آخر الأخبار

فشل قوى اليسار المغربي في بناء قواعد تنظيمية وشعبية داخل العالم القروي

فشل قوى اليسار المغربي في بناء قواعد تنظيمية وشعبية داخل العالم القروي

رصدالمغرب / عبدالفتاح الحيداوي


تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الأسباب المركبة التي أدت إلى فشل قوى اليسار المغربي، منذ نشأتها في ستينيات القرن الماضي، في بناء قواعد تنظيمية وشعبية داخل العالم القروي. على الرغم من أن خطاب اليسار كان يتبنى نظريًا قضايا “الفلاحين الكادحين”، إلا أنه ظل ظاهرة حضرية ونخبوية إلى حد كبير.

المحور الأول: العالم القروي كبنية مغلقة أمام التغيير

رغم أن العالم القروي المغربي شكّل الكتلة السكانية الأكبر إلى حدود عقود قريبة، فإنه ظل فضاءً صعب الاختراق بالنسبة لمشاريع التغيير السياسي والاجتماعي، خاصة من طرف القوى اليسارية التي برزت خلال الستينيات والسبعينيات. هذا الانغلاق نتج عن مجموعة من العوامل البنيوية والتاريخية، يمكن تفصيلها على النحو التالي:

1. البنية السوسيو-اقتصادية

اقتصاد الكفاف القائم على الزراعة البعلية، والهشاشة المرتبطة بالمناخ والجفاف، جعلا الفلاح يعيش في دائرة ضيقة من الاهتمامات اليومية. ضعف البنية التحتية (الطرق، الكهرباء، التعليم، الصحة) خلق عزلة شبه مطلقة بين القرية والمدينة، وبين الفلاح وباقي مكونات المجتمع.

• لم يكن الفلاح يرى في اليسار، بخطابه عن الثورة والاشتراكية والتحرر، جوابًا مباشرًا عن معاناته من قلة المطر أو ارتفاع أسعار البذور والأسمدة.

• كما أن الأمية الواسعة حرمت اليسار من أدوات التواصل الضرورية (النقاش، الصحف، المنشورات)، فبقي خطابه محصورًا في المدن والجامعات.

2. البنية الديموغرافية

إلى حدود الثمانينيات، كان المغرب بلدًا قرويًا بأكثر من ثلثي سكانه، لكن هذه الكتلة كانت مبعثرة جغرافيًا ومشتتة على آلاف الدواوير والقرى.

• صعوبة التنقل بين المناطق الريفية وانعدام وسائل النقل الجماعي جعل أي عمل تنظيمي يتطلب موارد بشرية ومالية هائلة.

• غياب نخب قروية متعلمة وقادرة على لعب دور الوسيط بين الخطاب اليساري والساكنة حال دون بناء قاعدة اجتماعية محلية.

3. بنية الضبط المخزني

المخزن لم يكن حاضرًا في القرية كسلطة إدارية فقط، بل كبنية متكاملة للرقابة والضبط.

• القياد والشيوخ والمقدمون شكلوا شبكة ولاءات متداخلة مع الأعيان المحليين والوجهاء التقليديين.

• هذه البنية عملت على مراقبة كل محاولة للتنظيم، ومعاقبة المنخرطين فيها بالعزل الاجتماعي أو المتابعة الأمنية.

• بالتالي، لم يكن للمعارضة السياسية أن تجد مجالًا للنمو داخل فضاء محكوم تاريخيًا بعلاقات الطاعة والزبونية.

4. البنية الثقافية والقيمية

إضافة إلى العوامل السابقة، لعبت الثقافة التقليدية دورًا في إغلاق المجال أمام أي خطاب “حداثي” أو “ثوري”:

• سيادة المرجعية الدينية والقبلية جعلت الفلاح أكثر ميلًا للثقة في الفقيه أو الشيخ أو الزاوية، بدل التنظيمات الحزبية.

• التصور القدري للحياة (اعتبار الفقر والجفاف امتحانًا إلهيًا) أضعف القابلية لتبني خطاب سياسي يَعِد بالتحرر عبر الصراع.

5. الإستراتيجيات البديلة للسلطة

في المقابل، وظّف المخزن سياسات مثل برامج “الإنعاش الوطني” أو “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” في العقود اللاحقة لإعادة إنتاج الولاء. كانت هذه البرامج تخاطب الحاجات المباشرة للفلاح (الماء، الطرق، الدعم الغذائي) بشكل براغماتي، وهو ما عجز اليسار عن تقديمه.

المحور الثاني: خطاب اليسار الفلاحي: بين النظرية المستوردة والواقع المحلي

كان خطاب اليسار حول القضية الفلاحية يعاني من فجوة عميقة بين طموحاته النظرية وقدرته على ملامسة الواقع المغربي.

الأيديولوجيا المستوردة

تبنى اليسار المغربي، خاصة تياراته الماركسية-اللينينية، خطابًا مستوحى من تجارب ثورية عالمية (الصين، كوبا، فيتنام). شعارات مثل “الفلاحون الكادحون” و”الثورة الزراعية” كانت مركزية، لكنها بقيت مفاهيم مجردة لم تُترجم إلى برامج عملية تتناسب مع خصوصية الفلاح المغربي. فالتجارب الأممية التي استلهم منها اليسار كانت قائمة على سياقات تاريخية واجتماعية مغايرة: وجود إقطاعيات واسعة، وصراعات دامية على ملكية الأرض، وطبقة فلاحية منظمة حول مطالب واضحة. بينما في المغرب كان المشهد الفلاحي متشظيًا، تحكمه بنية تقليدية معقدة، حيث تتداخل سلطة المخزن، النفوذ القبلي، والولاءات المحلية. هذا جعل الاستعارة النظرية غير قادرة على النفاذ إلى عمق الواقع القروي المغربي.

النخبوية الحضرية

صِيغ هذا الخطاب واستهلك أساسًا داخل دوائر نخبوية مغلقة في المدن (الجامعات، الأوساط الثقافية). فبدل الانغراس في الحقول والقرى، ظل النقاش حول “الفلاحين الكادحين” حبيس القاعات الجامعية والمنشورات الأيديولوجية. لم يبذل اليسار جهدًا كافيًا لتبسيط لغته أو تقريب مفاهيمه من تجربة الفلاح اليومية. فبينما كان الفلاح يتحدث لغة الأرض والماء والقبيلة، كان اليساري يخاطبه بلغة الصراع الطبقي والثورة البروليتارية، مما ولّد قطيعة معرفية وثقافية بين الطرفين.

هذا الطابع النخبوي انعكس في غياب مبادرات ميدانية فعلية: ندرة التعاونيات الزراعية المستقلة، ضعف محاولات التنظيم النقابي للفلاحين، وقلة الانفتاح على الأشكال التقليدية للتضامن القروي (الجماعة، السقي الجماعي، الأعراف). فخطاب اليسار لم يستطع تحويل نفسه إلى قوة تعبئة اجتماعية داخل المجال القروي، بل ظل يدور في حلقة ضيقة من المثقفين والطلبة، بعيدًا عن هموم الفلاح البسيط.

وبذلك، ظل خطاب اليسار حول الفلاحة خطابًا “عن الفلاحين” أكثر مما هو “مع الفلاحين”، أي رؤية من فوق تحاكم الواقع بمنظور نظري مجرد، دون بناء جسور فعلية مع الأرض ومن يفلحها.

المحور الثالث: هيمنة الثقافة التقليدية والدين كحصن رمزي

كان الدين والثقافة التقليدية بمثابة منظومة رمزية تحمي المجتمع القروي من أي اختراق خارجي غير منسجم مع مرجعياته. فالفلاح المغربي لم يكن يرى في نفسه مجرد كائن اقتصادي بل ابن بيئة مشبعة بالقيم الدينية والعادات الموروثة. هذه المنظومة لم تكن مجرد خلفية ثقافية، بل شكلت “سورًا” نفسيًا ورمزيًا جعل الخطاب اليساري، خاصة في نسخته الماركسية ذات النزعة المادية والعلمانية، غريبًا عن أفقه الثقافي والروحي.

دور البنى التقليدية

الزوايا، المساجد، والأضرحة لم تكن مجرد مؤسسات دينية تؤطر التدين الفردي، بل كانت مراكز تنظيم اجتماعي متكامل.

• الزوايا لعبت أدوارًا سياسية وتعبوية عبر التاريخ، سواء في المقاومة ضد الاستعمار أو في ضمان الولاءات للمخزن.

• المساجد كانت فضاءً يوميًا لتشكيل الوعي الجماعي للفلاحين، حيث يتداخل الديني بالسياسي والاجتماعي.

• الأضرحة، بما لها من حمولة رمزية وروحية، مثلت صلة بالذاكرة الجماعية والقداسة المحلية.

هذه البنى كرست قيم الطاعة، الاحترام، والارتباط بالشرعية الدينية للسلطان. وهكذا وجد اليسار نفسه أمام مؤسسات راسخة قادرة على إفراغ خطابه من أي قوة اختراق، لأنها تقدم للفلاح إطارًا دينيًا واجتماعيًا متماسكًا يصعب تجاوزه.

فشل اليسار في تقديم بديل ثقافي

على عكس الإسلاميين الذين وجدوا في هذه البنى التقليدية جسورًا للتغلغل عبر الخدمات الاجتماعية والدعوية (دروس الوعظ، حملات التضامن، التعليم الديني، الأعمال الخيرية)، ظل اليسار عاجزًا عن بناء قنوات رمزية مع الفلاح. بل إن خطابه:

• حمل أحيانًا نزعة استعلائية تجاه الدين، فُهم منها أنه يسعى لعلمنة مجتمع متدين.

• كان يميل إلى لغة نخب حضرية بعيدة عن المرجعية الروحية للريف والبادية.

• تجاهل أن الفلاح لا ينظر للدين كقضية إيمانية فردية فحسب، بل كإطار يضمن الاستقرار الاجتماعي والشرعية السياسية.

هكذا بدا اليسار كأنه جسم دخيل على الثقافة المحلية، في حين استطاع الإسلاميون أن يعيدوا إنتاج نفس القيم التقليدية لكن بلغة معاصرة، ما منحهم موقعًا أقوى داخل القرى.

يمكن القول إن إخفاق اليسار في فهم البعد الثقافي والديني جعل مشروعه السياسي يبدو “مستوردًا” و”مفصولًا” عن الهوية القروية. في المقابل، نجحت الحركات الإسلامية في إعادة تفعيل الرموز الدينية والاجتماعية التقليدية لصالحها، مقدمة نفسها كامتداد طبيعي للبنى المحلية، لا كقوة دخيلة. وبذلك خسر اليسار رهانًا جوهريًا كان من الممكن أن يفتح له بابًا إلى أوسع قاعدة اجتماعية في المغرب.

المحور الرابع: استراتيجيات الدولة في تحجيم اليسار

لم يكن تراجع اليسار عن الريف والمجال القروي مجرّد نتيجة لعوامل داخلية تخص خطابه أو بنيته، بل ارتبط أيضًا باستراتيجيات دقيقة اعتمدتها الدولة المغربية منذ ستينيات القرن الماضي، هدفت إلى عزل اليسار وإبقائه محصورًا في الفضاءات الحضرية والجامعية. ويمكن تحديد أبرز هذه الاستراتيجيات في ثلاث مستويات مترابطة:

1. استراتيجية القمع والاحتواء

واجهت الدولة محاولات اليسار اختراق العالم القروي بعنف ممنهج، تمثل في الاعتقالات والمحاكمات الصورية، وحملات المداهمة التي استهدفت أي نشاط تنظيمي أو نقابي في القرى. وقد رافق هذا القمع المباشر سياسة احتواء ذكية، أبقت على هامش ضيق لنشاط اليسار في المدن والجامعات، لكنه ظل تحت المراقبة الأمنية الدقيقة. هكذا نجحت الدولة في خلق “غيتو حضري” لليسار، منع امتداده نحو الأوساط الفلاحية التي كان يعوّل عليها كقاعدة اجتماعية للثورة.

2. خلق أحزاب “إدارية” بديلة

سعت الدولة إلى ملء الفراغ السياسي في العالم القروي عبر تأسيس ودعم أحزاب موالية، وُصفت بـ”الأحزاب الإدارية”. وقد مثل حزب الحركة الشعبية نموذجًا بارزًا لهذا التوجه، حيث ارتكز على البنية القبلية والروابط التقليدية للفلاحين، مقدّمًا نفسه كصوت الريف. بهذه الطريقة، ضمنت الدولة ولاء البنى القروية التقليدية، وقطعت الطريق أمام أي محاولة لليسار لتأطير الفلاحين. فالأحزاب الإدارية لم تكن مجرد منافس سياسي، بل أداة لضبط الريف وتحييده عن موجة المعارضة.

3. استغلال انقسامات اليسار

ساهمت الانشقاقات الداخلية والصراعات الأيديولوجية بين تيارات اليسار (ماركسية-لينينية، اشتراكية ديمقراطية، قومية…) في تشتيت قواه وإضعافه. وقد استثمرت الدولة هذه الانقسامات بمهارة، عبر تشجيع بعضها، وفتح قنوات تفاوض أو استقطاب مع قيادات معينة، بينما استمرت في ضرب تيارات أخرى. بهذا الأسلوب، حولت اليسار إلى قوى متفرقة، يسهل مراقبتها واحتواؤها، بدل أن يكون كتلة موحدة قادرة على تشكيل بديل سياسي جدي.

4. البعد الرمزي والإعلامي

إلى جانب القمع المباشر، لجأت الدولة إلى تشويه صورة اليسار في الإعلام الرسمي، حيث صُوِّر كتيار “مستورد” ومعادٍ للتقاليد والدين، وهو ما عمّق عزلته داخل المجتمع، خاصة في الوسط القروي المتشبع بالثقافة التقليدية.

بهذا، يتضح أن تحجيم اليسار لم يكن نتيجة ظرفية، بل ثمرة استراتيجية شاملة جمعت بين القمع، والبدائل الحزبية، واستغلال الانقسامات، والحرب الرمزية، وهو ما جعل اليسار في المغرب قوة حضرية نخبوية أكثر منها حركة جماهيرية واسعة.

المحور الخامس: النتائج والتداعيات: عزلة المدن وفقدان العمق الشعبي

كانت النتيجة الحتمية لهذه العوامل مجتمعة هي عزل اليسار داخل المدن وفشله في التحول إلى قوة جماهيرية واسعة. فقد عجز عن مراكمة حضور فعلي في الأوساط القروية حيث الأغلبية السكانية، وبقي رهين دوائر حضرية محدودة.

1. قاعدة اجتماعية محدودة

انحصرت قاعدة اليسار في فئات محددة كالطلبة والمثقفين والموظفين وبعض العمال المنتمين إلى القطاعات المنظمة نقابيًا. هذه التركيبة الاجتماعية جعلته يظهر كـ”ظاهرة مدينية نخبوية” أكثر من كونه حركة جماهيرية ممتدة في عمق المجتمع. كما أن الخطاب المؤدلج، البعيد عن الرموز الثقافية والدينية السائدة، ساهم في تعزيز صورته كحركة غريبة عن الوعي الشعبي القروي.

2. ضعف انتخابي مزمن

تجلى هذا الضعف بشكل واضح في الممارسة الانتخابية، حيث كانت نسب التصويت لصالح أحزاب اليسار تتراجع كلما اتسعت الدائرة الانتخابية لتشمل القرى والبوادي. فبينما استطاع اليسار أن يحافظ على جيوب انتخابية في بعض المدن الكبرى والجامعات، إلا أنه عجز عن منافسة القوى التقليدية والإسلامية التي كانت أكثر التصاقًا بالقاعدة الشعبية. هذا الوضع أفقده تدريجيًا القدرة على التأثير من داخل المؤسسات، وحوّله إلى قوة احتجاجية أكثر منها قوة اقتراحية.

3. فقدان المبادرة التاريخية

مع مرور الوقت، أضعفت هذه العزلة قدرة اليسار على المبادرة وقيادة التغيير. فبعد أن كان يقدَّم كحامل للمشروع التحرري والديمقراطي في مرحلة ما بعد الاستقلال، أصبح متأخرًا عن ديناميات الشارع، تاركًا المجال لقوى سياسية أخرى –خصوصًا الإسلاميين– الذين تمكنوا من التغلغل في النسيج الاجتماعي عبر المساجد، الجمعيات، والخدمات الاجتماعية المباشرة. هذا التحول التاريخي جعل اليسار يفقد موقعه كفاعل أول في المعارضة، ويتحول إلى لاعب ثانوي في معركة سياسية واجتماعية أكبر منه.

4. تعميق الهوة مع العالم القروي

أدى هذا المسار إلى تكريس الفجوة بين المدينة والقرية، فبينما استمر اليسار في إنتاج خطاب نخبوي موجَّه إلى قضايا الديمقراطية والحداثة، ظل العالم القروي يعيش إكراهات يومية مرتبطة بالأرض والماء والعيش الكريم، وهي قضايا لم ينجح اليسار في مقاربتها بشكل ملموس. ومن هنا، يمكن القول إن فقدان العمق القروي لم يكن مجرد عارض انتخابي، بل نتيجة بنيوية أضعفت قدرته على أن يكون مشروعًا وطنيًا شاملًا.

درس تاريخي لمشروع لم يكتمل

في الختام، يمكن القول إن فشل اليسار في اختراق العالم القروي المغربي لم يكن مجرد عثرة ظرفية، بل هو نتيجة لتفاعل معقد بين خطاب مؤدلج بعيد عن هموم الفلاحين، وسيطرة محكمة للمخزن وبناه التقليدية على البوادي، وعجز تنظيمي وثقافي لدى اليسار نفسه. لقد كشف هذا الفشل عن أزمة عميقة في قدرة المشروع الحداثي اليساري على فهم وإدماج “المغرب التقليدي”. هذا الدرس التاريخي لا يزال راهنًا، حيث يطرح سؤالًا جوهريًا حول قدرة أي مشروع سياسي على إحداث تغيير حقيقي في المجتمع دون فهم عميق لواقعه الاجتماعي والثقافي وبناء جسور حقيقية مع كافة فئاته.

إرسال التعليق