سيد قطب وعبدالوهاب المسيري: عندما التقت الرؤية في نقد أمريكا

آخر الأخبار

سيد قطب وعبدالوهاب المسيري: عندما التقت الرؤية في نقد أمريكا

رصد المغرب/نعيم بوسلهام 

 

ليس من قبيل المصادفة أن يشعر القارئ العربي بدهشة عميقة وهو يطالع ما كتبه كلّ من سيد قطب وعبدالوهاب المسيري عن المجتمع الأمريكي. ورغم الفاصل الزمني الذي يتجاوز العقود بين الرجلين، واختلاف الخلفية الفكرية والأدوات المعرفية التي استخدمها كلٌّ منهما، إلا أنّ القاسم المشترك في رؤيتهما النقدية لأمريكا يكشف عن وحدة منهجية تتجاوز الظرفية التاريخية، وتتعلق بعمق أزمة الحضارة الغربية في صورتها الأمريكية تحديدًا.

لقد شكّل كتاب سيد قطب الشهير “أمريكا التي رأيت”، رغم بساطته الظاهرية، أحد أوائل النصوص العربية التي قدّمت تشخيصًا مبكّرًا لاختلالات المجتمع الأمريكي. فسيد قطب لم ينظر إلى أمريكا بوصفها مجرّد قوّة صاعدة أو مركزًا اقتصاديًا متقدّمًا، بل عاين من خلال تجربته الشخصية هناك، مظاهر الخواء الروحي، والانفصال العميق بين التقدّم المادي والقيم الإنسانية. لقد رأى بأمّ عينه كيف يمكن للمجتمع، رغم قوّته الظاهرية، أن يعيش هشاشة أخلاقية وروحية تجعله مجرّد بنية فارغة من المعنى.

ومع مرور الزمن، وتجذّر الهيمنة الأمريكية، جاء عبدالوهاب المسيري ليقدّم قراءة أكثر تركيبًا وعمقًا للمجتمع الأمريكي، مستفيدًا من خلفيته الموسوعية وتجربته الأكاديمية الطويلة في الولايات المتحدة. وإذا كان سيد قطب قد اكتفى برصد المظاهر المباشرة، فإن المسيري ذهب أبعد، حيث فكّك البنية الفكرية والنموذج المعرفي الذي يقوم عليه المشروع الأمريكي، كاشفًا عن مركزية الإنسان المادي، وتهميش الدين، وتحويل كل شيء إلى سلعة، بما في ذلك الإنسان ذاته.

المثير في الأمر أن كليهما، رغم اختلاف الخلفية والمنهج، توصّلا إلى ذات النتيجة الجوهرية: أن أزمة أمريكا ليست أزمة مؤقّتة أو سطحية، بل هي أزمة حضارية بنيوية، ترتبط باستبعاد البُعد الديني والأخلاقي من المنظومة الفكرية والمجتمعية، وهو ما عبّر عنه المفكر النمساوي المسلم محمد أسد في توصيف دقيق للحضارة الغربية بقوله:
“إن الحضارة الغربية لا تُجاهر بالعداء لله، لكنها ببساطة لا ترى له مكانًا في منظومتها الفكرية، ولا تشعر بالحاجة إليه”، وهو توصيف ينطبق بشكل صارخ على الحالة الأمريكية المعاصرة.

إنّ قراءة المجتمع الأمريكي من موقع نقدي ليست ترفًا فكريًا، ولا هي مجرد موقف أيديولوجي، بل هي ضرورة معرفية لفهم طبيعة القوة المهيمنة في العالم اليوم، والتمييز بين الإنجاز التقني الذي لا يمكن إنكاره، وبين الأزمة القيمية العميقة التي تنخر هذا النموذج من الداخل.

وبينما قد يغرق البعض في الانبهار الأعمى بالنموذج الأمريكي، أو يسقط آخرون في خطاب عدائي فارغ، تُشكّل كتابات سيد قطب وعبدالوهاب المسيري دعوة عقلانية لممارسة نقد حضاري متزن، ينطلق من تجربة معرفية معمّقة، ووعي فلسفي يُدرك أن الهيمنة الأمريكية ليست قدرًا محتومًا، وأنّ التفكيك المعرفي العميق هو السبيل الأول لفهم هذا النموذج والتفاعل معه بوعي نقدي يحمي الذات من التبعية والاستلاب.

إنّ عبقرية قطب والمسيري لا تكمن فقط في نقدهما للمجتمع الأمريكي، بل في أنّ هذا النقد لم يكن انعزالًا عن العالم، بل كان مدخلاً لتحصين الذات الحضارية، وبناء مشروع ثقافي مستقل، يستلهم إيجابيات العصر، دون أن يفرّط في القيم، ودون أن يقع في فخ الاندماج غير المشروط في النموذج الغربي.

إرسال التعليق