شحرور ومعضلة المنهج

آخر الأخبار

شحرور ومعضلة المنهج

رصد المغرب/الدكتور ادريس الكنبوري  

يتجلى هذا الفقر اللغوي عند الدكتور شحرور في عدم تحديد الضوابط اللغوية التي يعتمدها في دراسته للقرآن، وفي عملية التمييز بينه وبين الكتاب وباقي الكلمات أو المفاهيم الأخرى مثل الذكر وأم الكتاب وغير ذلك.

يتبين ذلك من عدم فهمه لنشأة النحو العربي في علاقته بالقرآن، بل أكثر من ذلك في سوقه لبعض البديهيات في البحث العلمي في اللغة بوصفها كشفا خاصا له. فقد نشر كتيبا صغيرا تحت عنوان”دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم: المنهج والمصطلحات”، سعى فيه إلى تبيان “المنهج” الذي اعتمده في مختلف مؤلفاته التي تدور حول قضية واحدة، هي “القراءة المعاصرة للقرآن”. وفي هذا الكتيب يقول:”نحن ننطلق في قراءتنا المعاصرة من أن إرساء أسس التدوين والتقعيد جاء لاحقا للسان العربي ولاحقا للتنزيل الحكيم، لا سابقا له”[1].

إذن، هذا هو “منطلق” القراءة المعاصرة للدكتور شحرور، وهذا هو صلب منهجه، فلنفحص هذا المنهج علميا، لأن الدكتور شحرور ينادي بالنزعة العلمية.

إن القول بأن “إرساء أسس التدوين والتقعيد جاء لاحقا للسان العربي ولاحقا للتنزيل الحكيم، لا سابقا له” من المعطيات البديهية التي يلزم كل أحد معرفتها قبل ولوج أي باب من أبواب العلوم الإسلامية، بل هي بديهية من البديهيات المعروفة في جميع الحضارات البشرية وفي جميع الثقافات؛ بل إنها بديهية من بديهيات العلوم المعاصرة، إذ المنهج والقاعدة يأتيان لاحقين للعلم المبحوث فيه، لأن القاعدة تبحث في الاطراد، والاطراد لا يحصل إلا بالاستقراء، ولا يكون هناك استقراء إذا لم تكن هناك مادة كافية يمكن استقراؤها لاستخراج ما يطرد فيها من ظواهر ومتغيرات وثوابت يتم نظمها كلها في قواعد تصبح بمثابة أصول للعلم، أيِّ علم. ومن الناحية التاريخية، فإن اللسان سبق القلم، أي أن الشفاهية كانت قبل الكتابة، والإنتاج قبل التدوين.

وفي ما يرتبط بالثقافة العربية الإسلامية فإن العلوم كانت شتاتا قبل أن يجمعها المدونون، حصل هذا في علوم الحديث والشعر واللغة وغيرها من فروع المعارف الأخرى، فقد انتشر الحديث وبعده وضعت علوم الحديث والجرح والتعديل وعلوم الإسناد وغيرها، وانتشر الشعر وبعده وضع علم العروض وأسماء البحور والضرورة الشعرية وغير ذلك، وكانت اللغة منتشرة في القبائل العربية ويتم التخاطب والخطابة والغناء بها، وبعد ذلك جاء جمع اللغة ووضْع قواعدها.

من المعروف أن الإنسان العربي كان يتحدث اللغة العربية سجية وبالسليقة، وكانت القواعد مكنونة في اللسان العربي بحكم الفطرة أو الكفاءة اللغوية كما يقول تشومسكي، الذي يرى أن “الكفاءة اللغوية” (compétence linguistique) هي تلك القدرة الموجودة لدى جميع الناطقين بنفس اللغة على فهم وتأويل الجمل والتراكيب داخل نفس اللغة، لكن هذا لا يعني أن الجميع واع بالقواعد التي يستخدمها لإنتاج المعاني والجمل، ومع ذلك فإن الجميع يستعمل تلك القواعد على نحو مشترك وبطريقة سلسلة. وهذا ما يفسر لنا اليوم كيف أن الإنسان العربي كان يتلقى الشعر الجاهلي الفصيح والصعب على الناطقين بالعرب اليوم، بل كيف كان الشاعر الجاهلي ينتج تلك القصائد دون أن تكون هناك قواعد يمكن الرجوع إليها.

وطوال الفترة من العصر الجاهلي إلى عصر التدوين مرورا بنزول القرآن الكريم، حصل تراكم واسع في المادة التي يمكن إخضاعها للاستقراء العلمي من أجل استخراج القواعد (شعر، خطابة، سجع الكهان، قرآن، حديث)، بحيث أصبحت تلك المادة متاحة أمام علماء اللغة. لكن العرب لم يفكروا حتى ذلك الوقت في استنباط القواعد النحوية من تلك المادة حتى ظهر ما يسمى باللحن، وهو الخطأ في نطق الكلمات وتحريفها، في قراءة القرآن، فاحتاج العرب إلى من يضع لهم قواعد منضبطة يخضع لها الجميع ويتم الرجوع إليها في معرفة الصواب من الخطأ في النطق والكتابة. ويُروى أن أبا الأسود الدؤلي، الذي يقال إنه أول من وضع قواعد النحو، دخل يوما على علي بن أبي طالب في العراق فوجده واجما يفكر، فسأله فيم يفكر؟ فقال علي: سمعت ببلدكم لحنا فأردت أن أصنع كتابا في أصول العربية، فغاب أبو الأسود، وعاد إليه بعد أيام ومعه صحيفة، أي حزمة أوراق مكتوبة، بها بعض قواعد العربية.

وسواء أصحّت الرواية أم لم تصح، فإن الثابت أن تقعيد القواعد في العربية قد تأخر إلى عصر رابع الخلفاء الراشدين الأولين، أو بعده بفترة وجيزة. ومن المؤسف أن يصدر عن قلم الدكتور شحرور كلام يفتقد إلى أدنى شروط الإنتاج العلمي، ذلك أن رفع لواء المنهج اللغوي في دراسة القرآن كان يجب أن يسبقه الإلمام الجيد بنشأة اللغة العربية، إذ من غير المقبول أن يقول باحث مثل شحرور إن التعقيد للغة العربية جاء”لاحقا للتنزيل الحكيم”، في الوقت الذي يعرف الجميع أن التأسيس لقواعد اللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة خرجت من القرآن الكريم، وأن العرب لم يفكروا في وضع تلك القواعد وتلك العلوم إلا بهدف خدمة النص القرآني، الذي كان نصا مركزيا تدور عليه جميع العلوم، وكما يقول فخر الدين الرازي، فإن قواعد اللغة العربية قد بنيت على “استنباط العقل من النقل”، أي الاستنباط العقلي من النقل، والنقل الذي كان يمثل في عيون العرب أرقى نقل يمكن الرجوع إليه هو القرآن.

لذلك عندما يقول الدكتور شحرور إن “المنطلق” الذي ينطلق منه في قراءته المعاصرة للقرآن هو أن “إرساء أسس التدوين والتقعيد جاء لاحقا للسان العربي ولاحقا للتنزيل الحكيم، لا سابقا له”، يكون قد حدد لنفسه منطلقا معروفا سلفا لا يحتاج أن يكون منهجا علميا جديدا، لأن العرب عرفوه قبل قرون عدة، وليس فيه أي جديد. ويكفي القول بأن قواعد اللغة العربية لو كانت هي السابقة على القرآن لكان علماء العربية العرب قد راجعوا القرآن في ضوء تلك القواعد، وبحثوا عن مكامن “الخرق” فيه، ولكن الذي فعلوه هو العكس، أي عرض قواعد العربية على القرآن، ولهذا نجد في جميع كتب النحو واللغة الاستشهاد بالآيات القرآنية لتعزيز القاعدة النحوية، وهذا يعني أن العرب كانوا يعرضون لغتهم على القرآن، لا القرآن على لغتهم.

مهما كان الأمر فإن “المنطلق” الذي اختاره الدكتور شحرور كان يتعين أن يرشده في مسعاه إلى إنجاز “قراءة معاصرة” للقرآن الكريم، بدل أن يكون عائقا لسيره، وهو ما حصل بالفعل. ذلك أن القول بأن “أسس التدوين والتقعيد جاء لاحقا للسان العربي ولاحقا للتنزيل الحكيم، لا سابقا له” (الصحيح: سابقا عليه)، يضعنا أمام منهج واضح من الناحية العلمية، وهو بحث الدور الذي لعبه القرآن، بوصفه نصا تأسيسيا في الثقافة العربية ـ الإسلامية، في تطوير اللغة العربية من حيث المحتوى والنحت، أو المضمون والرسم، وكيف انتقلت اللغة العربية من المستوى الوضعي، أو الاتفاقي، إلى المستوى الشرعي، لذلك نحن نقول إنه سواء حدد الدكتور شحرور ذلك المنهج أم لم يحدده، فالمهم بالنسبة لنا هو أنه لم يلتزم به.

الشاهد في ذلك أنه يخرج عن جميع القوانين أو النواميس الجارية في اللسان العربي، ويخرق القواعد اللغوية والنحوية بطريقة توحي للقارئ في العديد من المناسبات بأنه أمام باحث يريد إخراج اللغة العربية عن قواعدها المتعارف عليها لكي يمنحها حمولة صوفية، تتجاوز الحقيقة والمجاز معا إلى “الخرق”، أي التلاعب اللغوي الذي لا يمكن للمتلقي أن يفقه فيه شيئا لأن “المنطقة المشتركة” بين الكاتب والقارئ معدومة، ولأن “المعنى في بطن الكاتب”، قياسا على المقولة العربية الشهيرة التي تضع الشاعر محل الكاتب. وإذا شئنا الدقة وعدم المبالغة، قلنا إن الدكتور شحرور يتعامل مع اللغة القرآنية بطريقة غارقة في المزاجية.

 

 

 

 

 

 ـ محمد شحرور: دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم: المنهج والمصطلحات.بيروت، دار الساقي. الطبعة الأولى، [1]

  1. ص 28.

 

إرسال التعليق