
فشل الحركات الإسلامية: أزمة في السؤال أم في الجواب؟
رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح
عرفت المجتمعات العربية خلال القرن الماضي نشوء عشرات الحركات الإسلامية، رفعت شعارات النهضة والإصلاح واستعادة الخلافة، وقدّمت نفسها باعتبارها الممثّل الشرعي للإسلام في المجال السياسي والاجتماعي والتربوي. غير أن المحصلة اليوم توحي بتراجع كبير، بل بفشل ذريع في تحقيق الشعارات والوعود، حيث تحوّل بعضها إلى أدوات في يد الأنظمة، أو إلى حركات مراقبة ومخبرين، أو إلى كيانات معزولة عن المجتمع والتاريخ.
فهل الخلل في القادة؟ أم في الأتباع؟ أم في المناهج؟ أم أن الخلل أعمق من ذلك كله: في السؤال التأسيسي نفسه الذي وُلدت منه هذه الحركات؟ وهل كانت الأجوبة المقدمة متناسبة مع طبيعة الأسئلة المطروحة؟ وهل تغيّر الواقع بينما ظلّ الخطاب راكدا؟
كل حركة هي في جوهرها جواب على سؤال، لا وحيًا نازلًا، ولا حقيقة مطلقة. فـ”الإخوان المسلمون” مثلًا، نشأوا كردّ على سؤال التغريب والانحلال والاحتلال: كيف نعيد الإسلام إلى المجتمع والدولة؟ أما “السلفية الجهادية”، فقد وُلدت من سؤال الهزيمة والاحتلال والظلم: لماذا يُذلّ المسلمون؟ وجاء الجواب عندهم: لأننا تخلينا عن الجهاد. بينما “جماعة التبليغ” أجابت عن سؤال ضعف الإيمان الفردي: كيف نُصلح القلوب؟ فكان الجواب: بالدعوة والتجوال والتجربة الشخصية.
لكن، هل كانت هذه الأسئلة كافية؟ وهل أجوبتها ظلّت صالحة؟ أم أن الزمن تجاوزها؟
من أبرز أوجه فشل هذه الحركات أنها لم تطوّر “عدّة معرفية” متينة
ظلت معظمها تعتمد على مقولات مجتزأة من كتب الفقه أو السيرة دون تكييف مع الواقع المركّب.
غاب عنها التحليل السوسيولوجي والسياسي العميق، فكانت تُفسر الأحداث الكبرى بتفسيرات سطحية (المؤامرة، العقوبة الإلهية…).
لم تبلور فقهًا حقيقيًا للواقع، بل تعاملت مع الوقائع بالأدوات القديمة دون إدراك لتعقيد الدولة الحديثة، ولا لسياقات العولمة أو الديناميات المجتمعية المتحولة.
بدأت معظم الحركات الإسلامية كحركات تربوية دعوية، لكنها سرعان ما انتقلت إلى منطق السلطة:
اندمجت في اللعبة السياسية دون مراجعة فكرية لمنهجها.
تعاملت مع الدولة كغنيمة لا كإطار لإقامة العدل.
اختزلت “التمكين” في الصعود الانتخابي، لا في بناء الإنسان والمؤسسات.
وهكذا وجدت نفسها حين وصلت إلى الحكم، عاجزة عن إدارة التعقيد، ومضطرة إلى التنازل، أو إلى التحالف مع الفساد، أو إلى الاصطدام بالجدار الصلب للدولة العميقة.
من القواعد الكبرى في الفقه أن “الواجب يتغير بتغير الزمان والمكان والحال”. لكن أغلب الحركات الإسلامية تجاهلت هذا المبدأ:
لم تسأل نفسها: ما واجبنا اليوم أمام الفقر، والفساد، والبيئة، والحريات، والاستبداد؟
استمرت في ترديد شعارات قديمة دون وعي بتحوّل الأسئلة الكبرى في الوعي العربي والإسلامي.
لم تطوّر خطابًا يتفاعل مع الأجيال الجديدة، ولا مع مطالب الناس، ولا مع معطيات العصر.
فكانت النتيجة: انفصال عن المجتمع، وعجز عن التأثير، ثم اندحار أو تلاشي.
من الأخطاء الشائعة أن نخلط بين الإسلام كدين، والحركات الإسلامية كاجتهادات بشرية. الأولى وحيٌ رباني، والثانية محاولات بشرية تحتمل الخطأ والصواب، ويجوز بل يجب نقدها.
فـ”إسلامية” الحركة لا تعني أنها على حق، بل تعني أنها تطرح نفسها كجواب على سؤال نهضوي معين. والسؤال المشروع هو:
هل هذا الجواب كان موفقًا؟ هل عدّته الشرعية والفكرية صالحة؟ هل خدم الأمة، أم زاد من تمزقها؟ هل خدم الدين، أم استغله لتبرير خيارات خاطئة؟
الفشل العام للحركات الإسلامية ليس بالضرورة نهاية الإسلام السياسي، بل هو دعوة لمراجعة السؤال التأسيسي:
ما واجبنا في هذا العصر؟
ما فقه الواقع الذي نحتاجه؟
ما العدّة الفكرية والتنظيمية والروحية القادرة على حمل مشروع حضاري حقيقي؟
إننا بحاجة إلى تجديد جذري، لا في الوسائل فحسب، بل في الأسئلة الكبرى التي ننطلق منها. فالحركة التي لا تطرح السؤال الصحيح، ستظل تائهة في أجوبة خاطئة، حتى لو رفعت أعظم الشعارات.
إرسال التعليق