
عائد من المشرحة (الحلقة الثالثة) “انبعاث ضحايا تازمامارت”
رصد المغرب/احمد الحو
في صيف سنة1991 سيتم الإفراج عن مجموعة )تازمامارت(، التي قضت حوالي عقدين من الزمن داخل المعتقل السري )تازمامارت( الموجود بجنوب المغرب قرب مدينة الرّاشيدية والذيكان قد بني خصيصا لإقبار المتورّطين في محاولة انقلاب الصخيرات والهجوم على طائرة بوينغ الملكية ،حيث فقدوا في هذا المعتقل الرّهيب 29 من رفاقهم، ولم ينج من الموت سوى 28 ،قضوا سنوات طويلة في زنازن مغلقة ومظلمة ليل نهار،في ظل نُدرة مايُقدم لهم من أغذيةرديئة، معزولين كلية عن العالم، وكانوا قد أنهوا عقوبتهم منذ سنوات،على عكس اثنين منهم هما محمد الرَّايْس وغانِي عاشور، وكانا الوحيدان المحكومين بالسجن المؤبد في مجموعة)تازمامارت(. لقد جِييء بهما إلى مصحة السجن المركزي حيث كنا نقطن لقضاء فترة نقاهة بعد الإضراب عن الطعام، وقد هالنا ما رأيناه بقدومهما، واعتبرنا أنفسنامحظوظين أمام مأساتهم. كانا كطفلين يتعلمان المشي من جديد، يزعجهما ضوء الشمس، يتكلمان وهما حذرين أن يلمحهما أحد وهما يتحدثان عن مأساتهم بسبب الاختفاء القسري، كانا يتحدثان عن مخلوقات آدمية من سكان الكهوف والأدغال كَبُرت أظافرها وطالت شعورها ونحُفت أجسادها حتى سقطت صريعة بالسُّل أو بالجنون أوبمرض فتَّاك آخر، ويتمّ ُإخراج الموتى منهم من زنزانتهم دون أن يحضون حتى بكفن وحُنوط وغسل وصلاة جنازة،فيُلفّون في غطاءهم المتهرئ، ويُرمون في حفرة ويصب من فوقهم الجِير والكِلْس حتى تذوب رفاتهم قبل أن تُغطّى بالتراب. وكان الأحياء منهم عندما يتناهى إليهم خبر وفاة أحدهم يقرؤون سورة الفاتحة وسورة ياسين على أرواحهم الندِيّة,..ومع كل تلك القساوة،كانوا يتمسكون بالحياة بخيط رفيع من داخل زنازنهم المظلمة. فقد كان بعضهم يمثل دور الحَكواتي ويجتهد في الحَكيّ عن الأفلام المطولة والأساطير، بل إن بعضهم قد تعاطف معه أحد حراس)تازمامارت( ومده بمصحف صغير ولأنه لا يستطيع قراءته بزنزانته المظلمة انتبه إلى أن هناك كُوَّتين ينبعث منهما ضوء خافت قادم من بهو الزنازن، فكان يُدخل يده والمصحف ويُخرج الأخرى ويُمسك بكلتا يديه المصحف، وبذلك تمكّن من قراءة المصحف وحُفظه كلّه، بل إنه مكّن كل قاطني العمارة معه من حفظ القرآن بهذه الطريقة الغريبة..
لقد بكيت بكاء مرّا وأنا أرى أمامي جسدين متهالكين، وقبل المجيء بهما إلى السجن المركزي أُطعموا ومن معهم في مركز طبي عسكري بفيتامينات بشكل مَرَضي أحالتهما إلى شبه مختَلَّين،وكان ذلك لمسابقة الزمن،ولإخفاء نحافتهما ونحافة الآخرين. وكنّا وكل المتواجدون بالمصحة نقوم بكل ما يمكن أن نعيد البسمة والتوازن الجسدي والمعنوي إليهما… وقد وقعت لهما عدة طرائف غريبة، أذكر منها واقِعتين: الأولى وهي مأساة حقيقية،حيث عند استقبالهما أول زيارة للعائلة، كانت بحق لحظة عنيفة تهُدّ الجبال الرَّواسي، فبعد طول فراق كادت أن تزهق أرواحهم وأرواح من تبقى من عائلاتهم،وبعد أن هدأت النّفوس، بدأ كل واحد منهم يحاول التعرف على زوجة غطّت التجاعيد وجهها واشتعل الرأس شيبا،وأبناء منهم من تركوهم أجنةأوأطفالا لم يبلغوا بعد سن الحبو وجدوهم رجالا. وكانت الصاعقة عندما كان غاني عاشور يجول بناظره ليتعرف على زوجته، وبعد أن أنهكه البحث، سأل: من تكون زوجته من بين الحاضرات؟ صمت الكل صمت الموتى وكأن على رؤوسهم الطير، ولم يجد جوابا،وبعد إلحاح منه أخبروه أنها لم تأت، وأنه بفعل غيّابه القسري فقد أصدروا حكما قضائيابتَمْويته،وتزوجت عوضا عنه أخاه، وأنجبت معه أولاد اإضافة إلى الأبناء الذين أنجبتهم مع عاشور، وهاله ما سمع فسقط مغشيا عليه، فأي شكل من أشكال جبر الأضرار يمكن أنيجبر خاطر هذا الرجل؟ ومن يستطيع أن يعيد التاريخ للوراء لإنصافه وغيره.
الطريفة الثانية: عندما تسلّما أول قفة من العائلة، ولمّا أُقفلت زنزانتهما،جلسا يتفقدان ما حوته قُفَّتهما من مأكولات، ولاحظا أن هناك فاكهة غريبة وهي فاكهة )الأفوكادو،( فسأل عاشور الرايس: هل تعرف ماهي هذه الفاكهة؟ أجابه: بالطبع اعرفها،أَتَذْكر عندما كنّا في حرب الهند الصينية؟ وهما العسكريان الذين خاضا الحروب والمعارك الطاحنة، وأردف قائلا له: له أ”تَتَذكّر تلك الشجرة عندما كنا قاب قوسين من الموت من شدة الجوع، فبدأنا نقطف ثمارها ونأخذ نواتها ونكسرها ونأكل ما بداخل النواة؟إنها تماما هي التي بين أيدينا اليوم، وعمداالى نزع فروة الفاكهة ولم يتركا منها سوى النواة، وأخذا حجرة وكسّراها حتّى إذا وجدا ما بداخلها مُرّا فطرقا الباب ليسألا الحارس ليعلما أن مايؤكل في هذه الفاكهة قد رموه في القمامة.وبعد سنة سيتم الإفراج عنهما بعفو ملكي في شتنبر 1992.
إرسال التعليق