
مسائل حديثية
رصد المغرب / الدكتور عبد الله الجباري
للإشارة:(هذه تدوينة على حائط الدكتور الجباري)
ما زال الكتبة يقْدمون على الحديث عن صحيح البخاري ورجاله، ومنهم من يتكلم بعلم، ومنهم من يقتحم العقبة بدون زاد، مع العلم أن العقبة كؤود.
ومن المقْدمين على الحديث عن صحيح البخاري ورجاله أخونا عداب الحمش السوري.
وعداب الحمش السوري رجل هاجر بلاده منذ أمد، وتنقل من مصر إلى مصر، وخالط السياسيين والعلماء والأثرياء وعاش تقلبات سياسية فرضت عليه الهجرة والهجرة من الهجرة، وهذه الاضطرابات أثرت على شخصيته، وأثرت على قدراته العقلية أيضا، لذلك تبقى أحكامه حول الحديث والمحدثين والمذاهب محط دراسة ورد وقبول، دون التسليم لها وبها.
وكثيرا ما يتردد في الحديث عن الإمام البخاري وصحيحه، مرات يتكلم بالعلم، وأكثر منها يتكلم بدونه، بعيدا عن التحقيق والتدقيق.
وقد نشر قبل يوم منشورا حول الرواة المذكورين في صحيح البخاري، واجتهد في توهين الجامع الصحيح بطريقة يوهم من خلالها تعظيمه، وأعطى مثالا لذلك بابن ماجه.
ما يهمني هنا هو موضوع منشوره حول الرجال.
1 ــ ادعى أن رواة صحيح البخاري في حدود 1700 راو. (وحسب إحصاء الكلاباذي [ت:398هـ] 1525 راو فقط).
2 ــ للتوهين من مكانة الجامع الصحيح، ذكر أن 200 راو ممن روى عنهم البخاري ومسلم ضعفهم الإمام ابن حبان في كتابيه.
أقول: طيب، وماذا بعد؟ ابن حبان ضعف هؤلاء، وهذا اجتهاد منه، ووثقهم البخاري أومسلم أو هما معا، وهذا اجتهاد منهما، فبأي مرجح نرجح اجتهاد ابن حبان على اجتهاديهما؟ ولماذا نقد عداب يتوجه إلى البخاري ولا يتوجه إلى ابن حبان؟
ثم، يزيد الأمر وضوحا أن إخراج البخاري ومسلم للراوي ليس توثيقا مطلقا له، ولهذا، قد يتوافق البخاري مع ابن حبان في توهين الرجل، لكن البخاري باعتبار حذقه في الصناعة الحديثية، يمكن أن يروي عن الضعيف ما ليس ضعيفا كما سنمثل له لاحقا. ومن يتعامل مع الرواة بطريقة ظاهرية جامدة يستعمل [المنطق] للتلبيس على العامة، فيقول: بما أنه ضعيف، فحديثه ضعيف، وبالتالي فالبخاري يروي عن الضعفاء.
3 ــ للمبالغة في التوهين من صحيح البخاري، ذكر أن 101 من الرواة هم من الوحدان الذين لم يرو عنهم سوى راو واحد.
لكنه لم يذكر لنا مثالا واحدا للتبين والتأكد، ومن منهجنا أننا لا نسلم لعداب كل قوله، خصوصا أننا خبرنا كذبه من كثب، كما خبرنا تهويله ومبالغاته.
4 ــ ادعى أن 141 راويا في البخاري وصفهم ابن حجر بوصف [مقبول].
وهذا الإحصاء لا يوجد عندي ما يؤكده، ولا يمكنني أن أتبناه وأسلّم به، لأنني لا أصدقه خصوصا حين ادعى أن صدام حسين كان يُنعله.
وعموما، فهؤلاء الرواة إن وصفهم ابن حجر بـ[مقبول]، فهم أوثق من عداب، فكان ذلك لا يضر من هذه الجهة، ولا يضر من جهة أخرى أشرنا إليها، وهي أن الراوي قد يكون [مقبولـ]ـاً ولكن البخاري يصحح حديثه كما سنبين لاحقا.
وبعد هذه المقدمات، خلص إلى نتيجة مفادها أن أكثر من 25 بالمائة من رواة الجامع الصحيح مطعون فيهم بنوع من الطعن، وأن حديثهم لا يُقبل استقلالا.
وغني عن البيان، أن مقدماته ومخرجاتها قد صبغها بلبوس منطقي، لكنها بعيدة كل البعد عن الصناعة الحديثية التي تخصص فيها أهلها.
ثم قال أخونا وحبيبنا عداب الحمش بعد مقدماته السابقة: “ما أقصده أن الهالة العظمى المعطاة لصحيح البخاري ثم لصحيح مسلم تتضاءل بعد قراءة هذه الأرقام من الرواة الذين لا يحتج بواحد منهم إذا انفرد بحديث”.
وضربُ هذه الهالة العظمى كانت مقصدا من مقاصد المستشرقين منذ أمد.
وضربُ هذه الهالة العظمى ضربٌ لرموز الإسلام السني كما لا يخفى.
وضرب هذه الهالة العظمى ما زال يدندن حولها كثير من خصوم الإسلام.
فتنبه لمقاصد عداب ولغايات عداب ولا تنخدع بعداب.
وقال عداب بعد ذلك: “لا يجوز لأهل العلم والباحثين أن يغمضوا أعينهم فيحتجوا على ما يريدون بقولهم: أخرجه البخاري ومسلم أو أحدهما، بل لا بد من تخريج كل حديث يريد أحدهم الاستدلال به على مسألة فكرية أو فقهية”.
وهذا جميل، لكنه صعب أو مستحيل، لأن للباحثين وأهل العلم تخصصات، منهم المتخصص في الفقه أو الأصول أو الكلام أو غير ذلك، وهم أبعد الناس عن التخريج والصناعة الحديثية، ولا يستطيعون التمييز بين كلام أهل العلم وكلام الملبسين والمشوشين أمثال عداب الحمش. لذا كان هذا الأمر تخصصيا خاصا بأهل التخصص، والآخرون ناقلون عنهم متبنون لآرائهم.
وأهل العلم الخلّص لم يعطوا هالة للصحيحين إلا بعد أن قاموا بحركة نقدية عامة وشاملة لكلمات الصحيحين ورواياتهما ورجالهما، ولم يسَلّموا للصحيحين إلا بعد محاكم تفتيش علمية شاملة، وخلصوا إلى أنهما أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى، ومن قال بغير قولهم فليعطنا البديل، وليقل لنا أي كتاب نعتقد أنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، أو ليصمت.
للإشارة، وتفاديا لتشغيب المشغبين والمشاغبين، لم يقل النقاد أن صحيح البخاري أصح كتاب [مثل] كتاب الله، بل [بعد] كتاب الله، فتنبه أخي الكريم ولا تنخدع بالمشوشين المشغبين المشاغبين.
وبعد هذه التنقيدات العاجلات، نعود إلى العلم وإلى أهل العلم.
الإمام البخاري صاحب الجلالة والمهابة في مباحث علم الحديث وخوافيه، بإجماع العقلاء غير الإيديولوجيين، وهو أمير الصنعة وإمامها المبرز.
والإمام البخاري رحل رحلات علمية، ولقي العلماء والرواة، وسمع وانتخب وانتقى.
والإمام البخاري قبل الجامع الصحيح، ألف كتابا هو أعجوبة الدهر، هو التاريخ الكبير، وتبعه التاريخ الصغير، ومن خلال هذين الكتابين خبر أحوال الرجال واحدا واحدا، وعرف مكانتهم ومكانة مروياتهم، وجمعُ هذين الكتابين أهلاّه ليعرف الثقة من غيره، والتوثيق نسبي غير مطلق، وهنا تكمن البراعة.
ومن براعة البخاري أنه كان يروي عمن قيل بضعفه، لكنه لا يروي عنه الضعيف من مروياته، وسأسوق أمثلة توضيحية اعتمادا على أهل العلم وأهل الحديث، وليس اعتمادا على المشغبين المشاغبين.
المثال الأول: يحيى بن بكير.
هذا من الرواة المصريين، وكان سماعه عن الإمام مالك فيه كلام وتضعيف، لقيه البخاري وحدث عنه [إذن، لما لقيه فهو الأخبر به والأعرف به وكلامه فيه هو الكلام الفيصل، وليس كلام عداب وأمثال عداب وأشباه عداب]، روى عن الإمام مالك، و روى عن الليث بن سعد، فماذا قال العلماء المتخصصون غير المتطفلين عن هذا الراوي؟
قال ابن عدي: هو أثبت الناس في الليث.
قال أبو حاتم: يُكتب حديثه.
قال الإمام مسلم: تُكلم في سماعه عن مالك.
أما النسائي فضعّفه مطلقا.
هذه أقوال أهل العلم نلخصها، منهم من ضعفه بإطلاق، ومنهم من ضعفه في روايته عن مالك، ومنهم خصص توثيقه في الليث بن سعد، ومنهم من قبله بنوع من القبول.
فما موقف الإمام البخاري؟ وهل يلزمه أن يرفضه رفضا مطلقا ليرضي عداب الحمش؟ أم هو ملزم بإعمال حسه النقدي؟
قال البخاري: ما روى يحيى بن بكير عن أهل الحجاز في التاريخ فإني أتقيه.
إذن، البخاري يتفادى الرواية عن شيخه في روايته عن أهل الحجاز، ومنهم الإمام مالك، وهذا متوافق مع ما قاله الإمام مسلم.
وبما أنه يتقي روايته عن أهل الحجاز، فروايته عن غيرهم مقبولة عنده بناء على حسه النقدي وصنعته الحديثية الدقيقة، لهذا قال ابن حجر: هذا يدلك على أنه ينتقي حديث شيوخه، ولهذا ما أخرج عنه عن مالك سوى خمسة أحاديث مشهورة متابعة، ومعظم ما أخرج عنه عن الليث.
فالبخاري أخرج أحاديث يحيى بن بكير التي رواها عن الليث، لأنه يضبط أحاديثه وأحاديث المصريين، وهذا متوافق مع الحس النقدي لابن عدي.
والبخاري لا يرتضي أحاديثه عن مالك، لذلك روى عنه خمسة أحاديث من طريقه، لكنها مشهورة أولا ومتابعة ثانية.
وهذا يبين أن الإمام البخاري لا يتبنى النظرة العجلى لعداب الحمش: من قيل فيه ضعيف فهو ضعيف ولا يجوز الالتفات إلى حديثه، لأن هذا يؤدي إلى إتلاف وإهمال عدد وافر من الأحاديث النبوية.
المثال الثاني: الربيع بن يحيى بن مقسم الأشناني البصري.
هذا الراوي ضعفه الدارقطني.
وضعفه ابن قانع.
ووثقه أبو حاتم.
قال ابن حجر: صدوق له أوهام.
هذا الراوي التقى به البخاري وروى عنه، إذن، هو الأخبر به والأحذق في التعامل مع مروياته، وحتى الدارقطني ضعفه في روايته عن الثوري وشعبة، والبخاري لم يرو أحاديثه عنهما، بل انتقى من حديثه بحسه النقدي وحذقه في الصنعة، وروى عنه ما رواه عن زائدة، قال ابن حجر الخبير بالبخاري: “ما أخرج عنه البخاري إلا من حديثه عن زائدة فقط”.
وعموما، فمنهج البخاري ومنهج المحدثين ليس منهجا ميكانيكيا، من كان ضعيفا فهو ضعيف مطلقا، ومن كان ثقة فهو ثقة مطلقا، ولكن الأمر نسبي يحتاج إلى موسوعية وقدرة على الاستحضار وحس نقدي وقدرة على الموازنة والمقارنة وصبر وجلد في البحث إلخ ما لا يوجد مفردا عند عداب الحمش، بله مجتمعا كما كان عند البخاري.
وهناك أمثلة أخرى لرواة آخرين تعامل معهم البخاري بحسه النقدي وبمنهجه الانتقائي ولم يتعامل معهم بالمنهج الميكانيكي كما يدعو إليه عداب.
نعم، لم يصل الجامع الصحيح وصاحبه إلى درجة الكمال، وقد نبه العلماء المتخصصون على ملاحظاتهم النقدية تجاهه، ولهم في بعضها وجاهة، ولكنهم لم يهولوا من شأنها مثل عداب، ولم يهونوا من الجامع الصحيح ومن صاحبه مثل صنيع عداب، وهذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، والله أعلم.
إرسال التعليق