طه عبد الرحمن وسيد قطب… قراءتان إسلاميتان متقاطعتان في نقد أمريكا

آخر الأخبار

طه عبد الرحمن وسيد قطب… قراءتان إسلاميتان متقاطعتان في نقد أمريكا

رصد المغرب/نعيم بوسلهام 

على الرغم من الفارق الزمني واختلاف السياقات الفكرية واللغوية بين المفكر المغربي طه عبد الرحمن والمفكر المصري سيد قطب، فإن كليهما التقى – من موقعه الخاص – عند نقطة مركزية واحدة: نقد أمريكا باعتبارها التجلي الأقصى لأزمة الحضارة الغربية. غير أن هذا الالتقاء لم يحجب التباين الكبير في المنهج التحليلي والأدوات المعرفية والبدائل المقترحة، وهو ما يجعل من مقارنة رؤيتيهما مجالًا خصبًا لإعادة قراءة النقد الإسلامي للغرب في لحظة عالمية تتسع فيها الفجوة بين المادة والروح.
سيد قطب: صدمة الحضارة من قلب التجربة الأمريكية
في أواخر الأربعينيات، وطأت قدما سيد قطب أرض الولايات المتحدة في مهمة دراسية قصيرة. كانت الرحلة كاشفة وصادمة في آن واحد. فقد عاد منها وهو يحمل رؤية نقدية حادة دونها في كتابه الشهير “أمريكا التي رأيت”.
رأى قطب في المجتمع الأمريكي نموذجًا ماديًا يفيض بالمظاهر التكنولوجية لكنه يفتقر إلى الجوهر الإنساني. في وصفه للفنون والثقافة، كتب:
“الأمريكي بدائي في ذوقه الفني، والموسيقى التي يحبها – الجاز – إنما أُنشئت لإشباع ميولهم البدائية.”
أما عن العلاقات الاجتماعية، فقد كانت ملاحظاته أشد صراحة:
“الفتاة الأمريكية على دراية كاملة بقدرة جسدها الإغرائية… وهي تُظهر ذلك ولا تخفيه.”
بالنسبة لقطب، كان هذا الانفلات القيمي انعكاسًا لفراغ روحي عميق. فقد لخص الأمر بقوله إن المجتمع الأمريكي “فقد الإيمان بالدين، والإيمان بالفن، والإيمان بالقيم الروحية جميعها”. لذلك جاءت إجابته على الأزمة واضحة: العودة إلى الإسلام كمنظومة قيمية تعيد التوازن المفقود بين المادة والروح.
طه عبد الرحمن: الفيلسوف الذي فكك البنية الأمريكية
على الضفة الأخرى، لم يبنِ طه عبد الرحمن نقده على تجربة معاشة، بل على قراءة فلسفية تأصيلية. بالنسبة له، أمريكا ليست مجرد مجتمع منفلت أخلاقيًا، بل هي قمة مشروع غربي فصل العقل عن الإيمان، وجعل المنفعة غاية عليا.
في كتاباته الفلسفية، يعتبر طه أن الأزمة الأمريكية هي أزمة الإنسان الحديث برمته، لأنها تنبع من أسس معرفية ألغت البعد الأخلاقي، وحولت العقل إلى أداة تقنية صماء. ويكتب في هذا السياق:
“لا أخلاق في العلم النظري الحديث، لأنه فُصل عن الروح التي تعقلن الوجود.”
طه عبد الرحمن لا يقف عند التشخيص، بل يقترح بديلًا يقوم على تحيين القيم الإسلامية وتجديدها بأدوات معاصرة، بما يجعلها قادرة على تقديم مشروع حضاري يوازن بين التقنية والروح، بين التقدم والأخلاق.
بين حرارة قطب وتجريد طه
التقاطع بين الرؤيتين واضح: كلاهما يرى في أمريكا ذروة أزمة الحضارة الغربية، وكلاهما يرفض الانبهار بالنموذج الأمريكي. غير أن الاختلاف في المنهج لا يقل وضوحًا:
سيد قطب قدّم نقدًا وجدانيًا انفعاليًا مستندًا إلى تجربة مباشرة.
طه عبد الرحمن قدّم تفكيكًا فلسفيًا معمقًا للبنية الفكرية التي أنتجت النموذج الأمريكي
وهنا تبرز أهمية الجمع بين القراءتين: الأولى تمنحنا الحس النقدي المباشر، والثانية تتيح لنا البصيرة التأصيلية العميقة.
حين يلتقي الإسلام مع نقد الحداثة الغربي
اللافت أن النقدين يتقاطعان مع أطروحات غربية كبرى حول الحداثة. فـماكس فيبر تحدث عن “قفص الحديد” الذي تحبس فيه الحداثة الإنسان في منظومة تقنية بلا معنى، بينما هايدغر رأى أن التقنية الحديثة حولت الإنسان إلى “مورد” فاقد لأصالته
طه عبد الرحمن يستثمر هذا النقد الغربي لكنه يتجاوزه، رابطًا بين أزمة التقنية الحديثة وفقدان البعد الأخلاقي، مقترحًا نموذجًا حضاريًا ينطلق من روح الإسلام. أما سيد قطب، فبرغم بعده عن التنظير الفلسفي، فقد التقط حدسيًا نفس الأزمة، وهو ما يجعل شهادته المباشرة ذات قيمة مضاعفة.
نحو بوصلة نقدية مزدوجة
إن قراءة أمريكا من خلال عيني سيد قطب وطه عبد الرحمن تمنح الفكر الإسلامي المعاصر بوصلة نقدية فريدة: حسًّا نقديًا مباشرًا ينبع من حرارة التجربة، وبصيرة فلسفية تستند إلى عمق التحليل. وبين هاتين المقاربتين، يتشكل أفق جديد لتجاوز الانبهار بالنموذج الأمريكي، وبناء مشروع حضاري أصيل قادر على مخاطبة العالم بندية وشهود حضاري.

إرسال التعليق