آخر الأخبار

محاولة الربط بين أهل الصُّفَّة والصوفية: دراسة نقدية في ضوء الدليل التاريخي والمنهجي

محاولة الربط بين أهل الصُّفَّة والصوفية: دراسة نقدية في ضوء الدليل التاريخي والمنهجي

رصد المغرب/ بقلم: نعيم بوسلهام/ صحفي وباحث 

ملخص:
يحاول بعض الاتجاهات الصوفية في المغرب إضفاء شرعية تاريخية وروحية على منظومتها العقدية والسلوكية عبر وصل جذورها بـ”أهل الصُّفَّة” الذين عُرفوا في صدر الإسلام بالزهد والفقر الاختياري وملازمة المسجد النبوي. غير أنّ هذا الربط يفتقر إلى الأساس العلمي والمنهجي، إذ تُظهر الدراسة التاريخية الدقيقة اختلافًا بنيويًا بين الظاهرتين من حيث النشأة، والوظيفة، والبنية التنظيمية، والتصور العقدي، ومسارات التطور. يهدف هذا المقال إلى تفكيك هذا الربط عبر مقاربة نقدية تحليلية تعتمد منهج التحقيق التاريخي والقراءات السوسيولوجية للظواهر الدينية. وتخلص الدراسة إلى أنّ أهل الصُّفَّة ظاهرة اجتماعية ظرفية محكومة بسياق النبوة، بينما الصوفية منظومة فكرية وروحية تطورت عبر قرون واكتسبت سمات مؤسسية وتعاليم نظرية لم تكن موجودة في القرن الأول الهجري.
مقدمة
تقدّم الدراسات التراثية المعاصرة في المغرب محاولات متعددة لردّ جذور التصوف إلى العهد النبوي، خصوصًا من خلال استدعاء نموذج أهل الصُّفَّة باعتبارهم “النواة الأولى” للصوفية. ويُراد من هذا الربط إضفاء شرعية دينية أصيلة على التجربة الصوفية التاريخية في بعدها السلوكي، والنظري، والتنظيمي. غير أنّ مراجعة هذا الربط من منظور أكاديمي يقتضي ضبط المصطلحات، والتفريق بين الظواهر الدينية التكوينية في صدر الإسلام، وبين الظواهر الدينية البعدية التي تطورت عبر تراكمات فكرية وتأويلية لاحقة.
يهدف هذا المقال إلى فحص مدى صحة هذه الأطروحة عبر دراسة نقدية منهجية تستند إلى المصادر التاريخية الأولى وإلى الأبحاث الأكاديمية الحديثة في تاريخ التصوف وبداياته.
المنهجية
تعتمد هذه الدراسة على منهجين متكاملين:
المنهج التاريخي التحقيقي: عبر العودة إلى المصادر الأولى لمرحلة النبوة، مثل الصحيحين وكتب المغازي والسير، وإلى أقدم النصوص التي تحدثت عن ظهور الزهد والتصوف في القرون الهجرية الثلاثة الأولى.
المنهج السوسيولوجي التحليلي: لدراسة التحولات البنيوية للظاهرة الصوفية وكيفية انتقالها من الزهد الفردي إلى الطرق والتنظيمات الروحية في القرنين 5–7 هـ، وما رافق ذلك من بناء رمزي يروم إسناد الشرعية.
أولًا: الإطار المفاهيمي – من هم أهل الصُّفَّة؟ ومن هم الصوفية؟
1. أهل الصُّفَّة:
هم جماعة من فقراء المهاجرين لم تكن لهم دور أو عائلات في المدينة.
عاشوا في موضعٍ في مؤخرة المسجد النبوي يُسمّى “الصفة”.
وظيفتهم كانت اجتماعية – عقدية مرتبطة بالسياق النبوي: التعلم، ملازمة الرسول ﷺ، واستقبال الوافدين الجدد.

لم يكن لهم منهج روحي مستقل، ولا أوراد خاصة، ولا شيخ يلقّنهم، ولا تنظيم بنيوي
2. الصوفية:
ظهرت ملامحها الأولى في القرن الثالث الهجري ضمن أدبيات الزهد والعبادة والانقطاع.
تطورت إلى منظومة روحية – فلسفية مع القشيري، الهروي، السهروردي، ابن عربي
تحولت لاحقًا إلى طرق ذات هياكل تنظيمية وأسانيد وطقوس وأوراد مثل القادرية والشاذلية والتيجانية.
تتضمن مفاهيم لم تكن معروفة زمن الصحابة مثل:
الحال، المقام، الفناء، البقاء، الكشف، الولاية الخاصّة، الشيخ المربّي، الإجازة الروحية…
ثانيًا: نقد أطروحة الربط بين أهل الصفة والصوفية
1. اختلاف السياق التاريخي:
أهل الصُّفَّة ظاهرة نبوية زمنية ظهرت بسبب الظروف الاجتماعية للمهاجرين.
بينما الصوفية ظهرت بعد قرنين أو ثلاثة من وفاة النبي ﷺ.
غياب أي نص نبوي أو أثري يربط الصوفية بأهل الصفة أو يعتبرهم أصلًا من أصول التصوف.
2. الاختلاف البنيوي والتنظيمي:
أهل الصفة لم يكونوا طريقة، ولا جماعة ذات طقوس، ولا تنظيم روحي.
الصوفية اعتمدت على وجود شيخ–مريد، وطقوس للأوراد والخلوات، وسلاسل روحية، وهو ما لا يوجد له أثر في عصر النبوة.
3. الاختلاف العقدي والسلوكي:
أهل الصفة مارسوا الزهد الطبيعي الناتج عن الفقر وظروف الهجرة.
أما الصوفية فتمارس الزهد المنهجي المصحوب بتصورات فلسفية وروحية كالفناء ووحدة الوجود عند بعضهم.
كتب السلوك الصوفي مثل «اللمع» للطوسي و«الرسالة» للقشيري تقرّ بوجود تطور في التصوف لم يكن موجودًا في القرون الأولى.
4. غياب الشواهد النصية
لا توجد أي رواية تفيد أن النبي ﷺ أو الصحابة سمّوا أهل الصفة “صوفية”.
كلمة “صوفي” نفسها لم تظهر إلا في القرن الثاني أو الثالث الهجري، كما يؤكد ابن تيمية والذهبي والمحاسبي.
5. شهادات العلماء:
ابن تيمية: “أهل الصفة لم يكونوا منتسبين إلى طريق مخصوص، ولا انفردوا بوصف زائد على وصف سائر الصحابة” (الفتاوى).
الذهبي: “التصوف لم يكن مشهورًا في زمن الصحابة والتابعين، إنما حدث بعدهم”.
عبدالحليم محمود (شيخ الأزهر): “الربط بين أهل الصفة والتصوف ربط معنوي لا تاريخي”.
جوزيف فان إس، ماسينيون، هلموت ريتر: كل المراجع الغربية التي درست بدايات الزهد الإسلامي تقر بأن الظاهرة الصوفية لاحقةٌ لعصر النبوة.
ثالثًا: الدوافع السوسيولوجية لصناعة هذا الربط في المغرب
1. الحاجة إلى شرعية دينية تاريخية
الطرق الصوفية في المغرب – بخاصة الشاذلية والجزولية والتيجانية – تميل إلى تقديم نفسها امتدادًا لروح النبوة والصحابة لتأمين شرعية رمزية قوية.
2. توظيف سياسي – هوياتي
الدولة المغربية منذ العصر السعدي والعلوي دعمت التصوف لاعتبارات سياسية ووظيفية، مما دفع إلى صناعة سرديات تربط الطرق الصوفية بالجذور الأولى للإسلام.
3. النزعة الدعوية
الدوائر الصوفية المعاصرة تحاول تقديم التصوف كـ”الإسلام الروحي” في مقابل الإسلام الحركي والسلفي، وهو ما يعزز البحث عن مرجعية نبوية مباشرة.
رابعًا: التحليل العلمي – لماذا يستحيل الربط بين الظاهرتين؟
الاختلاف الأنطولوجي:
– أهل الصفة كيان اجتماعي.
– الصوفية ظاهرة روحية نظرية.
الاختلاف الزمني–التحولي:
– الصوفية نتاج تراكمات فلسفية تأثر فيها المسلمون بالمسيحية الشرقية والأفلاطونية الحديثة والزهد النسكي.
الاختلاف المقاصدي:
– الصحابة لم يكونوا معنيين ببناء “منهج روحي”.
– بينما الهدف الصوفي بناء مسار سلوكي متعدد المقامات.
هيمنة الصنعة التأويلية:
– محاولات الربط تعتمد انتقاءات رمزية لا تحققًا تاريخيًا.
– غياب الدليل الإسنادي والوثائقي يجعلها مصنّفة ضمن القراءات التبريرية وليس البحث العلمي.
خاتمة
يثبت البحث التاريخي أن الربط بين أهل الصفة والصوفية دعوى غير مؤسسة علميًا، وأنها تقوم على التأويل الرمزي أكثر من الاستناد إلى مصادر تاريخية موثوقة. فالفرق بين الظاهرتين جوهري من حيث السياق والنشأة والوظيفة والبنية. ومن ثمّ، فإن اختلاق نسب تاريخي للصوفية عبر أهل الصفة يُعدّ من قبيل إعادة بناء الماضي لخدمة حاجيات الحاضر، وهي ممارسة شائعة في التقاليد الدينية لكن يجب مواجهتها بالتحقيق العلمي الصارم. ومهما كان دور التصوف في التاريخ الديني المغربي، فإن شرعيته لا تحتاج إلى وصل مصطنع بأهل الصفة، بل يمكن أن تُدرس ضمن تطورها المعرفي والروحي بعد القرن الثالث الهجري.
قائمة المصادر والمراجع
أولًا: المصادر التراثية
ابن كثير، البداية والنهاية.
ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة.
ابن تيمية، مجموع الفتاوى.
القشيري، الرسالة القشيرية.
أبو نصر السراج الطوسي، اللمع في التصوف.
الذهبي، سير أعلام النبلاء.
الطبري، تاريخ الطبري.
ابن سعد، الطبقات الكبرى.
ثانيًا: المراجع الأكاديمية الحديثة
عبدالحليم محمود، قضية التصوف: المدرسة الشاذلية.
أبو الوفا الغنيمي، نشأة التصوف الإسلامي.
أحمد أمين، فجر الإسلام، ضحى الإسلام.
Reynold A. Nicholson, The Mystics of Islam.
Louis Massignon, Essais sur le mysticisme musulman.
Helmut Ritter, The Ocean of the Soul.
Annemarie Schimmel, Mystical Dimensions of Islam.
Trimingham, J. S., The Sufi Orders in Islam.

إرسال التعليق