
في معنى الكتابة عند موريس بلانشو
رصد المغرب/الباحث خالد راكز
الفيلسوف موريس بلانشو ليس مجرد مفكر كتب في الأدب بل جعل من الكتابة مسألة وجودية فلسفية عميقة. فمامعنى الكتابة عند الفيلسوف موريس بلانشو؟ الكتابة ليست مجرد تعبير ولا نقلاللمعنى،إنھا حدث وجودي يقع للكاتب نفسه كما أنها عندهإنفصال عن العالم.
فالكاتب عندما يكتب ينفصل عن العالم وعن نفسه ويغدو شخصا آخر؛ إنهلا يعبر عن أفكار جاھزة بل يواجه الصمت والغياب أي مالايمكن قوله. الكتابة موت،ليس موت الجسد فقط، بل موت المعنى، موت الھوية، موت السيطرة على اللغة. إنها تعبر حدود الحياة العادية وتدخل كتجربة لا يقينية ولانھائية.
الأدب فضاء خاص مختلف عن الواقع اليومي، في ھذا الفضاءالأدبي لايقال الشيء ليفھم بل يتم قوله ليبقى مفتوحا غامضا يضج بالمفارقة. أما الموت الثاني فھو عندما يكتب المرء موتهالأول،إنھا كتابة الموت الثاني بشكل رمزي.
يكمن ھذا الموت المختلف عن الموت البيولوجي باعتباره رمزيا في الانسحاب،في الغياب وفي انتظار لاينتھي، موريس بلانشويقصد باللغةالمزدوجة أن اللغة في الأدب ليست أداة شرح أوتقابل،ھيتعبرعن الغياب؛ الكلمات تشير الى مالايمكن الإمساك به، الكتابة عمل لايكتمل أبدا فالكاتب يتورط في مشروع مستحيل مالايمكن قوله، أن يكتب مالايكتب.
يقول موريس بلانشو”أن تكتب يجب أن تضع نفسك على حافة الغياب،أن تدعو الكلمات الى أن تحل محلك وان تكون منسيا فيما تكتب”. حين تكتب لاتسيطر على نصك، الكتابة تجاورك وتصبح أنت موضوعا منسيا خلفا النص.
يرى بلانشوأن الكتابة ليست وسيلة تعبير أونقل للمعنى بل ھي فعل وجودي،ھي دخول فضاء آخر، فضاء ينقطع عن الزمن اليومي حيث يتوارى الكاتب خلف النص.
يرى بلانشوأن الكتابة ليست مجرد وسيلة تعبير أونقل للمعنى بل ھي فعل وجودي؛ ھي دخول فضاء آخر ينقطع عن الزمن اليومي؛ حيث يتوارى الكاتب خلف النص، الكتابة لاتعني قول الشيء؛ بل استدعاء الصمت المحيط به والكشف عن الغياب؛ عما لايقال. فالكتابة الحقيقية تجعل الكاتب يسعى لكي يكون النص ھو الحاضر الوحيد، يربط الفيلسوف بين الكتابة والعزلة والموت.
فالكاتب حين يكتب ينسحب من الحياة اليومية ويتجه نحو الموت الرمزي، حين يصبح مجرد وسيط لصوت لاينتمي اليه بالكامل، الفضاء الأدبي مكان يتم فيه استدعاء الغياب؛ الظل؛اللاحضور. الكتابة ھي اقتراب دائم من المستحيل؛ محاولة مستمرة لقول مالا يمكن قوله،إنھا استبطان للمسافة بين المعنى وعدمه.
يتأثر بلانشو بقوة بھيدغر وجورج باتاي، ففكرة اللاأساس والوجود بوصفه انكشافا ترتبط بقراءته للكتابة بوصفھا صدى، وتجلي للانكشاف وموطنا للغياب بدل الحضور. بلانشولايقيم تمييزا صارما بين الفكر الفلسفي والأدبي بل يراھما متداخلين؛ فھو يكتب نصا يقع في الحدود يجمع بين التحليل والخيال والنقد والتأمل الشعري. يدرس كافكاوھودرلينوملارميه ورامبو وبروست لاكتحليل نقدي بل بالولوج في عوالم النصوص، فالكتابة ھي اقتراب من اللامرئي ومن غياب الكاتب ومن استحالة القول الكامل.
بلانشو لايقيم تمييزا صارما بين الفكر الفلسفي والأدبي بل يراھما متداخلين؛ فھو يكتب نصا يقع في الحدود، يجمع بين التحليل والخيال والنقد والتأمل الشعري. يدرس كافكاوھودرلينوملارميه ورامبو وبروست لاكتحليل نقدي بل كولوج في عوالم النصوص فالكتابة ھي اقتراب من اللامرئي ومن غياب الكاتب ومن استحالة القول الكامل.
الأدب والخطر:الكتابة كخطر وجودي ليست مجرد عملية إبداعية ؛ بل اقتراب من العدم، من الحدود القصوى للمعنى. الأديب يقيم في منطقة بين الحياة والموت حين يواجه الكاتب انمحاء ذاته ويتعامل مع اللغة كقوة خارجة عن السيطرة.
نداء اللغة: اللغةفي ھذا الفضاء ليست وسيلة تواصل بل لسان مستقل الكتابة الحقيقية،ھي تلك التي تستسلم لنداء اللغة. بلانشو يميز بين الكتابة التي تقول والكتابة التيتنادي من أجل اللغة ذاتھا.
تجربة الفراغ: الكتابة تدخل الكاتب في فراغ وفي عزلة تامة عن العالم،الأدب ھنا ليس امتلاء بالمعنى بل انفتاح على الفراغ. الكاتب يغدو مجرد ظل في ھذا الفراغ،لايعرف من أين يأتي الكلام أو إلى أين يذھبلحظة الكتابة: يتناول بلانشو مفھوم اللحظة الأدبية تلك اللحظة التي لاتقاس زمنيا بل وجوديا، ھذه اللحظة تنفلت من السيطرة، يحدث فيھا الإنتقال من الذات الى اللاذات من الفھم الى الإلتباس الخلاق.
التاجيل والانفصال: الكتابة تؤجل الحضوروتؤسس لبعد دائم من الانفصال بين الذات والمعنى، بل نص أدبي ھو وعد بلاوفاء وتأجيل بلانھاية ولھذا ھو دائم التمرد والاحتمال.
الكاتب كمنسحب :يصور بلانشو الكاتب ككائن منسحب من العالم ومن ذاته ومن نصه. فليس الكاتب ھو من يوقع بإسمه بل آخر يتكلم في النص إنھا أنا مجھولة.
يتحدث الفيلسوف عن الشاعر ملارميه بوصفه بلغ اقصى درجات إخفاء المعنى وعن كافكا الذي جعل الكتابة شبحا للوجود وعن رامبو وھودرلين كأمثلة عن الكتابة التي بلغت حد الجنون والرؤيا.
إن الكتابة والكارثة عمل بالغ الكثافة والغموض يواصل فيه بلانشو مشروعه في مساءلة ماھية الكتابة واللغة والوجود لكن في مواجھة الكارثة بوصفھا حضورا غير قابل للامساك.
بلانشو لايتحدث عن كارثة تاريخية معينة بل الكارثة نفسھا، عن ذاك الذي يحدث ويدمر دون أن يظھر بشكل واضح أويفھم.بلانشو يكتب كما لو أنه يتلمس الكلمات في لبس رمادي من المعنى”الكارثة تعني ألا تحدث الكارثة”، الكارثة ليست حدثا يروى بل ھي غياب الحدث،الذي يزعزع كل تصور،كل معنى،كل نظام.
الكتابة كاستجابة للكارثة:الكتابة ھنا ليست شھادة على الكارثة؛بل ھي أثرھا،رجعھا، الفراغ الذي يترك الكاتب يكتب لاليعيد الكارثة بل يقيم في صداھا داخل اللغة. الكتابة تتقطع، تتشظى، تصمت أحيانالأنھا تحاول أن تلامس ما لايمكن قوله.
الكارثة والذات: الذات كما اللغة تنھار أمام الكارثة، لاتعود الأنا واضحة بل مفككة.إن الأنا والأصل يفقدان السيطرة على اللغة. فالكتابة نقطة نھاية الذات المتمركزة حين تنفتح على الآخر وعلى الغياب.الكتابة لاتبنى كخطاب بل كأثرمتشظي، عبارات متفرقة،مقاطع قصيرة؛تساؤلات؛تكرارات إن صمت كتابة أقرب الى أطروحة شعرية منھا إلى نص فلسفي.
الشكل نفسه يصبح جزءا من المضمون، الكارثة تصبح كارثة الكتابة.تأمل في اللانھاية والغياب والتلاشي،إنھا بحث في حافة الوجود؛ حافة اللغة؛ حافة الصمت. يقترب موريس بلانشو من جاك دريدا في تصوره للكتابةوقد كتب عنه ھذا الأخير في نصوص عديدة ابرزھا “دخول بلانشو” و”الكتابة والاختلاف”، فاذا كان بلانشو يرى أن الكتابة عن مكان الغياب حين ينمحي التصور ويصبح الكائن مجردصوت، صدى صوت لايعرف مصدره،الكتابة ھي الدخول في اللامرئي اللاحاضر. دريدا يشتغل على مفھوم الاختلاف differanceالذي يفيد أن المعنى مؤجل في لاحضور نھائي، الكتابة عند دريدا مكان الغياب لأنھا تفضح إدعاء الحضور الذي يھيمن على الفلسفة الغربية، بلانشو يتعامل مع الغياب بوصفه تجربة وجودية وشعرية، أما دريدا فيفكك الغياب بوصفه بنية داخل النظام الشعري واللغوي.
الكارثةوالصدع: الكارثة لاتحكى لأنھا لاتحدث بمعنى الحدث بل تعاش كصدع صامت عنده وكأثر، إنھا تقويض للميتافيزيقا.
يمكننا القول أن الكتابة من منظور فلسفة الإختلاف ممارسة تقويضية، تنفتح على التعدد وتنسف من الداخل كل أشكال التماثل والثبات وھي لاتكتب الحقيقة بل تخلخل المعنىالذي ينزاح عن المركزوالھوية والأصل.
لقد كان الحوار بين موريس بلانشو وجاك دريدا عميقا يقيم داخل اللغة؛ دريدا يصيغ مفھوم بلانشو للكتابة يحاوره داخل فلسفة الإختلاف.
يقول بلانشو”لم تعد الكتابة تلك الضرورة التي لايمكن تجنبھا خادمة الكلام او مايسمى الفكر المثالي، فالكتابة تبدو مكرسة نفسھا فقط ، تظل دون ھوية، تثير تدريجيا إمكانات أخرى تماما عبر تحرير قوتھا الأصليةتحريرا متأنيا، ھذه الكتابة ضرب مبھم من الوجود والعلاقة، خاو مؤجل، مبعثر وبذلك تضع كل شيء موضع مساءلة”. الكتابة كضرورة عند موريس بلانشو تشير الى فھم عميق للكتابة بوصفھا فعلا وجوديا لا مجرد وسيلة تعبير أوأداة لنقل المعنى، فالكتابة ليست خيارا بل ضرورة وجودية تمارس في مواجھة العدم،الصمت ؛ الموت الكتابة نداء لايمكن تجاھله، الكاتب لايكتب لأنه يريد بل لانه لايستطيع إلا أن يكتب ھذا الموقف يحمل الكتابة طابعا مأساويا أحيانا إذ تصبح الكتابة مقامرة بالذات وصولا إلى منطقة الصمت في الكلمات حين تنبع من العدم وتعود اليه.
ھناك تاكيد في الفلسفة المثالية على مركزية الذات،العقل والوعي بوصفھم أصلا للمعرفة أما بلانشو فيرى أن الذات الكاتبة تتلاشى في لحظة الكتابة، ليس ھناك كاتب يمسك بالنص بل الكاتب نفسه يضيع في النص، ليست ھناك حقيقة مطلقة أو وحدة شاملة بل ھناك تعدد وغموض واللااكتمال لذلك نجد عنده نقدا ضمنيا للمثالية التي تفترض إكتمال المعنى أو الوحدة الكونية.
يقف بلانشو ضد الفيلسوف ھيغل على مستوى عميق.إنه يفكك الجوھر الذي يقوم عليه الفكر الھيغلي.
الحضور،الكلية،العقل، المصالحة النھائية. بلانشو لايكتب فلسفة مضادة لھيغل لكنه ينتج كتابة مضادة للھيغلية في شكلھا الميتافيزيقيضد الجدل والمصالحة: ھيغل يؤمن بأن كل تناقض يفضي إلى مصالحة في النھاية ضمن حركة جدلية تؤدي الى المطلق أي أن التاريخ والعقل يسيران نحو غاية. بلانشو يرفض ھذا التصور الھيغلي”لامصالحة، لاغاية بل تكرار وتأجيل ولانھاية الكتابة لاتتم شيئا بل تتركه مفتوحا “.
اللغة لاتطابق الفكر: يرى ھيغل أن اللغة تعبرعن الفكر وتصبح أداة لتحقيق الوعي بالذات أما عند بلانشو،فاللغة تنفصل عن الفكر والذات بل ھي قوة مستقلة، اللغة تتكلم والكاتب يمحى في فعل الكتابة، إن الذات لاتتحكم في القول بل تعيش فيه ضد مركزية الذات والعقل: ھيغل يعلي من شأن الذات المفكرة، الوعي، الروح المطلقة ، أما بلانشو فيفكك الذات ويحولھا إلىنسيج أوصدى،”الذات لحظة الكتابة تفقد تعينھا وتغرق في اللانهائي”.
ھذا التصور الجذري للكتابة يسائل أفكارا من قبيل الذات؛ الفاعل، الحقيقة، الوحدة وحدة الكتاب أو العمل، وھنا يحضر جاك دريدا في حوارعميق مع موريس بلانشو.
ھذا التعالق الفلسفي والمفاھيمي يجعل نص موريس بلانشو مفتوحا علىالنص الھيدغيري، فبلانشو يقدم قراءة جذرية تفكك المفاھيم الھيدغيرية وتعيد إنتاجھا ضمن منطق الغياب واللا مكان واللا حدث، فھيدغر يفكر في الوجود من داخل اللغة لانه لايزال يسعى لقول الحقيقةalethia بوصفھا إنكشافا أما بلانشو فيرى أن قول الحقيقة بالضرورة إخفاق للكتابة فالكتابة عنده تمرعبرمالايمكن قوله.
يعيد بلانشو قراءة ھيدغر عبر مايسميه تجربة الحدexpérience limite حين تقترب الكتابة من اللاشيء؛ من الليل، من الغياب الكامل ھذه ليست تجربة الموت كما في الوجود من أجل الموت عند ھيدغر بل ھي تجربة لاموت مستمرة لاتحدث أبدا لاتكتمل أبدا. ھيدغر يتحدث عن الوجود الأصيل الذي يواجه موته الخاص أما بلانشو فيقوض ھذا التصورعندما يرى أن الكتابة تقوض الذات وتدخلھا في تجربة غياب لايمكن تملكه.
الزمن عند ھيدغرمفتاح فھم الكينونة، أماعند موريس بلانشو فالزمن يعاد تفكيكه ضمن منطق التأجيل المستمر حيث لايوجد الآن حقيقي بل أثر متلاش للزمن كما في الكتابة لاتبلغ موضوعھا أبدا. يذھب بلانشومع ھيدغر إلى أقصى مدى، ثم ينفصل عنه في صمت؛ ھايدغر يصل إلى اللغة كليل دائم لاتنطق فيه.
يمكننا القول أن بلانشو يستعيد قراءة ھيدغرلاليصححه بل ليكشف مالايستطيع ھيدغر قوله.
إن سؤال الكتابة سؤال مؤرق عند بلانشو، دريدا، ھيدغر، نيتشه وباتاي.إنه دخول في صلب إشكال فلسفي ھو أحد أھم الإشكالات في الفلسفة المعاصرة فما الذي تعنيه الكتابة؟ أھي حضور أم غياب؟ كشف أم ھدم؟ صوت الذات أم أثر صمتھا؟
الھوامش :
- Espaces littéraires : texte fondamental sur ce que signifie écrire sur l’attente, l’absence et la mort.
- Le livre à venir
- L’entretien infini
إرسال التعليق