قمة الناتو في لاهاي هي ولادة “جزية العصر الحديث” وتنامي ملامح التمرد الأوروبي

آخر الأخبار

قمة الناتو في لاهاي هي ولادة “جزية العصر الحديث” وتنامي ملامح التمرد الأوروبي

رصدالمغرب / عبدالكبير بلفساحي


شهدت مدينة لاهاي الهولندية خلال اليومين الماضيين انعقاد مؤتمر الناتو السنوي، وسط حضور دولي مكثف وظروف سياسية متغيرة، بحيث رغم أن الاجتماعات طرحت إعلاميا على أنها خطوة لتعزيز التضامن الدفاعي بين الأعضاء، إلا أن ما دار خلف الأبواب المغلقة، بحسب تسريبات وتحليلات لاحقة، يكشف عن مشهد مختلف تماما، وهو إعادة رسم خريطة الهيمنة الأمريكية داخل الحلف، من خلال فرض ما يمكن وصفه بـ”جزية استراتيجية” جديدة على الدول الأعضاء، فهل تحول الناتو إلى منصة اقتصادية أمريكية؟

وفي سابقة تاريخية، تم الاتفاق _بدفع مباشر من إدارة ترامب_ على أن يقدم كل عضو في الحلف ما يعادل 5% من ناتجه المحلي الإجمالي سنويا، موزعة على الشكل التالي:

1.5% كتمويل مباشر للبنية العملياتية للناتو بقيادة أمريكية.

3.5% تخصص لعقود تسليح وصناعة دفاعية أمريكية.

وبهذا الشكل، باتت الدول الأوروبية، إلى جانب تركيا وكندا واليابان، أمام التزام مالي ضخم أشبه بنظام “الجزية المقنعة”، يقدم من دول ذات سيادة إلى قوة مركزية واحدة هي الولايات المتحدة، وسط ردود متباينة .

ولم تمر هذه القرارات دون توتر، حيث أعلنت بلجيكا عجزها عن الوفاء بهذه النسبة دون التورط في ديون سيادية إضافية، في حين رفضت إسبانيا تجاوز نسبة 2% السابقة، وهو ما دفع واشنطن — عبر تهديد مباشر من الرئيس ترامب — إلى التلويح بإجراءات جمركية عقابية، وحظر توريد السلاح الأمريكي.

وتحت هذا الضغط، رضخت معظم الدول، ووافقت على النسب الجديدة، رغم إدراكها للعبء الاقتصادي الخطير الذي ستواجهه خلال السنوات المقبلة، والأرقام تعكس عمق الأزمة.

ولفهم مدى ضخامة الالتزام الجديد، تكفي الإشارة إلى الأرقام التالية:

ألمانيا: ناتجها المحلي 4.92 تريليون دولار، مما يعني جزية سنوية تقارب 246 مليار دولار.

اليابان: 4.204 تريليون دولار، جزيتها تقارب 210.2 مليار دولار.

تركيا: 760 مليار دولار، ما يفرض عليها دفع 38 مليار دولار سنويًا.

بل هذه المبالغ لا تمثل مجرد مساهمات دفاعية، بل استنزافا اقتصاديا طويل الأمد، يعيد تشكيل علاقة الأعضاء بواشنطن، ليس على أساس التحالف المتكافئ، بل على قاعدة الولاء الاقتصادي المفروض.

ويرى مراقبون أن هذا التطور ليس إلا بداية لمرحلة جديدة في العلاقات الدولية، يمكن وصفها بـ”عصر التمرد البارد”، وهي مرحلة تختلف جذريا عن مراحل سابقة، مثل مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وهي فترة استسلام كامل للنموذج الأمريكي، وهناك ما بعد 2003 (غزو العراق) حيث كان انقياد أوروبي ضمني رغم التململ، ومنذ عودة ترامب 2025، انطلقت بداية انكشاف الهيمنة وظهور إرهاصات التمرد.

وقد بدأت بعض العواصم بالفعل في التعبير عن رفضها لهذه السياسات، بحيث موسكو وبكين تمردتا منذ سنوات على الهيمنة الأمريكية، أما مدريد فقد أعلنت موقفها صراحة هذا الأسبوع، والبقية ستدفع مجبرة، في انتظار اللحظة المناسبة للتخلص من هذا العبء، فهل يصمد الناتو حتى 2026؟

ومن المقرر أن يعقد مؤتمر الناتو المقبل في إسطنبول عام 2026، لكن تطورات الأيام الأخيرة تلقي بظلال ثقيلة على هذا الاحتمال، إذ قد تدخل بعض الدول في مسارات منفصلة، أو على الأقل تبدأ في تقويض مكانة الناتو لصالح تحالفات أكثر استقلالية، في إشارة بإن الناتو يتحول إلى عبء.

وما جرى في لاهاي لا يمكن قراءته فقط ضمن سياق تعزيز الأمن الجماعي، بل يجب فهمه ضمن مشروع أمريكي أوسع لإعادة تثبيت سيادتها الاقتصادية والعسكرية على العالم، عبر الناتو كأداة، و لكن السؤال الذي يبقى هو هل تملك الدول الأوروبية والإقليمية قدرة على الاستمرار بدفع “الجزية الجديدة” دون أن تنفجر شعوبها؟.

إرسال التعليق