في نقض نقض الترادف

آخر الأخبار

في نقض نقض الترادف

رصد المغرب/الدكتور ادريس الكنبوري 

يروي محمد شحرور في المقدمة قصته مع الكتاب فيقول بأنه التقى في عام 1980 بالدكتور جعفر دك الباب، الذي كان قد حصل على الدكتوراه في اللسانيات من جامعة موسكو، بينما كان شحرور نفسه يدرس الهندسة المدنية بنفس المدينة. وخلال الحديث بينهما لاحظ دك الباب اهتمام شحرور”بأمور اللغة والفلسفة وفهم القرآن”، فأطلعه على “منطلق أطروحته” التي خصصها لنظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني، ثم يعلق قائلا:”فعند ذلك الوقت أدركت أن الألفاظ خدم المعاني، وأن اللسان العربي لسان لا يوجد فيه ترادف، وأن المترادفات ليست أكثر من خدعة، وأن البنية النحوية يرتبط بها خبر بلاغي بالضرورة”[1].

هذا هو المنطلق الذي انطلق منه شحرور في كتابه الأول ثم في كتبه اللاحقة، أي نفي الترادف في القرآن الكريم، وبالتالي في اللغة العربية. بيد أن الملاحظ أن الرجل انطلق منذ البداية من فكرة وجود “مؤامرة” عند اللغويين والنحاة، عندما قال إن الترادف ليس أكثر من “خدعة”. وربما كان هذا طبيعيا بالنسبة لشحرور الذي كان متأثرا بالفكر الماركسي خلال مدة دراسته في الاتحاد السوفياتي، وبفكرة أن للسلطة دورا في كل شيء طوال التاريخ، بما في ذلك التفسير والفقه، لأن هذه كلها تندرج ضمن خانة الإيديولوجيا التي هي بدورها مجرد انعكاس للبنية التحتية التي هي الواقع الاجتماعي والشروط الاقتصادية الموضوعية. يتضح ذلك من هجومه على جميع التفاسير والمفسرين في التاريخ العربي ـ الإسلامي، وهذا ما أشار إليه بقوله:”وانتهيت إلى هذه النقطة الخطيرة (!) والقاتلة للبحث العلمي الجاد، وهي أنه لا يمكن لإنسان أن يقفز قفزة أساسية نوعية في المعرفة والبحث إلا إذا اخترق المدارس الموروثة وخرج عنها، وحرر نفسه من إطار هذه المدارس”![2]. غير أن النظر الممحص يكشف لنا بأن المؤلف لم يستوعب أيا من المدارس السابقة التي يتحدث عنها، بل يتبنى منهجا ترقيعيا انطباعيا ويريد الانطلاق من الصفر، كل ما معه من العلوم والمعارف أن الترادف غير موجود في القرآن وأن البنية النحوية “يرتبط بها خبر بلاغي بالضرورة”!.

وقبل التوقف عند مسألة الترادف نشير إلى أن تعبير”خبر بلاغي” ليس له أي معنى على الإطلاق، ولعله أراد القول”خبر تبليغي” أو إبلاغي، من الإبلاغ، أما الجمع بين الخبر والبلاغة فهو خارج السياق. وهذا ما يدل على أن المؤلف لم يكلف نفسه عناء البحث في كتب اللغة بل اكتفى بقاموس ابن فارس ونسخة من القرآن وجعل يؤلف من دماغه. وهو إن كان قد أشار إلى الجرجاني فإن الجرجاني يتحدث عن علاقة النحو بالمعنى، حيث أفرد فصلا تحت عنوان”عدم تعلق الفكر بمعاني الكلم مجردة من معاني النحو” في كتابه”دلائل الإعجاز”، وليس بـ”الخبر البلاغي”. وفكرة الجرجاني هذه ترتبط بنظريته الشهيرة حول النظم، والتي يرى فيها أن الكلمة الواحدة ليست لها قيمة أو “شرف” في ذاتها، بل تأخذ قيمتها من السياق الذي توضع فيه[3].

أما قضية الترادف اللغوي فقد أثارت منذ القديم جدلا بين اللغويين والمفسرين، ومرجع الخلاف بينهم يعود إلى أمرين أساسيين: الأمر الأول أن المدافعين عن الترادف كانوا ينطلقون من الدفاع عن اللغة العربية باعتبارها أشرف اللغات لأنها لغة القرآن الكريم، فرأوا في الترادف دلالة على الثراء والغنى اللذين تتميز بهما العربية مقابل اللغات الأخرى، لأن الترادف معناه كثرة الكلمات والمفردات وتنوع الدلالات، فكان بعض علماء العربية يتباهى بأنه جمع للأسد مثلا مائة إسم، وللسيف ألفا، وهكذا، ويُنسب إلى الفيروزأبادي، وهو لغوي معروف، كتاب تحت عنوان “الروض المسلوف فيما له إسمان إلى ألوف”.

أما الأمر الثاني فهو أن الرافضين للترادف كانوا ينطلقون من الدفاع عن الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، لا عن العربية كما فعل الفريق الأول، حيث انطلقوا من أن الإعجاز معناه أن كل كلمة في القرآن تعني شيئا في حد ذاته ولا تعني شيئا آخر، إذ كلما تم تعويضها بمرادف لها كلما تغير المعنى.

ونحن لو دققنا النظر لوجدنا أن ما من مسألة، في اللغة أو في غير اللغة، إلا ودار حولها الجدل والنقاش بين الرافضين والمؤيدين في الثقافة العربية ـ الإسلامية، ولكن الذي ينتصر دائما هو الموقف الوسط الذي يقف في صف الاعتدال ويرفض التحجر. وقد كان هناك موقف وسط في قضية الترادف هو الأقرب إلى الصواب وإلى الحقيقة التاريخية، فقال أصحاب هذا الرأي إن الترادف يمكن أن يكون ممنوعا داخل اللغة الواحدة لكنه جائز بين لغتين، كما ذكر السيوطي في”المزهر”، وذهب بعضهم إلى أن الترادف في العربية قليل، وما يبدو مترادفا هو مجرد قرب في المعنى لا مطابقة تامة، ولذلك قال الزركشي:”فعلى المفسر مراعاة الاستعمالات، والقطع بعدم الترادف ما أمكن، فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد”. واستدل اللغويون عللا وجود الترادف في القرآن بآيات كثيرة منها قوله تعالى:”وأقسموا بالله جهد أيمانهم”(الأنعام: 109)، وقوله تعالى”يحلفون بالله ما قالوا”(التوبة: 74)، حيث وقع ترادف بين القسم والحلف؛ وكذلك قوله تعالى”وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا”(الإسراء: 15)، وقوله تعالى أيضا”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”(الأنبياء: 107)، حيث حصل ترادف بين البعث والإرسال [4].

 

يقول العلامة التونسي الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في مسألة ورود الترادف في اللغة العربية أم لا:”هذا مختلَفٌ فيه بين أئمة العربية اختلافا غريبا منشؤه اختلاف وجه أنظارهم في عدّه لمزاً للغة وعدم عدّه إياه، وذلك أنه لا خلاف في أن المقصد من اللغة الإبانة عن المراد، فوضع الأسماء للمسميات طريقٌ للإبانة، فإذا وُضع للمسمى اسم حصلت فائدة الإبانة، فيكون وضع اسم ثان فصاعدا لذلك المسمى زيادة على اللازم للإبانة، فمن هنا سلكوا مسلكين: 1ـ فمن رأى تلك الزيادة فضولا وعبثا، جزم بوجوب تنزيه اللغة العربية عن اللفظ المترادف، لأنه لا يتناسب وما عرفت به اللغة العربية من إتقان الوضع. 2 ـ ومن رأى تلك الزيادة غير خالية عن فائدة، جزم بوقوع الترادف.

وقد اتفق الفريقان على أننا نجد في الكلام المستعمل ما يلوح منه ببادئ الرأي أنه مترادف، وإنما اختلفوا في الأخذ بما يلوح بادئ الرأي حتى نجزم بوقوع المترادف، أو في لزوم التفرقة بين الألفاظ التي يلوح ترادفها حتى نتعمق في البحث عن التفرقة بينها”[5].

وممن قال بانعدام الترادف في اللغة العربية ابن الأعرابي وأحمد بن يحيى ثعلب وأحمد بن فارس، والأخير هو الذي اعتمد عليه شحرور في نفي القول بالترادف.

ثم يقول الشيخ ابن عاشور في تفسير موقف هؤلاء:”وعندي أن الذي جر المنكرين إلى إنكاره ـ أي الترادف ـ أمران: أحدهما أنهم خالوا المترادف منافيا لحكمة الواضع، لأنه تحصيل حاصل. والثاني ما وجدوه في مترادفات كثيرة مشتقة مع الاختلاف في مواد اشتقاقها اختلافا يؤذن باختلاف مدلولاتها، مثل الصارم، والفيصل، والحسام، المشتقة من الصِّرم والفصل والحسم. وهذا الثاني هو الذي يرمي إليه كلام أبي علي الفارسي في مناظرته مع ابن خالويه”[6].

بعد ذلك يرد الشيخ ابن عاشور على هؤلاء المنكرين، معتبرا أن الترادف مزية في اللغة العربية لا منقصة، فيقول:”وكشْفُ شبهتهم أن نقول: أما منافاته للحكمة فممنوعة، لأن حكمة وضع اللغة المتسعة ليست منحصرة في الإبانة، بل له حكمة أخرى وهي قصد التوسع في الكلام، كما قال قُطرُب، وإيجاد مادة لأدب تلك اللغة. وإن منكري الترادف لما قصروا نظرهم على التوجه نحو حكمة الوضع من جهة حصول الإبانة فقط قد غبنوا العربية حقها من الشرف، إذ نزّلوها بمنزلة اللغات الساذجة التي قُصاراها الدلالة على بسيط المعاني الجائشة بالنفس. وليس كذلك معظم همّ اللغات الكبرى، فإنها يُقصد منها أن تكون صالحة لأن يتملك المتكلم بها مشاعر السامع في حال الشعر والخطابة والمراسلة والمِلح. وإن العربية سيدة اللغات، فوجب أن يكون لها من الثروة ووسائل الوفاء بآثار تفكير أهلها، وبمقتضيات أحوال الفصاحة والبلاغة في تلك المقامات، أعظم حظ وأوفرُه”[7].

وقد أفرد ابن جني في كتابه “الخصائص” بابا جعل له عنوانا “باب في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني” قال فيه:”هذا فصل من العربية حسن، كثير المنفعة، قوي الدلالة على شرف هذه اللغة، وذلك أن تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة، فتبحث عن أصل كل اسم منها، فتجده مفضي المعنى إلى معنى صاحبه”[8].

ومن أجمل الأمثلة التي تبين وجود الترادف في اللغة العربية، وتكشف لنا أن الترادف من علامات اتساع اللغة، ما رواه الجاحظ في “البيان والتبيين” عن مؤسس فرقة المعتزلة واصل بن عطاء، أبي حذيفة، الذي كان ألثغ “فاحش اللثغ” كما يصفه. فقد روى الجاحظ أن واصلا كان يسقط الراء من كلامه، أي لا ينطق بكلمة فيها حرف الراء، لكي لا يظهر عليه اللثغ، فكان يعبر عن كل ما يريد ويستعمل جميع ألفاظ اللغة في كلامه وخطبه، إلا اللفظ الذي فيه حرف راء، حيث يضع بدلا عنه لفظا آخر يفي بنفس الغرض؛ وهذا بالطبع غير ممكن إن لم يكن هناك ترادف في اللغة يسمح بتلك الإمكانية. وقد روى الجاحظ أن الشاعر الضرير بشار بن برد هجا واصلا هجاء مقذعا، وعيّرته باللثغة التي في لسانه، فقال واصل غاضبا:”أما لهذا الأعمى الملحد المُشنّف المكنّى بأبي معاذ من يقتله؟ أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية، لبعثت إليه من يبعَج بطنه على مضجعه، ويقتله في جوف منزله وفي يوم حفله، ثم كان لا يتولى ذلك منه إلا عقيلي أو سدوسي.

قال إسماعيل بن محمد الأنصاري، وعبد الكريم بن روح الغفاري: قال أبو حفص عمر بن أبي عثمان الشمري: ألا تريان كيف تجنب الراء في كلامه هذا وأنتما للذي تريان من سلامته وقلة ظهور التكلف فيه لا تظنان به التكلف، مع امتناعه من حرف كثير الدوران في الكلام. ألا تريان أنه حين لم يستطع أن يقول بشار، وابن برد، والمرعّث، جعل المشنّف بدلا من المرعّث، والملحد بدلا من الكافر، وقال: لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية، ولم يذكر المنصورية ولا المغيرية، لمكان الراء، وقال: لبعثت إليه من يبعج بطنه، ولم يقل: لأرسلت إليه، وقال: على مضجعه، ولم يقل: على فراشه”[9].

فنحن نلاحظ في هذا المثال الذي عرضه الجاحظ أن زعيم المعتزلة عبر عن كل ما يريد دون أن يستعمل أي لفظة فيها حرف الراء، بما في ذلك اسم الشاعر بشار بن برد، الذي يشتمل على حرفي الراء، لكنه عبر عما يفهم منه السامع المقصود من كلامه دون تقصير.

 

 ـ ص 47.[1]

 ـ ص 46.[2]

 ـ  عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز. تحقيق: محمود محمد شاكر.القاهرة، مكتبة الخانجي.[3]

طبعة 2000. ص ص 45-46.

 ـ الدكتور صبحي الصالح: دراسات في فقه العربية. بيروت، دار العلم للملايين، طبعة 2009. ص ص 295 ـ 296.[4]

 ـ جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور. جمع وتوثيق: محمد الطاهر الميساوي. الأردن،[5]

دار النفائس. الطبعة الأولى، 2015. المجلد الثالث، ص ص 1088-1089.

 ـ نفس المرجع. ص 1096.[6]

 ـ نفسه. ص ص 1096-1097.[7]

 ـ ابن جني: الخصائص. تحقيق: محمد علي النجار. القاهرة، المكتبة العلمية. الجزء الأول. ص ص 113-133.  [8]

 ـ الجاحظ: البيان والتبيين. تحقيق: الشيخ مصطفى أبو المعاطي. القاهرة، دار الغد الجديد، 2017. المجلد الثاني.[9]

الجزء الثالث. ص ص 15-16.

 

إرسال التعليق