عائد من المشرحة (الحلقة الثانية)”في ممر الموت، شهادتي من حي الإعدام بالقنيطرة”

آخر الأخبار

عائد من المشرحة (الحلقة الثانية)”في ممر الموت، شهادتي من حي الإعدام بالقنيطرة”

رصد المغرب / أحمد الحو

في اليوم الموالي بتاريخ 01 غشت 1984 تم نقلي بمعية 5 من المحكومين بالإعدام، و21 محكوما بالمؤبد إلى السجن المركزي بالقُنيطرة، التي تبعد بحوالي 120 كلم عن الدار البيضاء، في الطّريق كانت الاستعدادات بادية ليوم عيد الأضحى، كانت الحافلة السجنية تسير بسرعة، وأنا انظر الى البحر من بعيد، والسماء والطبيعة والناس،أنظر إليهم نظرة موًدِّع، فأنا وكبش العيد وجهان لعملة واحدة، هو سيُبذح بسكّين حادّة وأناستُفرغ في جسدي رصاصات قاتلة.،كانت العديد من الهواجس والأفكار تجول في خاطري، وكنت أقول في نفسي: ترى أي مصير أسود هذا الذي ينتظرني؟؟ وكلما سارت الحافلة ببطء أو توقفت، كنت أنظر إلى النّاس وهم منشغلون بأمورهم ويقضون مآربهم، لا أحد كان يلتفت إلينا، أو سأل عن مأساتنا، أو حتى عن سبب اعتقالنا. وفي غفلة من حراسنا الذين يفرق بين كراسينا وكراسيهم شباك حديدي، قلت لصديق بالقرب مني لما لا نُثير انتباههم؟فكتبنا في أوراق كانت مع أحدنا، مُلخّصاةعن محاكمتنا والأحكام القاسية التي صدرت في حقنا، وبدأنا نرميها من بين ثُقب شُبّاك النوافذ، الأمر الذي جعل الناس تلتفت إلينا، وكان منهم من رفع شارة النصر لنا، ومنهم من فر مهرولا، وقد ارتبك الموكب المرافق لنا، وبدأت سيّارات )الجيب( الرباعية الدّفع، تتحرك وراء الأوراق لمنع وصولها إلى المارّة، وبعد توقُّف لدقائق، تحرّكت الحافلة من جديد، وعند وصولنا إلى مشارف القنيطرة توجهت الحافلة نحو السجن العسكري بالقنيطرة وتوقفت أمامه، وكان الانطباع السائد عندنا حينئذ هوأنه م سيُودعوننا به، عقابا لنا على ما قمنابه، لكن يبدو أنه بعد أخذ ورد وتشاور مع أصحاب الشأن،فصرفوا النظر عن ذلك وقرّروا إكمال الطريق نحو السجن المركزي.، ولجت الحافلة باب السجن الكبير،ونزل رجال الدرك المرافقون وبأيديهم بعض الأوراق، من المؤكد أنها كانت من تلك التي رميناها من نافذة الحافلة،وسلّموها لمسؤولي إدارة السجن، وبمجرد فتح باب الحافلة ساقونا بقوة تحت وابل من الشّتم والسّب النّابي،فقسمونا إلى مجموعتين، مجموعة المحكومين بالمؤبد ومجموعة المحكومين بالإعدام، وبعد تفتيش دقيق عبر إدخالنا إلى مكان مكشوف وتعريتنا والعبث في مواضع عفتنا، ألبسونا لباسا سجنيا، لنقول وداعا لكل لباس مدني، وحلّقوا رؤوسنا بشكل همجي ترك رضوضا وخرائط وجروحا لا تندمل، مقيدي اليدين،ساقنا – نحن المحكومين بالإعدام- حراس شداد غلاظ نحو ممر طويل تتوسطه عدة أبواب، كلما عبرت بابا كنت أشعر أنني أبتعد عن الحياة وأقترب من الموت، لنصل إلى الباب الأخير الموصل لحي باء وهو حي الموت، حيث وجدنا جمعا غفير من الحراس والسجناء المساعدين لدرجة أن سجينا من بينهم وهمس في أدني: تُراك ماذا جنيت؟ تبسّمت وقلت له: في نظرك ماذا أكون قد فعلتُ؟ أجابني قائلا: حسب ما أرى ربما قد تكون قتلت عشرة أشخاص على أقل تقدير، وبنبرة قويّة قلت له:إليك عني ياهذا فأنا لا أجرأ أن أقتل ذبابا حتى. تقدم إلي رئيس الحرس بالحي، وبعد أن أخذ بتلابيبي قال لي: أنت محكوم بالإعدام وأنه بإمكانه أن ينفذه في أي لحظة شاء، ثم أدخلني غرفة )كَاشُّو( وهي غرفة تعذيب، فيها كل أنواع أدوات التعذيب من سياط وأسلاك وسلاسل، وقال لي:أنت على أية حال محكوم بالإعدام، وهذه بعض أدواتنا لتنفيذه في أي لحظة شئنا.

 

الدخول إلى الهلاليةالقاتلة:

أعطاني رئيس الحي ورقة مكتوب فيها رقم 20962 وأخبرني أنه رقمي السجني، ورفقة اثنين من زملائي وضعت في زنزانة مساحتها 4 أمتار مربعة، ووضعوا الثلاثة الآخرين في زنزانة مماثلة،بداخل الزنزانة حفرة سموها مرحاضا ليس بها أي ساتر، مما يجعلها مرتعا للروائح الكريهة ومرتعا لخروج جرذان كبيرة يجب التعايش معها، ضوء الزنازن لايطفأ ليلا أونهارا، فأضواءها الكاشفة يجب أن لا تنطفئ،الأغطية مهترئة من خلال الأرقام التي تحملها كتب عليها 1936، والتي تؤرخ لعهد الاستعمار الفرنسي الذي هو من بني الحي، وبنى السجن وصممه على شكل نعش فوقه صليب، وكأني بهم يؤرخون لمقبرة موت للأحياء والأموات على حد سواء،بدءا من الذين أعدموا من مقاومين للاستعمار، ووصولا إلى الذين أعدموا بعد الاستقلال، وجلهم من المعارضين للدولة،كمجموعة انتفاضة مولاي بوعزة، مجموعة دهْكون وانقلابيي 1971و1972 وآخرون.

الحي مصمم على شكل هلالي، وبارد برود المشرحة وصامت صمت المقبرة، صمته رهيب يجعلك في خوف دائم، فكل حركة كافية لتذهب عن جفونك نسمات النوم، ويزداد الخوف والقلب خفقانا كلما عمّت بالمجيء ظلمة الليل، خاصة أن الذين سيعدمون سيتم رميهم برصاصات في القلب قبل الفجر، ودون سابق إنذار في غابة قريبة من السجن تسمى غابة المعمورة، فأي صوت أو حركة لخطى الأحذية وفتح لزنزانة هو ناقوس خطر، وبالرغم أنه عادة ما يشكل أن فتح الزنازن هو شعاع أمل يبشر بقرب الفرج بالنسبة للسجين عموما، ولكنه بالنسبة للمحكوم بالإعدام هو نذير شؤم، مما يجعل الفرائص ترتعد والقلوب تصل إلى الحناجر.

 

الوضعية داخل حي الإعدام والزيارة وأشياء أخرى:

التغذية داخل الحي رديئة، وهي في الغالب خضر أو قطاني ممزوجة بالحشرات، أو بالأحرى فالعكس هو الصحيح، ولأننا ممنوعون من الحصول على التغذية من عائلتنا عكس باقي السجناء الغير المحكومين بالإعدام، فإننا مجبرين على التمسك بالحياة من خلال خيط رفيع،وعبر تناول ما يقدّموه لنا من وجبات تعافها الحيوانات، قبل أن يقرروا إسكاتنا برصاصهم، وكانوا يأتوننا بلحم مفروم )كفتة( نصفها نيئ ونتن، وكنا نأكلها وحال سبيلنا يردّد المثل الشعبي: مالم يقتلك يُسمّنك.

أما في الحي فلا حق لنا في رؤية طبيب، اللّهم إلاّ إذا شارفنا على الموت بفعل إضراب عن الطعام أو مرض عُضال، وعادة كنا نلجأ إلى وسائل تقليدية في التطبيب،من قبيل إذا أصيب أحدنا بمغص في البطن فقد كنا نبحث عن حبوب الشاي ثم ندقها ونشربها مع الماء أو شيئا من الكامون مع الماء،وإذا كان ذلك مصاحبا بالإسهال فعلينا أن نكثر من أكل الأرز المقدم لنا، وإذا كان العكس فعلينا بالبحث عن كاس ساخن بالنعناع، وحتى إذا أصاب أحدنا ألم في رأسه فإننا كنا نبحت عن شيء من القهوة نمزجه بالحامض، وهكذا دواليك، وما عليك في هذه الحالةإلاّ ما يجود به عليك أحد الحرّاس، أو أن تبحث عن وسيط من السجناء ليجلبه لك من مطبخ السجن بمقابل. بين السجناء داخل حي الإعدام يلاحظ المرء شيوع عملية المقايضة التي تشمل كل الأشياء، وكانت العُمْلة الرسمية السائدة بحي”باء” هي حليب )نستلي( الذي توزعه إدارة السجن على سجناء حي الإعدام، ويشترون به عبر وسطاء يأتون من أحياء أخرى، للعمل كمساعدين داخله ويمكن لنا أن نبدّله بعملة علب الدخان السائدة في الأحياء الأخرى،وكان الحليب في نفس الآن هو المادة التي من الممكن أن نصنع منها رائباً نلفه في غطاء)مانطة( بعد إضافة معلقة من )الياغورت( وخلطه مع الماء الساخن في قنينة بلاستيكية بداية من الليل إلى غاية الصباح، ويستعمل أيضا كشكولاط بطبخ علبة الحليب مغلقة في ماء ساخن، وكنا عندما نريد فتحه نحكه حكا على الأرض حتى يزول غطاءه السميك، وهنا يتبادر إلى الذهن من أين لنا بالسّخان حتى نحوّل هذا الحليب إلى شكولاط ، في البداية كنا بواسطة عُملة الحليب نشتري بعض الزيت العائم فوق آنية الأكل المقدم لنا، ونضعه في إناء مفتوح ونملأه بأوراق غليظة لاستعماله كأداة تسخين وطبخ، وهي الوسيلة التي مكنتني على الأقل في بداية الأمر من إعداد الشاي الذي هو بمثابة المسكن لآلام الرأس والمؤنس في برودة ورتابة حي باء، وبعد ذلك مكننا هذا التعامل التجاري الذي تسيطر عليه العُملتين الحليب وعلب السجائر،ولأني لم أكن من المدخّنين، ولأن حي الإعدام حي مغلق، فقد كان من السهل علي التعامل بعلبة الحليب كعملة محلية خاصة بحي الإعدام، فالمضاربون كانوا دائما يحولونها إلى عملة السجائر العملة المتداولة داخل السجن المركزي،وبذلك تمكّنا من تطوير أداة التسخين بشرائها بعد أن اقتنينا لوازمها المصنّعة خارج السجن أو داخله، بداية من حفر حجرة بشكل لولبي، وصولا إلى كل اللوازم الأخرى، وبذلك تمكنا من إعداد وجباتنا الغذائية، سواء بإعادة طبخ ما يقدم لنا،أو باقتناء بعض الخضر والقطاني أو حتى لحم الجاموس أو الدجاج أو علب السردين من مطبخ السجن عبر وسطاء من السجناء الذين يعملون بحي الإعدام، وهم من غير المحكومين بالإعدام حيت يسمح لهم وضعهم بالتجول في السجن وفي مرافقه، الأمر الذي أعطانا هامشا في تنويع وجبات أكلنا والتفنن فيها ولو بوسائل محدودة،فأصبحت بالتناوب مع زملائي،أعد المرق بكل أنواعه والكسكس و)البايلا( والرايب وغيره.،وليس كل مرة بالطبع كانت تسلم الجرة فالحصول على أشياء من هذا القبيل كانت تدخل ضمن الممنوعات، يجب المحافظة عليها بالتخفي والسرية، فأحيانا يجدر حفر مكان لوضع هذه الممنوعات وتغطيتها بطريقة تمويهية، ولا نستعملها إلاّ ليلا، عندما تتوقف الحركة التي لايعكر صفوها إلا طنين أواني الطبخ، وعندما يكون هناك حراس يغضون الطرف عن ذلك، نستطيع على الأقل إعداد الشاي والقيام بعملية التسخين، لكن عندما تكون عمليات التفتيش المباغتة، عليك دائما البداية من الصفر وهكذا دواليك في معركة فر وكر دائمين.

الزيارة تتم بين حاجزين حديديين مشبكين، يبعدان عن بعضهما البعض بحوالي متر ونصف عن العائلة، ولا يسمح للعائلة أن تمدك بأكل أو شراب أو كتاب تحت مزاعم واهية، ليس أقلها أن عائلتنا قد تجلب لنا سمّا للتّخلص منا.أما الدراسة فلميكن مسموح لنا بإتمامها ولا يسمح لنا بمغادرة زنزانة الموت إلا لِماما،ولأنك ميت لا محالة وفي انتظار ذالك يجب فصل كل ما يتعلّق بالحياة عنك.

أما الدراسة فقد اعتقلت وأنا مسجل في السنة الأولى علوم بيولوجية بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء،إلا أنني لما أُدِنت بعقوبة الإعدام تم منعي من إتمام الدراسة، باعتباري شخصا ليس من حقه امتلاك حتى ورقة وقلم؛،مما يضطرني في كثير من الأحيان إلى الكتابة على الجدران، وماتلبث تلك الكتابة أن تزول بفعل الرطوبة الشديدة، وكنا في كثير من الأحيان نلجأ إلى وضع علامات نعد بها الأيام الرتيبة التي تمر بحي الإعدام.،في حي الموت الأمر سيان، حيث لاحق لنا أن ندرس، أو أن نكتب،أو أن نطالع كتابا أوجريدة، و يجب عليّ أن أنسى أني حصلت على شهادة الباكالوريا،وهي تمكنني من إتمام دراستي، لكن ذلك إن لم أُعدم وتم تحويل عقوبتي إلى المؤبد،علي أن أنتظر السّنين الطّوال لكي يبزغ شعاع ضعيف في نهاية نفقي المعتّم، لكن بفضل التصميم على المقاومة والتمسك بالحياة وتحدّي الموت الذي يتربص بنا في كل لحظة،سيسمح لنا بعد حين أن تداعب أيادينا قلما وتلامس ورقة، وإن كانت هذه الورقة مجرد رسالة رسمية،نكتب فيها ما يجب أن تطّلع الإدارة على فحواه، قبل أن تًرسل إلى عائلتنا، بعد تفحّص السطور وتفحّص ما وراء السطور، وبعد ذلك قد لا تفرج عنها وقد تعدمها دون أن تدع لها أثراً، تماما كما نُعدم نحن حين يأتي دورنا، فهم لا يخبروننا بزمان ولا مكان الإعدام، حتى إذا رمونا برصاصهم دفنونا في قبور مجهولة الهوية قرب شجرة وسط غابة مترامية الأطراف هي الأكبر في البلاد، والأهم هو أن يتأكد الطبيب أن الرصاصات الستة التي اخترقت جسدك لم تدع فيك عرقا واحداً ينبض.

بين حِمام الموت والرغبة في الحياة، والّلجوء إلى الموت لمواجهة الموت بإضرابات تكون أحيانا مميتة، والغريب أنهم يجهدون أنفسهم ليقتلوك ألف مرة، لكن حين تضرب عن الطعام فهم يجهدون أنفسهم لإيقاف إضرابك، ولو اقتضى الحال في بعض الأحيان أن يقتلوك،لأن من يقرر القتل في عرفهم هم لا أنت، ولا عجب فقد علمنا أن مُعظم المضربين عن الطعام عندنا الذين قضوا ليس بسبب الإمساك عن الطعام، ولكن بسبب الممارسات التي تُسلّط عليهم من عنف وإجبار على الإطعام القسريّ أو بالإهمال الطّبي.، وقد كنت ممن استنجدوا بهذا الموت لأطلب الحياة، فسمحوا لي ومن على شاكلتي بإتمام الدراسة، ولكن كان من الصعب علي يأن أتم دراستي في العلوم، فلا كتب حصلت عليها،وكنت لا أريد أن أكلف الوالدة عناء الذّهاب إلى الجامعة، وحتى إن جلبت لي الكتب والدروس فمن أين لي بالدروس التطبيقية؟ وقد حاولت أن أغير العلوم البيولوجية إلى العلوم الاقتصادية، لكن ندرة الكتب والدروس الخاصة بهذه المادة أوقفت مسيرتي، فقررت أن أخوض امتحانات الباكالوريا الأدبية فحصلت عليها، مما مكنني في التسجيل بكلية الحقوق، خاصة أن دروس القانون الخاص كانت متاحة داخل السجن، نظرا لأن غالبية السجناء الطلبة مسجلين في نفس الشعبة.

إرسال التعليق