
فشل الإسلاميين في تأسيس تنظيم حقوقي موحد في المغرب: الأسباب المركبة لغياب الفاعلية الحقوقية
رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح
مقدمة:
تُعد تجربة “منتدى الكرامة لحقوق الإنسان” من أبرز المحاولات التي قام بها الإسلاميون في المغرب للولوج إلى المجال الحقوقي. تأسس المنتدى عام 2000، تحت مظلة حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية، وسط توقعات كبيرة بأن يقدم صوتاً جديداً يدافع عن الحقوق والحريات. لكن ما حصل هو العكس: فشل المنتدى في الحسم بشأن قضايا حقوقية أساسية، خاصة تلك التي تتعلق بالاعتقال السياسي والحريات ، وكذلك غيابه عن الدفاع عن المعارضة المغربية سواء داخل المغرب أو خارجه، فضلاً عن امتناعه عن التعامل مع قضايا السلفية الجهادية وخروقات حقوقها. هذه الإشكاليات تكشف عن محدودية الشجاعة الحقوقية في التجربة الإسلامية، وتجعلها بعيدة كل البعد عن التجربة اليسارية التي اتسمت بالجرأة والاستقلالية.
السياق المنهجي والمنظم في منتدى الكرامة: ضعف الحسم ونقص الشجاعة
بالرغم من تبني المنتدى لمنهجية توفيقية تجمع بين المرجعية الإسلامية والحقوق الدولية، فإن هذه المرجعية المزدوجة تحولت إلى سقف منخفض يحد من القدرة على اتخاذ مواقف واضحة. لم يجرؤ المنتدى، على سبيل المثال، على الحسم في كثير من القضايا ومناقشتها على المستوى الشرعي واظهار تميزه عن مختلف التمثلات الموجودة في الساحة ، مما أفقده مصداقيته في صفوف الحقوقيين المستقلين.
أكثر من ذلك، فشل المنتدى في تقديم دعم أو دفاع حقيقي عن المعارضة المغربية سواء داخل البلاد أو في المنافي، وكذلك تجاه السلفية الجهادية التي تعرضت لانتهاكات جسيمة. هذا الغياب لم يكن فقط نتيجة سياسة تراجع أو حذر، بل خلق نزاعات داخل مكتب المنتدى نفسه، بين مناضلين امتلكوا الشجاعة والخبرة للدفاع عن هذه الملفات، لكنهم اصطدموا بسياسة إقصائية فرضتها قيادة المنتدى المرتبطة بحزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح.
هؤلاء المناضلون الذين دافعوا عن قضايا السلفية الجهادية كانوا غالباً من أصحاب الخلفيات الاعتقالية المستقلة، ولم ينتموا تنظيمياً لا لحركة التوحيد والإصلاح ولا لحزب العدالة والتنمية، مما منحهم حرية أكبر في الدفاع عن الحقوق دون تحكم حزبي.
اليسار الحقوقي: الجرأة والاستقلالية
على النقيض، كانت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تمثل نموذجاً واضحاً في شجاعة المواقف الحقوقية، حيث لم تتردد في الدفاع عن كافة الحريات ، ومساندة المعارضة السياسية بمختلف توجهاتها، وحتى في الترافع عن قضايا قد تكون مثيرة للجدل، مستندة على مرجعيات حقوق الإنسان الكونية الواضحة، واستقلالية تنظيمية مكنتها من المضي بثبات رغم الضغوط السياسية.
أسباب غياب الشجاعة في تجربة منتدى الكرامة
- التبعية الحزبية والسياسية:
يرتبط غياب الشجاعة في تجربة منتدى الكرامة بشكل جوهري بالتبعية الواضحة لحزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح، وهي قوى ذات مرجعية إسلامية تمثل جزءاً هاماً من الحقل السياسي المغربي. هذه التبعية السياسية لم تكن مجرد ارتباط تنظيمي، بل شكلت قيداً مفروضاً على اختيار القضايا التي يناقشها المنتدى أو يدافع عنها. ففي ظل ارتباط المنتدى بحزب يحكم أو يتنافس على السلطة، كانت هناك حسابات دقيقة للآثار السياسية لأي موقف حقوقي قد يثير توتراً مع الأجهزة الأمنية أو يزعزع المكتسبات السياسية للحزب. بالتالي، غابت الجرأة في الدفاع عن معتقلي الرأي أو الفئات الأكثر هشاشة مثل السلفية الجهادية، لأن ذلك قد يُفسر داخلياً وخارجياً كتهديد للاستقرار السياسي أو تأييد مباشر لقضايا سياسية معقدة. وهذه الحالة تعكس معضلة أساسية في العمل الحقوقي داخل الأجسام المرتبطة سياسياً، حيث تضحي القضايا الحقوقية بحسابات سياسية ضيقة، وتغيب استقلالية الدفاع عن الحقوق.
- الخوف من الصدام مع القواعد المحافظة:
يرتبط هذا العامل بالطابع الاجتماعي المحافظ الذي يميز قواعد الجمهور الإسلامي في المغرب، الذي يغلب عليه التمسك بالقيم التقليدية والاجتماعية المحافظة، والتي قد تتناقض أحياناً مع بعض القضايا الحقوقية ذات الطابع الحداثي أو الحقوقي الكوني، خاصة تلك المتعلقة بالحريات الفردية أو حقوق الأقليات. منتدى الكرامة، بصفته مؤسسة ترتبط بالحقل الإسلامي، كان يخشى أن يثير دفاعه الصريح عن بعض القضايا، مثل حقوق السلفية الجهادية أو معتقلي حركات احتجاجية، ردود فعل سلبية من هذه القواعد، مما قد يضر بشرعيته أو يضعف قاعدة الدعم الجماهيري له. هذا الخوف أدى إلى مواقف مترددة، وأحياناً إلى تجنب القضايا الشائكة، مما أضعف من تأثير المنتدى وفعاليته في الدفاع عن الحقوق السياسية. في هذا السياق، يمكن فهم أن الخوف من الصدام ليس فقط تخوفاً أمنياً أو سياسياً، بل هو تخوف اجتماعي يعكس أزمة تاصيل للقضايا المزمع الدفاع عليها
.
- غياب ثقافة دفاع حقوقي مستقل وشجاع:
يرتبط هذا السبب بنقص التكوين الحقوقي المتخصص والمستقل داخل منتدى الكرامة، حيث كان المنتسبون غالباً من خلفيات إسلامية، سياسية أو دعوية، وليسوا بالضرورة من النخب الحقوقية المحترفة ذات التجربة الواسعة في الدفاع عن الحقوق المعقدة، مثل حقوق السلفية الجهادية أو معتقلي الحركات السياسية المعارضة. هذا النقص في التكوين نتج عنه ضعف في بناء مواقف حقوقية واضحة وصريحة، حيث لم يكن هناك تأطير منهجي علمي مستقل يُمكّن المنتدى من الدفاع بشكل شجاع عن حقوق المعتقلين السياسيين بغض النظر عن خلفياتهم الفكرية والسياسية. وأدى ذلك إلى ضعف الفعل الحقوقي ، بعيدة عن النزعة الحقوقية الجامعة التي تتجاوز الانتماءات السياسية أو الأيديولوجية، خصوصاً وأن موضوع الاعتقال السياسي في المغرب يرتبط غالباً بصراعات أيديولوجية وفكرية عميقة.
- التوتر الداخلي والإداري:
تكشف الخلافات والنزاعات داخل المكتب التنفيذي لمنتدى الكرامة، حول القضايا التي يجب تبنيها والدفاع عنها، عن اختلالات تنظيمية حقيقية تعكس غياب آليات إدارة الاختلاف وغياب ثقافة العمل الجماعي الحقوقي المستقل. هذه النزاعات لم تكن فقط خلافات إدارية، بل كانت انعكاساً لصراعات أيديولوجية وسياسية بين الفاعلين داخل المنتدى، مما أدى إلى تعطيل القرارات الحاسمة، وتراجع الفعل الحقوقي الموحد. خاصة فيما يتعلق بالدفاع عن معتقلي الحركات الإسلامية المختلفة (مثل معتقلي حركة العدل والإحسان، أو السلفية الجهادية) الذين يمثلون مجموعات متناقضة أحياناً داخل الحقل الإسلامي، فإن الخلافات التنظيمية والاختلافات في الأولويات والتوجهات بين الفاعلين كانت عاملاً رئيسياً في تقويض وحدة الموقف الحقوقي. وهذا يعكس ضعفاً في تأسيس هيكل تنظيمي محترف قادر على العمل تحت سقف مصلحة حقوق الإنسان الجامعة، متجاوزاً الخلافات الحزبية أو الأيديولوجية.
تجربة منتدى الكرامة تعكس بوضوح أن الانخراط الحقوقي الإسلامي في المغرب ظل محكوماً بالضعف في الحسم والشجاعة، ما جعله بعيداً عن تحقيق تأثير حقيقي، ومقيّداً بتداخلات سياسية وإيديولوجية. مقابل ذلك، قدّم اليسار الحقوقي نموذجاً للالتزام الحقوقي المستقل، والصريح، والجرئ، وهو ما أكسبه صموداً وتأثيراً لا يمكن إنكاره. إن أي نقاش حول مستقبل العمل الحقوقي الإسلامي يجب أن يبدأ أولاً بمعالجة هذه الإشكاليات الجذرية: ضرورة بناء استقلالية حقيقية، وتبنّي موقف شجاع وحاسم في الدفاع عن حقوق الإنسان، دون استثناءات.
فشل الإسلاميين في تأسيس تنظيم حقوقي موحد في المغرب: الأسباب المركبة لغياب الفاعلية الحقوقية
رغم حضورها الوازن في الحقل الديني والاجتماعي، لم تنجح الحركات الإسلامية المغربية، مثل جماعة العدل والإحسان، وحركة التوحيد والإصلاح، والتيارات السلفية، في تأسيس تنظيم حقوقي موحد وفاعل يعكس تصوراتها ويعبّر عن مرجعيتها الإسلامية المشتركة. هذا الإخفاق يثير تساؤلات عميقة حول الأسباب الكامنة وراء هذا العجز، خاصة في ظل التحديات الحقوقية المتزايدة، والحاجة الملحّة إلى صوت إسلامي مستقل ومدافع عن القيم الإنسانية في بعدها الكوني.
أولاً: تباين التصورات والأهداف بين الحركات الإسلامية
على الرغم من انتماء مختلف هذه الحركات إلى مرجعية إسلامية واحدة، فإنها تختلف جذريًا في تصوراتها وأولوياتها ومقاربتها لقضية العمل الحقوقي:
- العدل والإحسان تنطلق من رؤية شمولية تسعى إلى التغيير الجذري من خلال مشروع الخلافة، ولا ترى في الديمقراطية الغربية نموذجًا يحتذى به، ما يجعل مقاربتها للحقوق مقترنة بإصلاح جذري للنسق السياسي برمّته.
- في المقابل، حركة التوحيد والإصلاح اختارت الانخراط التدريجي في المشهد السياسي والمؤسساتي، مراهِنة على الإصلاح من الداخل عبر حزب العدالة والتنمية.
- أما التيار السلفي، فقد كان منشغلا لفترة طويلة في انشغالات عقدية وفقهية، ثم دخل مرحلة إعادة التموضع بعد الاعتقالات التي طالت رموزه في سياق ما بعد 2003، ليبدأ بعض رموزه لاحقًا في التفاعل مع الخطاب الحقوقي دون أن يمتلكوا رؤية جماعية أو بنية تنظيمية مستقرة.
ثانيًا: الصراعات التاريخية والهواجس المتبادلة
من بين أهم العوائق البنيوية لفشل توحيد الصف الحقوقي الإسلامي في المغرب، الصراعات التاريخية والجفاء المتبادل بين الفاعلين الإسلاميين:
- تاريخيًا، وُجدت قطيعة حادة بين العدل والإحسان من جهة، وحركة التوحيد والإصلاح من جهة أخرى، تعود إلى زمن التأسيس والانشقاقات، وهو ما ترك أثرًا نفسيًا وسياسيًا حال دون بناء جسور التعاون الحقوقي بينهما.
- التوجس المتبادل بين التيار السلفي وهذه الحركات زاد من تعقيد المشهد، خصوصًا مع صعود رموز سلفية تحمل خطابًا ناقدًا بل أحيانًا متحاملًا على جماعات سياسية إسلامية، واتهامها بالتنازل عن الثوابت.
ثالثًا: علاقة الدولة بالحركات الإسلامية: التوظيف والإقصاء
لعبت الدولة المغربية دورًا محوريًا في تفتيت إمكانية تشكيل جسم حقوقي إسلامي موحد:
- تم استيعاب بعض الحركات (خصوصًا حركة التوحيد والإصلاح) في اللعبة السياسية، مما قيد مواقفها الحقوقية وجعلها تتجنب الملفات المحرجة التي قد تصطدم مع الدولة.
- في المقابل، خضعت العدل والإحسان إلى الحصار والمضايقات، ما عمّق من عزلتها وجعلها تتوجّس من أي مبادرات مشتركة مع أطراف تُحسب على “النسق الرسمي”.
- وقد مارست الدولة أدوارًا مزدوجة في التعامل مع التيار السلفي، حيث انفتحت عليه أحيانًا كواجهة لمحاربة التيارات اليسارية، دون أن تسمح له بتأسيس كيان حقوقي مستقل.
رابعًا: ضعف البناء المؤسساتي الداخلي للحركات
تُعاني أغلب الحركات الإسلامية من غياب آليات داخلية فعالة لتدبير ملفات حساسة كحقوق الإنسان، فجلّ تنظيماتها الحقوقية كانت ملحقة بهياكلها الدعوية أو السياسية، ولم تُطوَّر كأجهزة مستقلة ذات رؤية واضحة وأطر متفرغة.
- ارتبطت بعض التجارب الحقوقية بأسماء محددة أو رموز كاريزماتية، دون أن تتم أسس مؤسساتية تُتيح الاستمرارية.
- غياب ثقافة العمل الحقوقي الاحترافي، واعتماد مقاربة وعظية/أخلاقية بدلًا من التوثيق والتقاضي والترافع، حدّ من الفاعلية.
خامسًا: تأثير السياقات الإقليمية والمحلية
تأثرت الحركات الإسلامية المغربية بالتحولات الإقليمية، خصوصًا:
- ارتدادات الربيع العربي، والتي أدّت إلى انكماش حركة العدل والإحسان بعد صدمة فشل مشروع التغيير الشامل، وانهيار تجربة الإسلاميين في دول مثل مصر وسوريا.
- انخراط العدالة والتنمية في الحكومة، وما تبعه من تراجع في الخطاب الاحتجاجي والحقوقي، بل وصمته المريب في كثير من الملفات الحساسة.
- أما السلفيون، فكانوا منشغلين بإعادة بناء صورتهم والانخراط في مشهد ما بعد السجون، دون إطار موحّد أو رؤية استراتيجية.
سادسًا: المعضلة المنهجية: إسلامية الحقوق أم حقوق الإنسان؟
ثمة إشكال معرفي ومنهجي تعاني منه الحركات الإسلامية يتمثل في التذبذب بين تبنّي خطاب حقوق الإنسان الكوني، والتمسك بالمرجعية الإسلامية.
- العدل والإحسان تُؤمن بحقوق الإنسان لكنها تُخضعها لمنظومة الخلافة والرؤية القرآنية/الإحسانية.
- التوحيد والإصلاح تحاول التوفيق بين المرجعيتين، لكنها تتجنب الحسم في قضايا حرجة كالحريات الفردية والمساواة بين الجنسين.
- التيار السلفي ظل لسنوات يعتبر المواثيق الدولية للحقوق بدعًا غربية، ثم بدأ في السنوات الأخيرة بطرح مقاربات مهادِنة دون تأصيل معرفي واضح.
خاتمة: نحو مراجعة شجاعة ومشروع حقوقي جامع؟
يبدو أن الافتقار إلى مشروع حقوقي إسلامي موحّد لا يعود فقط إلى معوقات سياسية، بل أيضًا إلى خلل بنيوي في الفكر والمنهج والممارسة. إن تجاوز هذا الإخفاق يتطلب:
- جرأة فكرية في مراجعة التصورات التقليدية عن الدولة والحقوق.
- تحررًا من التبعية الحزبية والتقاطعات السياسية الضيقة.
- وعيًا بضرورة الاشتباك الإيجابي مع منظومة حقوق الإنسان الكونية انطلاقًا من قراءة تأصيلية رشيدة.
يبقى سؤال المستقبل معلقًا: هل يمكن للحركات الإسلامية أن تُنتج نموذجًا حقوقيًا أصيلاً ومتجددًا؟ أم أن الصراعات والتوظيفات ستظل تحكم مآلاتها؟
.
إرسال التعليق