
“قيلش”، قصة فساد موظف جماعي من أسفي إلى أكادير
رصد المغرب / عبد الكبير بلفساحي
يبدو أن اسم “قيلش” لم يعد مجرد لقب عابر بين الألسن، بل تحول إلى عنوان بارز في ملفات الفساد الإداري والأخلاقي بالمغرب، فهذا الموظف الجماعي، الذي بدأت شهرته في مدينة أسفي، لم يكن سوى جزء من منظومة متشابكة من التلاعب والتجاوزات، سواء في موقعه الإداري أو في سلوكياته الشخصية.
ففي أسفي، عرف “قيلش” بسلوكياته المشبوهة، لاسيما تحرشه المتكرر بالطالبات، مما دفع بالجهات المعنية إلى التحفظ على الموضوع وتغليفه بصمت رسمي مريب، بدل إحالته إلى المساءلة القانونية، غير أن التستر لم يكن سوى تمهيد لانتقاله إلى مدينة أكادير، وهناك تتفجر فصول أخرى من الحكاية.
ففي أكادير، وتحديدا بجامعة ابن زهر، بدأ “قيلش” صفحة جديدة من فساده، دام فيها أكثر من 11 سنة، تخللتها عمليات تزوير لشواهد جامعية وعبث ممنهج في المساطر الإدارية، والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل أصبح “قيلش” وجها إعلاميا، يمتلك قناة على “يوتيوب”، حيث يظهر متحدثا عن القوانين والمساطر المغربية، في تناقض صارخ مع ممارساته خلف الكواليس.
لكن ما فجر القضية وأعادها إلى الواجهة، هو العثور على ما يفوق 8 مليارات سنتيم في الحسابات البنكية لزوجته، هذا الرقم يطرح أكثر من علامة استفهام، مثل كم عدد الشواهد الجامعية التي تم الاتجار بها؟ وكم عدد الزبائن الذين حصلوا على مناصب أو امتيازات بشهادات مزورة؟ والأهم هو هل هذه الثروة كلها جاءت من تزوير الشواهد فقط؟ أم أن هناك أنشطة فساد أخرى لا تزال طي الكتمان؟
السؤال الأكبر الذي يجب طرحه اليوم هو كم من “قيلش” لا يزال يمارس الفساد في صمت، تحت حماية منظومات بيروقراطية مغلقة؟ ومتى سيتم فتح ملفات كهذه بشفافية وجدية تليق بثقة المواطنين في مؤسساتهم؟
ففي سنة 2021، تفجرت قضية مثيرة للرأي العام تتعلق بموثق اعترف بأنه أنه حصل على شهادة الماستر من الأستاذ الجامعي “قيلش” مقابل مبلغ 25 مليون سنتيم، هذا الاعتراف لم يكن إلا بداية خيوط شبكة متشعبة الامتدادات، كشفت عن علاقات نافذة في مؤسسات الدولة، سهلت للأستاذ المعني بناء شبكة قوية مكنته من جمع ثروات هائلة في وقت وجيز.
التحقيقات الأمنية قادت إلى تتبع مصادر ثروة فاقت 8 مليار سنتيم، بالإضافة إلى التدقيق في علاقة زوجته – وهي محامية – بهذه الشبكة المفترضة للاتجار بالشهادات والتوظيفات، و رغم نفيها لأي صلة بالقضية، إلا أن ما أثار الانتباه هو تواجد مبالغ مالية ضخمة في حسابها البنكي، وممتلكات فاخرة سجلت باسمها أو باسم زوجها، والمتير هو أن هذه الثروة مثيرة للريبة.
ومن خلال مزاعم تذكر، بأن هذه الممتلكات، هي فيلا فاخرة في أحد أرقى أحياء مدينة أكادير تقدر قيمتها بعدة مليارات، وضيعة فلاحية في طريق تارودانت بقيمة تفوق 500 مليون سنتيم، بالإضافة إلى مقهى كبير في مدينة الدار البيضاء، قدر ثمنها بـ900 مليون سنتيم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل بيع الشهادات وحده كفيل بتكوين ثروة كهذه؟ هناك مصادر متعددة ترجح أن الأمر يتعدى ذلك، مرجحين وجود مسارات مالية وأنشطة أخرى ساعدت الأستاذ “قيلش” على تكوين هذه الثروة بهذه الشبكة مستعينا بغطاء العمل الحقوقي.
فالأستاذ “قيلش”، أستاذ القانون الخاص بكلية الحقوق في أكادير وقيادي في حزب الاتحاد الدستوري، كان يرأس جمعية تحت مسمى “المركز الوطني للمصاحبة القانونية وحقوق الإنسان”، وفق مصادر موثوقة، فقد استغل هذه الجمعية كواجهة لنشاطه، حيث كان يوهم المواطنين بقدرته على التدخل في القضايا المعروضة على القضاء مقابل مبالغ مالية، فيما يعرف بـ”السمسرة القضائية”.
كما كان ينظم ندوات ولقاءات أكاديمية تحت غطاء حقوقي، الشيء الذي مكنه من الحصول على دعم مالي من جهات مختلفة، واستغلال هذه الأنشطة لبناء علاقات وتوسيع شبكة نفوذه.
والقضية تعود إلى الواجهة بقوة بعد تدوينة لطالب سابق درس عند الأستاذ سنة 2018، فضح فيها ممارسات “قيلش”، من بينها التلاعب بالشهادات والتحرش بالطالبات، التدوينة أثارت غضب الأستاذ، الذي لجأ إلى القضاء، وحصل على حكم من المحكمة الابتدائية بأكادير يلزم الطالب بأداء غرامة قدرها 30 ألف درهم بتهمة السب والقذف، فضلا عن تعويض مادي لصالح الأستاذ بلغ مليون سنتيم، وأيضا أثارها الصحافي رشيد نيني في حدود سنة 2019 بنفس قيمة الثروة، لأنه في حدود سنة 2025 الله هو الذي يعلم كم أصبحث.
وقضية “قيلش” لا تزال مفتوحة على احتمالات كثيرة، خاصة وأن التحقيقات التي باشرتها الفرقة الوطنية أفضت إلى إحالة الملف على قاضي التحقيق لتعميق البحث في التهم المنسوبة إليه، وسط تكتم رسمي حول حجم الممتلكات وقيمتها الحقيقية حتى سنة 2025.
في غياب الشفافية والمساءلة، تبقى هذه القضية مثالا صارخا عن الفساد في المؤسسات الأكاديمية، وتطرح تساؤلات ملحة حول دور الرقابة داخل الجامعات ومؤسسات الدولة.
وفي مشهد يثير الكثير من التساؤلات، يظهر الأستاذ الجامعي المعروف بـ”قيلش” في مقطع فيديو موثق وهو يوقع على اتفاقية بمدينة الداخلة سنة 2023، تهدف إلى محاربة الفساد والرشوة، في حضور شخصيات رسمية، وهو ما أكده وزير العدل عبد اللطيف وهبي تحت قبة البرلمان قبل أيام فقط.
ولكن المفارقة المثيرة للجدل، أن هذا الأستاذ، الذي رفعت المحكمة حكما لصالحه في إحدى القضايا، يتهم – حسب مصادر متطابقة – بنفس التهم التي سبق لنفس الطالب أن تحدث عنها على حسابه الشخصي، في إشارة واضحة إلى شبكة فساد أكاديمي وإداري خطيرة.
“قيلش” لا يكتفي بالمشاركة في الاتفاقيات، بل يظهر كذلك في فيديوهات ينصب نفسه مقيما لأدوار النيابة العامة في حماية حقوق الإنسان، ومناصرا لمحاربة الفساد والرشوة، رغم أن اسمه بات يرتبط بقضية تزوير شواهد جامعية، وفق ما أفادت به تقارير إعلامية ومصادر قريبة من التحقيقات.
وتشير نفس المصادر إلى أن هناك مجموعة من الأشخاص المتابعين في حالة سراح في الملف ذاته، بينهم محامون، أبناء مسؤولين جامعيين، ومنتخبون محليون. الأخطر، حسب ما تم تداوله، أن هناك مسؤولين في مؤسسات حساسة، يشتبه في كونهم زبائن لدى “قيلش”، ويقال إنهم حصلوا على شواهد جامعية دون استحقاق.
ومن بين الظواهر المريبة التي تناقلتها بعض الأوساط، اختفاء صور مناقشات الدكتوراه من حسابات فيسبوكية لطالبات أشرف “قيلش” على أطروحاتهن، ما يفتح باب الشكوك حول ظروف هذه المناقشات وأسسها الأكاديمية.
تتوالى فصول قضية الأستاذ الجامعي “قيلش”، التي أصبحت من أبرز القضايا التي شغلت الرأي العام الأكاديمي والقضائي خلال السنوات الأخيرة، فحسب ما أوردته عدة مصادر إعلامية، تعود بدايات هذه القضية إلى مدينة آسفي، حيث تم طرده من المؤسسة الجامعية التي كان يعمل بها بعد شكايات متعددة من طرف طالبات وطلبة، تتعلق بتهم خطيرة من قبيل التحرش الجنسي، استغلال النفوذ، والسلطة، ورغم تقديم شكايات رسمية ضده لدى المصالح الأمنية، إلا أن الملف تم حفظه في ظروف وصفت بـ”الغامضة”.
في سنة 2013، التحق “قيلش” بكلية الحقوق بجامعة ابن زهر في أكادير، فحسب المصادر ذاتها، فقد تم استقباله بتكتم وتحفظ، وسط رفض غير معلن من بعض الأساتذة بسبب سوابقه التي كانت تسبقه، غير أن رئاسة الجامعة وافقت على تعيينه أستاذا في القانون الخاص، ليبدأ فصلا جديدا من مسيرته المهنية، والتي انتهت بالتحقيق معه من قبل الفرقة الوطنية للشرطة القضائية.
وتشير الوثائق المنشورة، ومنها تقرير لجريدة “العمق”، إلى أن “قيلش” تورط في قضايا تتعلق بتزوير شهادات الماستر لفائدة شخصيات نافذة، وتسهيل التسجيلات المشبوهة دون استيفاء الشروط العلمية المطلوبة، مقابل منافع مادية أو علاقات شخصية، فقد بلغت ممارساته حد تأسيس ماستر متخصص في “المنظومة الجنائية والحكامة الأمنية”، والذي شكل – حسب نفس المصادر – بوابة ذهبية لتسهيل منح الشهادات والتسجيلات بشكل غير قانوني.
ولا تقف الاتهامات عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل تسجيلات في سلك الدكتوراه تمت دون إجراء مباريات أو احترام المعايير الأكاديمية، تحت شعار “كن صديقا لـ’قيلش’ أو ادفع له المال”، كما وردت إشارات إلى تبادل “الخدمات الأكاديمية” بينه وبين بعض الأساتذة داخل وخارج الجامعة، في نمط يوصف بأنه يشبه شبكات الزبونية والمحسوبية.
والتحقيقات، التي انطلقت حسب ما يذكر منذ سنة 2019 واستمرت حتى 2025، كشفت خيوط شبكة واسعة، تضم مقربين من “قيلش” يعتقد أنهم لعبوا دورا في تسهيل هذه الممارسات، مما استدعى تدخل الفرقة الوطنية للاستماع إليهم وفتح تحقيقات معمقة، وتؤكد ذات المصادر أن النقطة التي فجرت القضية كانت صراعات حول مناصب داخل المؤسسة الجامعية.
إن قضية “قيلش” أعادت النقاش حول واقع الحكامة في المؤسسات الجامعية، بذلك أثارت أسئلة حارقة حول آليات الرقابة والمحاسبة، ومدى تغلغل الفساد في فضاءات يفترض أن تكون محرابا للعلم والنزاهة.
إرسال التعليق