضر لا يعني اعتماد كل ما ورد فيه على أنه الحقيقة الكاملة، بل فقط للاستئناس بين الحين والآخر، إذ قد تكون الاعترافات الواردة فيه منزوعة منه تحت طائلة التعذيب، وفي الحوار الذي أجريته معه من السجن يشير إلى هذه النقطة. وأقر الملك محمد السادس، في حوار مع يومية”إيل باييس” الإسبانية في يناير 2005، بحصول تجاوزات في الاعتقالات التي أعقبت تفجيرات الدار البيضاء عام 2003، كما أن العديد من المنظمات الحقوقية المغربية والدولية أشارت إلى ممارسة التعذيب في حق المعتقلين في تلك الأحداث. يمكن الاطلاع هنا على التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية الصادر عام 2007 حول التعذيب تحت عنوان:”المغرب – الصحراء الغربية: ممارسة التعذيب في حملة مكافحة الإرهاب، قضية معتقل تمارة”.
7 – أحد علماء الحديث، ولد عام 1914 بألبانيا وانتقل صغيرا إلى سوريا حيث سجن، ثم عاش في الأردن ودرس فترة في المملكة العربية السعودية وتوفي في عمان عام 1999. خرج العديد من الأحاديث النبوية وكان أحد مؤسسي “السلفية التقليدية أو العلمية” إلى جانب الشيخ عبد العزيز بن باز مفتى السعودية. قام بدور كبير في تخريج الأحاديث وتحقيق كتب السنة، وكان يرى العودة إلى الإسلام على منهج السلف، الذي حدده في القرون الثلاثة الأولى، بناء على تفسير للحديث النبوي”خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”.وخلال الغزو الروسي لأفغانستان أفتى بالجهاد في ذلك البلد لكنه امتنع عن الإفناء به في فلسطين، ومن بين أشهر أقوله”من السياسة ترك السياسة”. شكلت فتاواه ومواقفه، إلى جانب فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مفتى المملكة العربية السعودية السابق(1912-1999)، المحضن الرئيسي للسلفيين في العالم العربي والإسلامي، وكان أبرز أقطاب التيار الوهابي السني. أفتى بحرمة الخروج على الحكام، وحرمة التفجيرات الانتحارية، وعدم جواز الجهاد في الدول الإسلامية لحقن دماء المسلمين. وكان منهجه السلفي يرتكز على مبدأ التصفية والتربية”دون تكثل، دون تحزب، دون اشتغال بالعمل السياسي”، والمقصود بالتصفية “تقديم الإسلام إلى الشباب المسلم مصفى من كل ما دخل فيه على مر هذه القرون والسنين الطوال من العقائد ومن الخرافات ومن البدع والضلالات، ومن ذلك ما دخل فيه من أحاديث غير صحيحة قد تكون موضوعة”. أما التربية فهي تربية المسلمين”على أساس ألا يفتنوا كما فتن الذين من قبلهم بالدنيا”. أنظر كتاب شوقي بناسي: التصفية والتربية عند الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني. دار ابن حزم، الرياض، الطبعة الأولى 2007.
بعد كونيا انتقل روبير إلى مدينة اسطانبول في الشمال الغربي من تركيا على نهر البوسفور، التي ارتبط اسمها في الماضي بالقسطنطينية، بنية الاستقرار بها. وجاء سفره إليها بناء على اقتراح من شخص يدعى”عبد الله برامار”. وفي اسطانبول تابع روبير تلقي دروس دينية في مسجد”كان كورن” لمدة أربعة أسابيع. وخلال إقامته تلك تعرف على شخص تركي حدثه بشأن السفر إلى الجزائر للالتحاق بالجيش الإسلامي للإنقاذ أو أفغانستان من أجل الجهاد، فوقع اختياره على أفغانستان(7).
كان دافع سفر روبير إلى أفغانستان هو تلقي تداريب عسكرية على القتال واستعمال المتفجرات، كما يعترف في محضر الضابطة القضائية الذي نبقي على مسافة معينة معه، وإن كان واضحا أن اختيار تلك الوجهة في ذلك الوقت لا يمكن أن يكون للسياحة أو التبضع. ولكي يحقق تلك الرغبة كان عليه أن يحصل أولا على تأشيرة دخول إلى العاصمة الإيرانية طهران، حيث مكث بها قرابة شهر برفقة شخص ذي جنسية جزائرية وأربعة مواطنين أتراك. وفي طهران، تمكن الأشخاص الستة من الحصول على تأشيرة لدخول الأراضي الباكستانية بمساعدة مجاهدين باكستانيين شاركوا في حرب كشمير المشتعلة بين الهند وباكستان، فتوجهوا إلى الجزء الخاضع لهذه الأخيرة من كشمير حيث أقاموا مدة عشرين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7- الهجرة والنصرة من مبادئ تيارات السلفية الجهادية(مبدأ تكفير الدولة) وجماعة التكفير والهجرة(مبدأ تكفير الدولة والمجتمع)، فبعد إسلام المرء يعتنق مبدأ التكفير أو التبديع في حق المخالفين، والتكفير هنا سلسلة لا متناهية، لأن التكفيريين يكفرون الشخص ويكفرون من لم يكفره، كونهم يرون أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، وهكذا دواليك. ثم يأتي مبدأ النصرة، وهو أن يقف المسلم “في صف إخوانه المسلمين فيكون معهم يدا واحدة على أعدائهم ولا يخلي بتاتا”، والهجرة، التي يرون أنها ضرورة شرعية لنصرة دين الله في الأرض، أينما كان، ثم مرحلة الجهاد.
يوما، بعد ذلك توجهوا إلى مدينة بيشاور قرب الحدود مع أفغانستان بمساعدة شخص سعودي، حيث أقاموا بمضافة تسمى”دار الشهداء”، يشرف عليها شخص سعودي يدعى أبو حذيفة.
ارتبط اسم بيشاور خلال الاحتلال السوفياتي لأفغانستان بالأفغان العرب، الذين كانوا يتقاطرون على معسكراتها التدريبية لتلقي التداريب العسكرية والمشاركة في قتال المجاهدين الأفغان للجنود الروس. وخلال تلك الحرب كانت السعودية توفر تذاكر سفر مجانية للراغبين في القتال وترسلهم إلى تلك المدينة أو إلى إسلام أباد في باكستان، كما حفزت الرياض هيئات الإغاثة السعودية للعمل في بيشاور لصالح الأفغان العرب هناك. وبطبيعة الحال كانت المؤن توزع بنفس الدرجة مع الأشرطة والكتب المجانية لعلماء الوهابية وفتاواهم التي تجيز قتال الكافرين من الروس، لتشكل فيما بعد البيئة الطبيعية التي خرج منها الفكر السلفي الجهادي، بعد القطيعة التي حصلت بين الطرفين إثر دخول القوات الأمريكية أراضي المملكة خلال حرب تحرير الكويت عام 1990، والتي اعتبرها الجهاديون تدنيسا لأرض الحرمين ودعوا إلى تطهيرها من المشركين(8). ولم تكن السعودية تشكل استثناء في التحريض على التوجه إلى الجهاد في
ـــــــــــــــــــــــــــ
8- بنوا موقفهم ذاك على حديث نبوي يقول” أخرجوا المشركين من جزيرة العرب”، لكن العلماء قالوا في تفسيره إن الإخراج لا يفيد القتل، واختلفوا في تحديد معنى جزيرة العرب وقتها، هل هي نجد أم الحجاز بعد اتفاقهم على تحريم مكة، وهل دخولهم دخول مستأمنين أم دخول غازين، ومن بيده أمر إخراجهم، وقالوا بجواز دخول المشرك و الكتابي للحاجة والضرورة، مستدلين بتجربة النبي (ص) الذي أبقى على يهود خيبر، والخلفاء الراشدين من بعده، حتى أن عمر بن الخطاب كان مقتله على يد مجوسي.
أفغانستان، ففي المغرب دعا الإسلاميون إلى السفر إلى أفغانستان، وكانت مجلات”المجتمع”الكويتية و”الأمة” القطرية و”رسالة الجهاد” الأفغانية، التي أسسها عبد الله عزام وكان يكتب افتتاحياتها، تنشر باستمرار فتاوى علماء الوهابية وزعماء الحركات الإسلامية المحرضة على السفر للقتال إلى جانب المقاتلين الأفغان، فكانت تلك الفتاوى تجد قبولا حسنا لدى أبناء الحركة الإسلامية في المغرب(9). وقد شجعت الدولة هذا التوجه، بسبب التحالف الذي كان قائما بين
9- حسب مصادر أمنية فرنسية فقد بلغ عدد المغاربة الذين شاركوا في الجهاد الأفغاني لتلك الفترة حوالي 600 شخصا،. يومية”لوفيغارو” 22 مارس 2004. إلا أن الرقم يبدو مبالغا فيه كثيرا، وحسب عبد العالي العلام، أحد هؤلاء، في لقاء مع المؤلف، فإن العدد لم يكن يتجاوز ثلاثين شخصا بالكاد، توجهوا إلى أفغانستان بشكل فردي وبدعم غير مباشر من الإسلاميين. وكان المغاربة المجموعة الوحيدة التي لم تقم لها مضافة خاصة في بيشاور، والعديد منهم تلقوا تداريبهم في معسكر خلدن، لكن في بداية التسعينات سوف تتم إقامة”مضافة المغاربة”إثر بدء الاقتتال بين الفصائل الأفغانية وبروز “الجماعة الإسلامية المغربية المقاتلة”، وكانت المضافة تحت إشراف أبي حذيفة، والد أبي حفص. ويروي العلام، في حديث خاص مع المؤلف، أنه كان ضمن أول فوج توجه إلى أفغانستان عبر باكستان في بداية التسعينات من القرن الماضي، كان يتكون من خمسة أشخاص، إثنان منهم انتقلا إلى الشيشان حيث قتلا هناك، بعد خروج الروس من أفغانستان وبدء الاقتتال بين الفصائل الأفغانية، بينما توجه شخص ثالث إلى بريطانيا حيث حصل على اللجوء السياسي بها. فغانستان اعتقل العلام مرتين في المغرب، كانت الثانية عقب تفجيرات الدار البيضاء، وغادر السجن في صيف 2008.
المملكتين ولعبة تبادل المصالح (10). فأنشأ الدكتور عبد الكريم الخطيب، مؤسس حزب العدالة والتنمية، “الجمعية المغربية لمساندة الجهاد الأفغاني” التي ضمت في صفوفها إسلاميين وعلماء، عملت على إقناع الشباب بالهجرة إلى أفغانستان، كما كان عبد رب الرسول سياف، زعيم حركة الاتحاد الإسلامي الأفغاني آنذاك، يتردد على المغرب والبلدان العربية والإسلامية بكل حرية كبطل حامل لواء قضية، مثلما كان يصنع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات(11).
10- يعتبر وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق عبد الكبير العلوي المدغري، الذي أشرف على إدارة الشأن الديني في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، أحد أهم مهندسي المجال الديني في المغرب طيلة عقدين. وفي كتابه”الحكومة الملتحية” يدافع عن حصيلة تجربته على رأس أهم وزارة بالمغرب، ويرى أن السلفية الجهادية مولود غير شرعي للوهابية، يقول:”إن الوهابية مثلها مثل تلك الدجاجة التي كانت تظن أنها تحضن بيضها فقط، وإذا بالفراخ تخرج مختلطة لأن جهة ما عرفت كيف تضع بيضا غريبا مع البيض المحضون، وهكذا برزت السلفية الجهادية من تحت ريش دجاجة الوهابية”. أما الجهة التي يشير إليها فهي الأجهزة الأمنية ووزارة الداخلية في عهد الوزير الراحل ادريس البصري، يقول المدغري في الكتاب:”ونظن ظنا أن سياسة ما كانت متبعة من طرف الأجهزة الأمنية التي كان يشرف عليها وزير الدولة في الداخلية، وكانت ربما تسمح بغض الطرف عن نشاط تلك الجماعات وتدريباتها العسكرية وتنقلاتها في الخارج لأسباب تعرفها الدولة”. ويؤكد المدغري بأنه جرى تهميش وزارته في مجال الإشراف الديني على الجالية المغربية في الخارج، كنوع من التبرير لانتشار التطرف في صفوفها، بحيث تم إسناد تلك المهمة إلى الوزارة المكلفة بالجالية المغربية في الخارج التي “أسندت إلى رجل ترطبه روابط عائلية بوزيرالدولة”، أي البصري.
المدغري: الحكومة الملتحية: دراسة نقدية مستقبلية. دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى 2006، ص ص: 36، 64 و65.
وقد شارك المدغري في سبع حكومات متعاقبة، من حكومة 11 أبريل 1985 إلى حكومة التناوب الأولى في مارس 1998، وحافظ على موقعه في حكومة عبد الرحمان اليوسفي الثانية في عهد الملك محمد السادس إلى نوفمبر 2002، قبل أن يتم إعفاؤه وتعيينه على رأس بيت مال القدس. لعب المدغري أدوارا كبرى في السياسة الدينية للمغرب وقاد استراتيجية دمج جزء من الإسلاميين المغاربة في العمل السياسي ونبذ العنف، وأشرف على تنظيم الجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية عام 1990 التي كرست المصالحة بين الدولة وفصيل من الإسلاميين، دعي لها أقطاب العمل الإسلامي في العالم العربي والإسلامي.
11ـ زار الدكتور الخطيب مدينة بيشاور والتقى عددا من المجاهدين هناك بينهم عبد الله عزام، وقام بالتنسيق مع شركات فرنسية من أجل شراء أسلحة متطورة للمجاهدين الأفغان. أنظر:
ـ الدكتور عبد الكريم الخطيب، سيرة حياة. إعداد: حميد خباش ونجيب كمالي. منشورات منتدى الحوار. الطبعة الرابعة 2006، مطبعة كارتوكرافيك. ص 135.
خلال الفترة التي هاجر فيها روبير ريشار إلى بيشاور، كان زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن كثير التردد على المدينة، حيث كان يتكفل بتمويل جزء من الخدمات المقدمة للأفغان العرب، وأنشأ بها “مكتب خدمات المجاهدين” رفقة عبد الله عزام، مؤسس الجهاد الأفغاني الذي قتل عام 1989.
تزامن وصول روبير ريشار إلى بيشاور عام 1994 مع أول ظهور لحركة طالبان، أو طلاب الشريعة، وهي حركة سنية متشددة تتبنى المذهب الحنفي، وتعتبر الحكم الشرعي في مذهبها حكما واحدا لا يحتمل الأخذ والرد حوله، ومن ثم يصبح تنفيذ الأحكام الشرعية لديها أمرا مفروضا وواجبا دينيا لا بد من تنفيذه حتى وإن كانت هناك مذاهب أو آراء أخرى تخالفها. وقد بسطت سيطرتها كاملة على التراب الأفغاني وأزاحت جميع الفرقاء السياسيين خلال عامين فقط من ظهورها، واستمرت في فرض نظام سياسي قاهر إلى أن طردتها الولايات المتحدة بعد دخولها أفغانستان عام 2001.
في معسكر خلدن
بعد الإقامة في بيشاور دخل روبير ريشار إلى أفغانستان والتحق بجماعة المقاتلين العرب في معسكر”خلدن” الذي كان يشرف عليه جماعة من المنظرين للفكر الجهادي،
ويتلقى فيه الأفغان العرب تداريب عسكرية لمدد من الزمن تتراوح ما بين أسبوع أو أسبوعين إلى ستة أشهر، بحسب استعداد الشخص وقابليته. كان معسكر”خلدن” واحدا من المعسكرات التي أقامها المجاهدون العرب في أفغانستان ليكون معملا لصناعة المقاتلين ودفعهم إلى ساحة القتال ضد الروس، وقد أنشأه عبد الله عزام في مدينة بكتيا الأفغانية عام 1989 وكان معسكرا مفتوحا للجميع ولم يكن خاصا بجماعة معينة، وذلك قبل أن يدب الخلاف بين الفرقاء، ويقدر عدد الذين تدربوا فيه من العرب بالآلاف. وإلى جانب هذا المعسكر كانت هناك معسكرات أخرى مثل “صدى” و”جاوة” و”الفاروق” و”جهاد” و”أبو حارث”. وعلاوة على التداريب العسكرية، كان الأفغان العرب يتلقون دروسا في الفقه والشريعة، إنما بالمعنى الضيق للكلمة، إذ كانت تلك”الدروس” عبارة عن مبادئ في التكفير والتبديع وتعكس الموقف السياسي للجهاديين من خلال التسويغ الفقهي لموقف رفض الأنظمة القائمة وتكفير الحكام. وعلى هذا الأساس، شكلت تلك المعسكرات المحاضن الرئيسية التي تشرب فيها الأفغان العرب القادمون من جميع الأصقاع القناعات السياسية ضد الأنظمة الحاكمة في بلدانهم، وكانت بمثابة مدارس لتخريج الجهاديين العرب الذين سيتفرقون بعد ذلك في البلدان العربية(12). وقد كان بعض تلك المعسكرات خاصا بالمقاتلين القادمين من بلد عربي معين، مثل الليبيين والمصريي والسوريين والجزائريين، أنشأوا فيما بعد جماعاتهم لقتال النظام الحاكم داخل بلدهم. وكان ذلك مفهوما لدى تلك الأنظمة
12- كميل الطويل: القاعدة وأخواتها: قصة الجهاديين العرب. دارالساقي، لندن، الطبعة الأولى 2008، ص: 44.
التي شجعت رحيل مواطنيها إلى أفغانستان، بناء على أن الأولوية هي للقضاء على العدو الروسي، بتشجيع من الولايات المتحدة الأمريكية التي لم يكن لها خيار آخر في ساحة المواجهة مع الروس سوى الحرب بالوكالة، لذا جاءت الحملات اللاحقة ضد هؤلاء الأفغان العرب العائدين إلى بلدانهم الأصلية، بعد خروج الجيش الروسي من أفغانستان مدفوعة بعامل الخوف من تحول هؤلاء المجندين العاطلين للقتال ضد الأنظمة في الداخل.
في معسكر”خلدن” تلقى روبير تكوينا عسكريا وتداريب لمدة أربعة أشهر على كيفية استعمال الأسلحة النارية وتفكيكها وتركيبها، خاصة الكلاشينكوف والأر بي جي والمورتييه ومسدسات مكاروف، وتخلل تلك الفترة تداريب إضافية في الرماية بالأسلحة المذكورة، كما تدرب لمدة شهرين ونصف على صناعة واستعمال المتفجرات، تحت إشراف شخص يدعى”أبو بكر الفلسطيني”، ومن بين تلك المتفجرات ـ حسبما يذكر روبير في اعترافاته أمام الضابطة القضائية ـ البالستيك والديناميت والقنابل اليدوية، إضافة إلى دروس أخرى نظرية وتطبيقية في كيفية استعمال تلك المتفجرات، وحضر تجارب للتفجيرات في منازل مهجورة، كما شارك في تجارب وضع الألغام المضادة للأشخاص وكيفية استخدامها.
فيما يتعلق بدخول أفغانستان، نفى روبير ريشار خلال محاكمته أن يكون قد زارها بالفعل، وفي الحوار الذي أجريناه معه أكد نفس الأمر، وقال ردا على سؤال بهذا الخصوص: ” أنا لم يسبق لي أن زرت أفغانستان، بل ذهبت إلى باكستان حيث زرت إحدى الجمعيات، وأنا أتحدى أي شخص لديه دليل واحد على أنني كنت في أفغانستان فليتفضل، هذا أمر مهم، ولما دخلت المغرب لأول مرة لكي أتزوج كان جواز سفري يحمل تأشيرة باكستان، وكان من السهل علي أن أمزق جواز سفري إذا كنت أخفي شيئا وأطلب من السلطات الفرنسية الحصول على جواز آخر، فليس هناك دليل على أنني زرت أفغانستان”.
كانت باكستان تشكل الجسر الذي يعبر منه الجهاديون العرب نحو أفغانستان، بحيث كانت إسلام أباد والمناطق الحدودية مع أفغانستان هي المجمع الذي يلتقي فيه المقاتلون العرب ويجري فيه تجنيدهم، وإثر ذلك يتم إدخالهم إلى التراب الأفغاني بعد حجز جوازات سفرهم وجميع أوراقهم الثبوتية تفاديا للتعرف على هوياتهم من ناحية، ولاحتمال هروبهم أو تراجعهم من ناحية ثانية، وضمان عودتهم في حالة انتهاء القتال من ناحية ثالثة. وفي حالات أخرى كانت تلك العملية تتم بجوازات سفر مزوة، يمكن التخلص منها فيما بعد. ويعتبر هذا الإجراء واحدا من الإجراءات الصارمة التي تقوم بها جميع الحركات القتالية بصرف النظر عن هوياتها، وهو ما يحرص على القيام به مثلا تنظيم القاعدة في العراق أثناء تجنيد المتطوعين العرب للقتال ضد الأمريكيين.
خلال تواجده بمعسكر”خلدن” أصيب روبير بداء الملاريا الذي ينتج عن الهواء الفاسد الناتج عن المستنقعات، فتم نقله إلى باكستان حيث خضع للعلاج على يد طبيب مصري لمدة شهر كامل، وبعد تماثله للشفاء عاد إلى اسطانبول بتركيا مرورا بإسلام آباد، بعدما حصل على مساعدة مالية من “مضافة الشهداء” في بيشاور. وعندما وصل تركيا، وكان ذلك عام 1995، أقام لدى نفس الشخص الذي أقام معه قبل رحلته إلى باكستان.
إرسال التعليق