
مفاهيم التيار السلفي بين دولة الإنسان ودولة القرآن
رصد المغرب/حسن الخطاب
إن عملية البناء في نظرية دولة الإنسان تنطلق من العلاقة الاجتماعية الشاملة والحقيقية المعنوية الأساسية من خلال تصورات الوحي وروح الشريعة الإسلامية ، لأن دولة الإنسان اليوم هي المطالبة بالمحافظة على الاستخلاف في الأرض ، وفق حركة حياتية ترتبط ارتباطا تكامليا لا ينفصل عن المقصد الشرعي والمحور المركزي الذي عليه مدار الخلق هو توحيد الله عز وجل ، وهذا المستخلف هو الإنسان من خلال الإنسانية كاملة، لان الله عز وجل أناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون وإعماره ، اجتماعيا وطبيعيا ، وعلى هذا الأساس ، تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة لله في الأرض ، ومن هنا تصير العلاقة الاجتماعية ذات التأسيس الشمولي ضمن صيغة الاستخلاف ، مرتبطة برؤية متكاملة ومتميزة نحو الحياة والكون من خلال الفهم الصحيح لمقصد التوحيد ووجود الجماعة ، إن دور الإنسان في حركيته إنما يشكل جوهر الاستخلاف من خلال علاقة الإنسان بأخيه الإنسان أيا كان مركزه الاجتماعي أو السياسي … هي علاقة تفاعل بقدر ما يكون هذا الإنسان في مجمل أوجه التفاعل الحضاري بين الإنسان ونظيره ، ومن هنا تتشكل دولة الإنسان من خلال علاقة الإنسان الفرد بالإنسان المجتمع والأمة من خلال نظرة معمقة لاتقتصر على لون من التناقض ، ولاتهمل ألوانا وأشكالا أخرى ، إذ تستوعب كل أشكاله في بيئتها ومناخها حتى تنفذ إلى عمقها وتكشف حقيقتها الوجودية ، فنجد هذه الرؤية تعمل من اجل تصفية ذلك الجدل في المحتوى الداخلي بالأساس ، والذي يتزامن معه تصفية التناقضات الاجتماعية على البيئة ، كما تركز هذه الرؤية على أن ترك ذلك المعين من صيغ أخرى ، ومن ثم يخلص بتلك الرؤية إلى ضرورة العمل على كلا المستويين ليغير ما بالإنسان الفرد ، وليغير ما بالإنسان المجتمع ، والعلاقة الاجتماعية داخل دولة الإنسان تتميز بالاستقرل النسبي لنمطها إلا أن ذلك لاينفي التفاعل والتأثير المتبادل بينهم من خلال امرين : * الأول : نلحظ فيه مدى تأثير خط علاقات الإنسان مع الطبيعة على خط علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان .
* الثاني : نلحظ فيه مدى تأثير علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان على علاقات الطبيعية ، وهذا هو الفرق بين التوجه الإسلامي والتوجه الماركسي المادي الذي يرى بأن الأدلة هي التي تصنع الاستغلال وتشكل النظام المتناسب معها ، بينما تتجه الوجهة الإسلامية والتي تجعل من دور الآلة قاصرا على الإمكانية والفرصة والقابلية لا الصانع ، بينما الإنسان الصانع هو الذي يتصرف ايجابيا وسلبيا أمانة وخيانة ، صمودا وانهيارا ، صلاحا وفسادا ، أما العلاقة الأخرى ، فتبين انه كلما جسدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ، العدل والصلاح ، وابتعدت عن كل ألوان الظلم والاستبداد والاستغلال كلما ازدهرت علاقات الإنسان مع طبيعته ومجتمعه ، ونخلص إلى حقيقة هي : أن دولة العدل هي التي تصنع الازدهار في علاقات الإنسان مع الطبيعة ، ومجتمع الظلم هو الذي يؤدي إلى انحسارها ، فمفهوم الاستخلاف داخل دولة الإنسان نجده يتجسد بالمنظور الحضاري ، وتحقيق عملية الإنماء وفق شروط المشروع الإسلامي وعناصره ، ليشكل نظرية متكاملة يمكن قياس حركة النمو الاجتماعي والاقتصادي عليها ، لان الاستخلاف في مفهوم دولة القران يتخذ من التوحيد نقطة انطلاقه من حيث هو تعبيرا عن علاقة الإنسان وبين الله عز وجل ، علاقة طاعة واستجابة وعبودية ، ومن تم فان الاستخلاف للجماعة البشرية وفقا لمبادئها ، القضاء على كل القيود التي تجمد الطاقات البشرية وتهدر إمكانات الإنسان المجتمع ، وبهذا تصبح فرص التغيير نحو النمو متوفرة توافرا حقيقيا ، بمعنى الاستخلاف ليصبح متطلب أولي سابق على عملية الإنماء ذاتها ، وبالتالي يشكل المسار ، إذ يتجه للوصول إلى المقصد الأعلى النهائي المتمثل في التوحيد ، فالاستخلاف ليس إلا حركة ذائبة نحو منظومة من القيم المتجلية الخير والعدل ولا بدون توقف لأنها متجهة نحو المطلق ، وأي هدف سوى المطلق ( الله عز وجل ) سوف يكون هدفا محدودا ، سوف يجمد الحركة ويوقف عملية النمو في خلافة الإنسان وعلى الجماعة التي تتحمل مسؤولية الخلافة في الأرض وتوفر لهذه الحركة الدائبة نحو مقصدها الأعلى كل الشروط ، وتحقق لها منهاجها اللازم ويصوغ العلاقات الاجتماعية على أساس ركائز دولة الإنسان المستخلف ، ومن هنا لم يعد وفق منطق الخلافة للأقوياء المستغلين مرتعا في الخلافة العامة لجماعة الإنسان ، لأنها ليست إلا أمانة ، ومن خاف الأمانة لم يعد أمينا ، وأما المستضعفون الذين لم يظلموا أنفسهم ولم يستسلموا له هم ورثة الأرض كما قال الله تعالى :” ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين “[1] وذلك أن الإنسان على طريق بناء دولة الإنسان وفي مسيرته البشرية وامتدادها له أفق يحكم تصوره الذهني وحدوده ، مثل الأفق الجغرافي الذي يجب التعامل معه كأفق لا كمطلق ، كما يتعامل مع الأفق الجغرافي الذي نراه على البعد بأنه ليس نهاية الأرض ولكنه أفق ، الأمر لا يختلف بصدد الأفق التاريخي الذي لا يمكن تحويله على محدوديته إلى مثل أعلى ومن هنا تمر دولة الإنسان على مسار الاستخلاف في الأرض بعدة معطيات :
1- مرحلة فاعلية الاستجابة لوجود الجماعة البشرية وقدرتها على العطاء بقدر ما يكون ارتباطها بما تشكله من مكاسب عاجلة .
إن المثل الأعلى المشتق من طموح الأمة وتطلعها إلى المستقبل يبقى محدود ومقيد وهو إذ يملك جانبا صحيحا ، إلا انه يحتوي على إمكانات خطره تكمن في تحويله من تصور وضعي محدود المستقبل إلى مطلق ، إذ سرعان ما يصل إلى حدوده القصوى ويتحول إلى قيد للتطور وعائق له ، وحينئذ سيكون عقبة أمام استمرار الإنسان في مسيرته نحو كماله الحقيقي ، وهذا المثل في تحويله المحدود إلى مطلق يتضمن تعميمين خاطئين أحيانا :
احدهما : يفيد أن المثل يضم كل قيم الإنسان التي يجاهد من اجلها ، بينما هو في حقيقته يمثل جزءا من هذه القيم ، فهذا التعميم أفقي خاطئ حيث يعد المثل معبرا عن جزء من أفق الحركة وليس كل ما يملا افقها .
ثانيهما : التعميم الزمني الذي يتضمن خطوات ناجحة ، لكن لا يجوز تحويلها عن حدودها .
2- يتعلق بتجميد المثل الأعلى حيث يستنفذ طاقته وقدرته على العطاء ويتحول إلى المثل بدون روح ، والقادة الذين كانوا ينظرون ويوجهون على أساسه يتحولون إلى سادة وكبراء لا إلى قادة ، وجمهور الأمة يتحول إلى منقادين لا إلى مشاريع في بناء الدولة وتطويرها ، ومن هنا كان لزاما على سالكي الطريق في دروب البناء والتغيير شعورهم بعمق المسؤولية ، وهو ما لايعد أمرا عرضيا في مسيرة الإنسان بل هو شرط أساسي في إمكانية نجاح هذه العملية والخطوات الأولى في طريق الاستخلاف وهذا البناء في اعتقادي لابد فيه من شروط :
أ – الرؤية العقدية الواضحة التي توحد كل الغايات والأهداف ، وتنبثق عنه وترد إليه ، والتوحيد بذلك يخلق رؤية واضحة تعني منهج الله لبلوغ الاستخلاف ، لان الوجود الاجتماعي من خلال الأمة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين أفراده مجموعة من العلاقات والروابط على تأسيس من الأفكار والمبادئ المسندة بمجموعة من القابليات والقوى ، هذا المجتمع يعبر عنه بالوحي بالأمة ، له حياة وحركة واجل ، وهناك سنن ونواميس تحدد لكل امة علاقتها بالاستخلاف ، وسننا تتحكم بها وراء السنن الشخصية التي تتحكم في الأفراد بهوياتهم الشخصية ، قال تعالى :” أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء “[2].
فالمقصود هو الجماعة من خلال كيانها الاجتماعي وبوصفهم جماعة واحدة متفاعلة ظلما وعدلا ، وفي السراء والضراء وهذا ما نعني به التكليف الجماعي للأمة ، وبهذا السمو يحقق عبوديته واستعماره للأرض ورعايته لما سخر له ، وقيامه على شؤون الحياة قياما مهتديا ، إن الإنسان في الاستخلاف في دولة الإنسان، هو المسؤول عن قيادة هذه المعركة في ظل ما انزل الله من تشريع ، وهو مسؤول عن الانتصار فيها ، لأنه وضع في اسمي موضع من الوجود والى أمد محدود ، وهو مؤتمن على مافي هذا الكون ، وهو مؤتمن على جوارحه وعلى مراحل حياته وان نوازعه تنافسه وتضغط عليه وتحاول قيادته وحياته محدودة وتصرفاته محسوبة ، ومواقع الزلل والعثار كثيرة ، وعدوه متربص به ، وفي ظل هذا الصراع تتحقق إنسانيته ، والدولة الإنسانية في شمولتها تطمح في إطار منهاجية التغيير والاستخلاف أن تضبط عملية توجه الإنسان وان تنظمها منهجا واتجاها وغاية ، وان تحافظ بذلك على تفرده في الجماعة ، ولتكون رؤية هذا الإنسان ومعرفته ممكنة، وبالتالي فهي تطمح أن تجعل أسس تربيته وأهدافها متفقة مع كينونته وتمكينه واستخلافه في الأرض ، قال ربنا جل وعلا :” ولقد مكناكم في الأرض وجعلناكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ولقد خلقناكم ثم صورناكم “[3].
إنها ترى أن الاستخلاف للإنسان في كل عصر وفي كل مكان حيث تركيبه الجسدي وغرائزه وحاجاته العضوية هو هو لايتغير ، وان نسيجه الفطري الأساسي المتمثل في ادم ثم يتغير بيولوجيا وهداية وتكلفا مثل : النحل والنمل ، بل تدخل في استجاباته ، مفاهيمه وعلاقاته والتزاماته ، إن تصرفاته السلوكية مرتبطة بماهية مفاهيمه التي تتكون لديه بناء على وجهة نظره في الحياة ، لذلك فالمطلوب في عملية بناء شخصيته سلوكيا ونفسيا وعقليا ، لأنه غياب هذه الضوابط تعمل غرائزه ونوازعه على المستوى السلبي البيولوجي الحيواني ، وقد تسيطر على **** فردا وجماعة ، وتقوده إلى المستوى الغير الإنساني من منظور الاستخلاف في الأرض فالاهتداء والبناء ليس فكرة مجردة بل هو اعتقاد ينبثق عنه تشريع ونظام يؤسس للحياة ، ولايمكن أن يصدر عن الإنسان أو أن يتوصل إليه بالفطرة أو التجربة ، بل لابد من رسالة ربانية تحمل مفصلا للإنسان ، ابتداء ، قال ربنا جل وعلا : ” ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض “[4].
ومن منظور دولة الإنسان نجد أن الهدف هو أساس صالح وقطعي الدلالة ، لأية نظرية في مجال دراسة الإنسان وتربيته، ومن هنا نجد أن تطور الفكر السياسي الإسلامي ارتبط من خلال مفهوم الخلافة أو الإمامة داخل دولة الإنسان بالقيادة السياسية للجماعة المسلمة ، بكل مكوناتها العقدية والاثنية والعرقية ، كما أن مقاصد الوحي الإلهي تربط مفهوم الخلافة ومهمة الاستخلاف بالأمة والجماعة قبل ارتباطها بالفرد ولما نقل ” الأمة ” نعني دولة الإنسان بالمفهوم المعاصر، فنجد أن الله عز وجل ذكر لفظ الخليفة مرة واحدة في سورة “ص ” بقوله :”ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله “[5] واستعمل كذلك للدلالة على مهمة الجماعة و مهمة الإنسان ، نوع الإنسان المتمثل في استخلافه في الأرض والتصرف في قدراتها وفق الهدي الرسالي وطموح الدولة الإنسانية ، قال تعالى :” وإذ قال بك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة “[6]، وقوله تعالى : ” وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض يعبدونني لايشركون بي شيئا “[7] استخدمت الآية الكريمة لفظ الاستخلاف المشتق من الخلافة والمفيد لمعنى منح الخلافة وإعطائها في سياق حديثه عن دورة الجماعة لا الفرد ، وربط كتاب الله عز وجل مهمة الخلافة بالجماعة والدولة له دلالات بالغة على طبيعة الدور السياسي والتاريخي الموكول بالأمة ، لأنه يعني بذلك وخلافا للمدرسة التقليدية للأئمة المسلمين كالماوردي والجويني التي ترى ربط الخلافة بالقيادة التنفيذية[8] أو الإمامة .
إن الخلافة هي مهمة دولة الإنسان من خلال المفهوم الأممي ومهمة الإمامة نيابة ، والمستقرئ للنصوص الشرعية من خلال مقاصد كتاب الله عز وجل التكليفية ، يدرك أنها اشتملت على أن الأمة هي محل التكليف الشرعي ، فخطاب التكليف في القران موجه في معظمه لخطاب الجماعة أو الأمة الإسلامية ، لا إلى فرد من ارفادها ، وتستوي في ذلك جميع الأحكام التعبدية أو الجزائية أو الجهادية أو في المعاملة بين المؤمنين قال تعالى :” ياأيها الذين ءامنو أنفقوا من طيبات ماكسبتم “[9] وقال تعالى :” ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا “[10] وقال تعالى :” ياأيها الذين ءامنوا لاتتخذوا بطانة من دونكم لايالونكم خبالا ودوا ماعنتم ” [11]، وقوله تعالى :” فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين “[12].
بل هناك كثير من الأحكام الشرعية لايتحصل مقصودها دون تنسيق وتكامل من قبل الجماعة ، كقضايا تقسيم العمل وتحقيق الكفاية للأمة ، وهي المسائل التي اصطلح عليها الفقهاء ، اسم فروض الكفاية ، وتضم جوانب التعليم وقضايا الخدمات العامة داخل الدولة وقضايا التنظيم السياسي والعسكري ، وقضايا الإصلاح الاجتماعي كما هو متضمن قوله تعالى :” ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون “[13].
فالخطاب التكليفي متوجه إلى الدولة الإنسانية من خلال طبيعة استخلاف الأمة ، بوصفها جماعة متعاضدة ومتعاونة ، لان الأمة هي المؤتمنة على حمل الشريعة وأعبائها ، وهي المكلفة بتحقيقها والعمل بمقتضاها ،وهي المطالبة بفهم روح الوحي وفقهه وتنزيله على الواقع المعيش ومراعاة الزمان والمكان والبيئات ، كذلك نجد إن ارتباط مهمة الاستخلاف بدولة الإنسان تظهر عند تأمل الوحي الإلهي من خلال الخطاب الذي يحمل للأمة عامة مسؤولية متابعة المهمة في خلافة النبي الكريم وميراث النبوة ، كقوله تعالى :” وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ” [14]فمهمة الإشهاد على الناس وإقامة الحجة بالموعظة الحسنة ، من خلال الالتزام التام بروح الوحي ومقتضيات الشريعة ، هي مهمة دولة الإنسان بعد رحيل صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام ، وليست مهمة فرد فذ ، لأن الأمة هي خليفة الرسول الكريم في ” حفظ الدين وسياسة الدنيا ” والإمام الذي تختاره الأمة لتولي السلطة السياسية هو نائب عن الأمة ووكيل لها في تدبير شؤونها السياسية وان الإمامة أو الخلافة هي مرتبطة بالأمة المتمثلة في أهل الحل والعقد وهم العلماء وأهل الاختيار وسيأتي بيان شروطهم وليست مقرونة بالقيادة التنفيذية ، وهذا الأمر هو جوهر مفهوم الإمامة وله أثره الهام في تصور طبيعة السلطة السياسية وحدودها ، وبالتالي تطوير منظومة سياسية إسلامية وفق منهج متسق مطرد ، ذلك أن اعتبار رئيس الدولة أو الخليفة هو ممثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى التقليدي الراشدي والمتعلق بحفظ الدين وسياسة الدنيا وهذا يؤدي إلى إعطاء الإمام مهمات وصلاحيات فوق ما يحتمل ، نظرا للدلالات الخطيرة التي يولدها هذا الاعتبار ، و خصوصا في العصر الحاضر ، والمتمثلة في النظر إلى مهام الخلافة ومقاصدها على أنها امتداد لمهمة النبوة، لكن في مفهوم دولة الإنسان ومذهب الأصوليين والمتكلمين نجد أن الأمة تمثل الإطار السياسي الرئيسي الذي يمكن الشعوب الإسلامية على اختلاف خصوصياتها اللسانية والعرقية والقومية ، من الاتحاد والتعاون و التكافل لتحقيق غايات الوجود الإنساني كما حددها الوحي ومقاصد السنة من خلال نموذج دولة المدينة ، وهذا ما يجعل الانتماء السياسي داخل دولة الإنسان والمتعين في شبكات النسيج بين مختلف فئات المسلمين على امتداد الأرض ، من علماء ، وتجار وحرفيين وسياسيين ، وهذا هو الأمر الذي حافظ تاريخيا على وحدة الدولة الإسلامية وثقافتها ومجتمعها ، رغم تباين القوميات والشعوب الإسلامية بل رغم التقسيمات الجغرافية والسياسية ، بدءا بالانقسام العباسي ثم الأموي ، لكن بدور المفكر المسلم ووعي علمائها استطاعوا كبح الجماح والمحافظة على الوحدة الثقافية والاقتصادية في شتى بقاع الأرض ، على الرغم من تعدد الحكام والسلاطين رغم اختلافاتهم إلى إبقاء اقنية التبادل الثقافي والعلمي والفكري مفتوحة طوال التاريخ الإسلامي ، لأن مشروع دولة الإنسان السياسي يخضع لاستمرار الأمر الواقع كهدف يقوم بالبحث عن مقومات استمرار النظام وتدعيمه ، وليس عوامل تغييره وتطويره وان كانت مطلوبة لان النظام السياسي يؤمن بحركية البناء التدريجي وفق أنماط ومفاهيم الأمة وهو أمر يجب أخذه بعين الاعتبار ، حينما نؤسس المنهج على قاعدة من التوازي الذي لايعني إلا تكيفا مع الواقع وتحكيما له ، لأن المشروع الإسلامي يؤمن بعملية البناء المرحلي ، إلا أنه يضع لكل مجال مخصوص ورؤى واضحة من منطلق البناء بمفاهيم أكثر دقة مثل الأحكام والمقاصد وتصير بذلك أكثر إلزاما داخل مفهوم الدولة ، ومن هنا كان لابد من اعتبار الرعية موضع استخلاف في مفاهيم دولة الإنسان ، وهي قسمان داخل دولة الإنسان : خواص وعوام ، فينبغي تفقد أحوال الخواص أكثر لأنهم كالأدوات و الآلات ، وهي بأقسامها كمفهوم تقوم بدورها سواء في وظيفة الأمة العقدي أو الاستخلافي ، وهي بذلك في مفهوم دولة القران تشكل حركية واعية وتجسدا للمشروع الإسلامي لمفهوم الإنسان وحركته ، من حيث انه لايمكنه من تلقاء نفسه ودون سند الهي ، أن ينشيء نظاما حياتيا صالحا ، ومنظومة فكرية سليمة وايجابية يمارس بها استخلافه على الأرض وحمله الأمانة التي نيطت به ، فالرغبة الواعية والمواطنة وفقا هذا التصور ، إنما تتحرك في كل عمل بكونه عملا إيمانيا من حيث انه محصلة تعقل وموقفا واعيا وملتزما بالاهتداء وتشكل العقيدة والقاعدة والأساس التي تبنى عليه كل الدولة بكل أجناسها وتكويناتها ويصير عمل الرعية بمفهومها الشمولي فرديا كان أو جماعيا يتقيد بهذا الشرط ، وهذا ما يفرض على الأفراد والجماعة أن تبذل أقصى الجهد في تجسيد وضبط مسار الأمة الإيماني والفكري ، والعمل على ضبط كل أشكال العمل والفهم وأنواع التصورات في الحياة بشكل عام ، وهي من هذا المنظور وحركتها تلك ، ترى في مهمتها المتجسدة في عملية البناء والاستخلاف من منطلق عناصر وعيها وتكوينها الحضاري المرتبط بدولة الإنسان وبالمجتمع الإسلامي باعتباره وسيلة لهداية الناس وحماية إيمانهم وتحقيق العدل والمساواة بين مكوناته ، كوسيلة لإيجاد الشخصية الإنسانية في مجتمع تشاركي تكاملي يقاد بروح العدل وقيادة مهتدية تحمل معها الهداية إلى البشرية عامة ، وهي تبث حركة **** من اجل فئة محددة من الناس عرقية كانت أو عنصرية أو قبلية أو قومية … من حيث ارتباطها بالمصالح و المنافع ، وهي تتجاوز إطار طرح الأفكار والنظريات للتمكن من قيادة الجماعات والسيطرة عليها ، لأنها تعي وفق الدور الشرعي المنوط بها وهي حالة نوعية وليس مجرد كم يقاس المجتمع بمقياسه ، ذلك أن من خلال مفهومها تفقه الإمكانات التي لديها وهي مطالبته بان يجعل حياتها تدور مع الهدى حيث دار ، وان تعمل لتنظيم حياة الناس وإنارتها به ، وتميزها عن الآخرين مرهون بقدرتها على شمول كل مكونات المجتمع الفكرية والسياسية وهي بينها جماعة ملتزمة مهتدية ، وليس تضامنا حرا بلا تأسيس أو عقيدة ، وهي تدرك مفهوما من خلال إدراكها لوظيفتها السياسية .
وبالرجوع إلى دلالات النصوص المتعلقة برعاية الأمة وقيادتها وبتبليغ الدعوة إلى كافة أبناء الأمة واحترام حرياتهم واختياراتهم الفكرية لان المشروع الإسلامي في دولة الإنسان يقضي بان المجتمع الإسلامي ، مجتمع سياسي لايتمكن من التحرك لا ككيان سياسي ذي قيادة سياسية ، كما نجد أن التكاليف الشرعية في النظام الإسلامي تقتضي بأن الأصل في كل فرد مخاطب بروح الوحي أن يكون سياسيا أو رجل دولة وان يعد لذلك وينشا على ذلك ، فالعملية التربوية هي في أصلها عملية سياسية ، بكونها تقصد في الأصل إعداد مفهوم الاستخلاف للرجل المسلم الذي يتمكن من رعاية شؤونه والمشاركة في رعاية شؤون الأمة من الداخل بفقهه للولاء العقدي والتعاقدي للمجتمع .
والعلماء والأمراء أساس القيادة في دولة الإنسان وتكمن أهمية العلماء في ضرورة إدخال آليات جديدة نوعية تصير عماد النظام المؤسس على العلم والخبرة ، وبمعاينة العلم وفق مقصوده وشقيه الشرعي والتخصصي ، والأمة هي قاعدة الدولة بكل أطيافها وأفكارها وثقافاتها باعتبارها الجماعة السياسية المنوط بها حاكمية الشرع والشريعة وتحقيق الخلافة وفق مقتضاها وهو ما يجعل الدور الرقابي أساسيا باعتباره عملا أصيلا ، وشرعية الدولة لابد في تحقيقها من نظام يقوم على الوحدة بين الحاكم والمحكوم ( الخلافة والرعية ) بحيث يطلب تشكيل أساس لتماسك النظام السياسي بوحدة المفاهيم والقيم التي تجمع حولها الجماعة ، بحيث تصير قيمة الوحدة والتضامن قيمة تنظيمية عليا في تكوين الجماعة وتأسيس الرابطة الإيمانية السياسية ، فنظام القيم يشكل في دولة الإنسان ، النموذج النظامي لنسق حركي متفرد ،يشكل التوحيد جوهره وتضم منظومة القيم السياسية كالعدالة والحرية والاختيار والمساواة ، ويسود الوحدة منطق التعامل في الدولة مجسدا في كيان الجماعة السياسية ، وفكرة الخلافة والإمامة تجسد مفهوم السلطة من المنظور الإسلامي والأمة كترجمة لمفهوم الجماعة من المنظور الإسلامي باعتبارها الجسد المتحرك للكيان الاجتماعي الحضاري والقيادة من خلال الإمام والعلماء حيث تعبر عن تفاعل الأمة في بوتقة الشرعية وتجسيدها في الجماعة والمجتمع من خلال التعايش الشرعي للواقع الاجتماعي وتكييفه وفق مقتضيات الشرع ( أهل الحل والعقد ) ولعل مايميز دولة الإنسان من مفهوم الخلافة على أي نظام ديني آخر ، هو رفضها فرض أحكام الشريعة على المجتمع المدني كافة ، بل يسمح لإتباع الديانات الأخرى بتطبيق شرائعهم الخاصة بهم ، قال تعالى :”وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون”[15] .
إن مشيئة الله عز وجل اقتضت أن يبقى الناس أمما مختلفة ، تتسابق في فعل الخيرات ، وأن لا يتحولوا إلى أمة واحدة ، تحكمها شريعة واحدة ، وهذا الانقسام حقيقة أثبتها القران الكريم ، واعتبرتها كونية ومشيئة دائمة ، وأكدت أهميتها التجربة الإنسانية عبر مر التاريخ ، فانقسام الناس إلى أمم وثقافات متدافعة وتسابقهم في تحصيل الخبر جزء أصيل من آليات التطور التاريخي للإنسان الفرد والإنسان المجتمع ، فدولة الإنسان ذات النظام السياسي العالمي الذي تسعى الأمة لتحقيقه نظام يضم أمما وجماعات عقدية متغايرة ، وبالتالي لايحق لأحد داخل دولة الإنسان أن يطالب بفرض شريعته بكل تفاصيلها على المجتمع المدني برمته وإلزامهم بذلك ، وقد تقدم الحديث عن هذا الأمر في الأجزاء الماضية من الكتاب بما أغنى عن إعادته هنا ، وهكذا نجد أن عملية فرض الأحكام منحصرة بالقيم و المبادئ التي أصبحت متعارفة بين الناس وقبولها ، لذلك نجد أن كتاب الله يربط بين فعل الأمر الذي يفيد الوجوب ، وبين فعل التراخي وقبول التشريعات الإسلامية ويشكل الوعي المرتبط بشرعية دولة الإنسان ، أبعادا معرفية وسلوكية في آن واحد على مستوى الفرد أو الجماعة أو الأمة ، ومن ثم فانه في جوهره يعني : أبعاده المعرفية وان يدرك الفرد المسلم الغاية من الوجود الإنساني ، وهي : أن يعبد الله على النحو الذي أمره به وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقتضي أن تكون الحياة كلها عبادة طاعة بما فيها كل الأعمال والأنشطة التي يحقق بها معنى الاستخلاف في الأرض ويهدف إلى إعمارها والإصلاح فيها ، وعلى مستوى المجتمع والجماعة نجد أن الوعي بمفهوم الخلافة وأبعاده في القواعد والأسس التي تشكل المفاهيم التي تحكم العلاقات بين أفراد المجتمع وتنظيمها ، وهي تتبلور في القيم التي تحقق الوعي الاستخلافي الجماعي ” للمجتمع ” المسلم ، والتي من شانها أن تطبع التصورات العامة لمجتمع الإنساني بالطابع الذي يستطيع فيه الإنسان ان يمارس دوره في حدود وعيه الاستخلافي بالغاية من الوجود ، وبالتالي يكون المجتمع ” كليا منضبطا في الإطار العام لهذه المفاهيم من خلال التزام ” الفرد من تشكيل المسالك التي من شانها تمكينه من تحصيل العدل والمساواة والمعرفة بالأصول العامة للدولة الإنسانية وأحكامها وغير ذلك مما يمكنه من صياغة وضبط حركته في كل نواحي الحياة وفقا للمنهج الإسلامي ، وعليه يمكن بناء مفهومين من داخل دولة الانسان يحددان مسار الوعي الاستخلافي وتطويره من خلال خاصيتين الأولى : الوعي العقائدي المعرفي ، والثاني : الوعي الشرعي بالنظام السياسي ، وكلما كان التطابق بين الجانبين كبيرا كلما ارتفع مستوى الوعي والنضج ، وارتفعت فاعليته في التعامل مع الجوانب الحياتية المختلفة ، وفي إطار مفهوم الوعي الذي يشكل بناء دولة الإنسان في أبعادها الإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، ولحصول هذا المقصود نرى لابد من وجود أرضية تشاركية من خلال مايلي :
أولا : إن الوعي الاستخلافي ليس نتاجا مجتمعيا صرفا ، فهناك جوانب أخرى وهي التأسيس الذي يتمثل في جانب التوحيد ولا دخل للمجتمع أو الواقع بعلاقاته المختلفة وتفاعلاته المتعددة في تشكيله ، وفق المنظور الإسلامي ، فهو يتصف من هذه الناحية بتأسيسه الرباني عن طريق الوحي .
ثانيا : شموله للجانب العقدي والمعرفي ، والجانب الحركي يفرض دورا ايجابيا مستمرا لمن يحمل هذا الوعي على مستوى الفرد والجماعة .
ثالثا : إن الوعي الصحيح المتكامل ينسم أفراده وجماعته بالتمايز والاستقلال الفكري والسلوكي في آن واحد ، ومن ثم فهو لايعترف بدعوى الخروج من الذاتية أو الالتزام ، بل يجعل من الوعي الذاتي أهم الشروط الأساسية في تحقيق مقتضى الوجود الانساني ، بما يعني تحقيق التحرر المعنوي والخروج من التبعية الحضارية تبعية التقليد والتخلف ، وهذا يقود إلى وجود ثلاث عناصر : وعي بالمبدأ أو العقيدة الذي تدين بها تلك الأمة وتعمل من اجلها وتقييم الحياة عامة على أساسها ، ووعي بالكيان أو الجماعة البشرية ، كجماعة متميزة بذاتها سواء أكانت هذه الجماعة مؤلفة من شعب واحد ، أو من شعوب كثيرة ، وأخيرا وعي بالموقف: أي إدراك طبيعة المرحلة وفقه المرحلة ، مناخ المرحلة من خلال الموقع الزماني والمكاني الذي تكون فيه بظروفه وملابساته وبالتالي تحقيق وعي الذات والجماعة ، الفرد والمجتمع ، الأمة ودولة الإنسان ، الذي ينتمي إليها في إطار الوعي بان الرسالة والعقيدة لاتعيش بنفسها مستقلة عمن يحملونها ويعيشون ويتعايشون في محيطها وبالتالي تجد أن الجانب العقائدي في الوعي الإسلامي هو المهيمن والمتحكم في الجانب الحركي ، فهو الذي يحدد الأطر العامة للفكر والنظم والحركة محددا الحركة والهدف والمقصد ، وبالتالي فان هذا الأخير إذا ارتبط بالتعايش والعدل والمساواة فهو الضمانة الوحيدة والأساس الأمثل لسلامة دولة الإنسان ورشدها وقدرتها على الوصول إلى أهدافها وغاياتها ، وإذا كانت دولة الإنسان في فلسفة الخلافة السلطانية هي تجمع يقوم على العقيدة المنبثقة عن تفاعل الأفراد مع مبادئ كلية عامة ، تتجاوز حجم الخصوصيات الطبيعية ، التي تبنى على خلفيات من اللون أو العرق أو الجنس أو اللغة أو الإقليم ، فوجود هذه الأمة أو الدولة الإنسانية وجودا وعدما ، هو مرتبط كما اشرنا في الأجزاء السابقة بالالتزام المبدئي والقيم الوجودية بفلسفة روح الوحي ومن هنا ارتبط وجود دولة الإنسان تاريخيا بقيام المجتمع السياسي في المدينة عقب هجرة السرايا الأولى من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، تحت قيادته النبوية من مكة إلى المدينة لتحصيل هذه الغاية العظيمة ، وهي تحقيق وظيفة الاستخلاف وعلو سلطان الله عز وجل على سلطان القبيلة والعشيرة ، فدولة الإنسان في وظيفتها الاستخلافية تمثل الوعاء الاجتماعي الإنساني القائم على السماح للفرد بممارسة تدينه وتحقيق المشروع الإسلامي من خلال نظامه السياسي ، قال العلامة بن خلدون في نظريته في تحديد اعمار الدول من خلال أربعة أجيال : الجيل الخشن المتحمل ، ثم الجيل الذي يتمتع بالثمار ، وان لم تعد له قدرة التحمل ، ثم الجيل المخضرم الذي فقد الأسباب ، وبقوة الدفع السابق يبقى مستمرا على سمعة الأجيال ، ثم الجيل الرابع الذي تأكل دابة الأرض منسأته فيخر صريعا لليدين وللجنب ، وهو الذي ضيع الوظائف والحقائق ، واتبع الأوهام “[16] انتهى.
لكن الدولة الإنسانية من دوافع أفكارها وقيمتها لايمكن أن تتحول إلى فعل وعمل إلا من خلال التفاعل والتعامل بين أفراد يتماثلون في تصوراتهم ومبادئهم ومعتقداتهم لمعنى الحياة وغاية الوجود ، ويلتزمون منظومة مشتركة من القيم والمبادئ السلوكية ، فبدون هذا الانصهار والانسجام والتلاحم وتلاقح الأفكار والقيم في إطار عقدي وقيمي مشترك ، تصبح الحياة الاجتماعية مستحيلة مع استمرار دور النظام السياسي بوظيفته الاستخلافية منعدما نعم تتجلى الحياة الاجتماعية لدولة الإنسان من منطلق الاستخلاف في الاعمار للأرض على مستوى الفعل عادة من خلال تفاعل الأفراد والتجائهم لتوفير شروط بقائهم واستمرار مبادئهم وقيمهم ، وهذا التلاحم والتعاون لايتم إلا بمقتضى روح الخلافة وإقرار نظام أخلاقي وقانوني وفق منظومة محددة من المبادئ والقيم المنبثقة عن تصور مشترك لأهداف وغايات الاستخلاف ومقاصد الوجود الإنساني ، وبالتالي فان الدولة التي يتلاحم فيها الفكر مع القول والفعل ، أو النظرية والتطبيق ، تتطلب وجود مجتمع سياسي قادر على الاحتكام في أحواله وتصرفاته إلى منظومة روح الخلافة ومقاصد وجود الإنسان من حيث هو إنسان .
والخلافة من حيث إنها موضوعة لدولة الإنسان المجتمع والإنسان الفرد ، كما قال ربنا جل وعلا :” وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة “[17]“.
ويعد الخليفة في عرف المسلمين عامة انه نائب عن النبي صلى الله عليه وسلم أو وكيلا له في كافة شؤون الحياة ، والحقيقة انه أجير للأمة بموجب عقد يمكن فسخه أو عزله ، بما يؤكد حقيقة السلطة وارتباطها بالشرع ، كما قال الإمام الماوردي :”حراسة الدين وسياسة الدنيا به ” سواء تعلق ذلك بكونها اشتقاقا من الخلافة الإنسانية في الأرض بمعنى دولة الإنسان ، أو أنها خلافة بعد موت صاحب الشريعة صلى عليه وسلم ، وفق هذا المعطى لا يعد مفهوم الخلافة مخترعا ، بل سابق مثال ، ولكن وروده الشرعي محقق قرانا وفي صحيح السنة ، وليس الخليفة حامل هذا اللقب صاحب الشرع ، وإنما هو واحد من أحد أتباع هذه الشريعة ، فإذا جعلوه أميرا لهم أو حاكما عليهم فليس له في مكانه الجديد هذا إلا ماكان له من قبل أن يقوم فيه ، وينزل هو والناس جميعا على حكم الشريعة سواء بسواء ، وقد اختلفت أمور كثيرة بين التفريط أو الإفراط في مفهوم الخليفة فمنهم من جعله مبنى لامعنى ، ومنه من جعله معنى قد ولى زمانه ، ومنهم من خلع عليه صفات القداسة والجلال والعظمة حتى ترتفع به أحيانا فوق ما ينبغي أن يكون أو يكون *** قداسة وجلالا وعصمة ، منهم من فرط فطفق مسمى الاستخلاف على أي سلطة كانت بلا حد أو ضبط ، وبلا قيد أو شرط ، لكن مفهومنا للخلافة داخل دولة الإنسان ، بان مفهوم السلطة فيها باعتبارها قيمة ، تحدده العقيدة أما ممارسة السلطة فهي تخضع للقواعد التي تصدر عن الشريعة من خلال الممارسة والحركة والشرعية لمفهوم الاستخلاف تتجلى من خلال الجمع بين العدل والمساواة ، فالعلماء والأمراء أساس القيادة في دولة الإنسان ، وأهمية العلماء كما نوه بذلك الإمام الماوردي في أحكامه ومن هنا نجد ضرورة إدخال نوعية معينة من المؤسسات تصير عماد النظام الإسلامي السياسي ، والأمة هي قاعدة الدولة الإنسان باعتبارها الجماعة السياسية المنوط بها حاكمية الشرع والعقيدة وانجاز الأمانة وتحقيق مفاهيم الولاء التعاقدي ، لان حقة العقد توكيل للخليفة او صاحب الولاية العامة على الأمة القيام بمهمته الأساسية في حراسة الشرعية بموجب عقد البيعة بحيث تصير شرعية الإمام بالموافقة والرضا وليس بالفرض والإرغام ، بيد أن المستقرئ في طبيعة القواعد العامة ، أو القوانين التي تحكم حركة الإنسان داخل دولة الإنسان ، يلحظ فارقا جوهريا بين القوانين الطبيعية التي تحكم المادة والقوانين الاجتماعية والشرعية التي تنظم المجتمع ، فالقوانين التي تحكم حركة الأشياء تتصف بالضرورة واللزوم وخصوصا كما نراه اليوم ونشاهده داخل الدولة الديمقراطية ، أو المدنية أو العلمانية … ، بينما تتصف القوانين المنظمة للحياة الإنسانية داخل دولة الإنسان بالاختيار والطوعية ، ذلك أن الأشياء المادية تتحرك وفق انساق معينة بناء على ضرورة محضة ، فالعلاقات بين الأشياء هي ذات علاقة سببية ، يتحكم فيها السبب دوما بسلوك المسبب وحركته ، وفق قانون عام مطرد ينطبق على جميع الأشياء المتشابهة بخصائصها النوعية ، لكن نجد في المقابل أن تشريعات وقوانين دولة الإنسان انطلاقا من مفاهيم استخلافها في الحفاظ على روح الوعي ونوع الإنسان وعدالة الإنسان واستمرار الإنسان ، ذات طبيعة خاصة ومتميزة ، لأن السلوك الإنساني بشكل عام متعلق بإرادة الإنسان وحريته وخياراته الطوعية ، وكما أن الإرادة الإنسانية حرة ، فان العمل الإنساني الناجم عن هذه الإرادة يتصف هو أيضا بالحرية والاختيار ، ولأن الإرادة البشرية للإنسان الحر ، والفعل الإنساني الحر ، فان العلاقة بين الأفراد ليست علاقة سببية بل هي علاقة مقصدية بمعنى : إن انسجام أفعال مجموعة بشرية نابع من انسجام مقاصد أفراد هذه المجموعة ، وبالتالي فان خضوع السلوك الإنساني لمقتضى القوانين الاجتماعية هو خضوع ناجم عن التزام الفرد بهذه القوانين ، انطلاقا من قناعاته الحرة وإيمانه بصلاحيتها له ، أي بتوافق مقصد الفعل الإنساني ومقصد القانون الاجتماعي ، فالعلاقة بين القانون الشرعي والفعل الإنساني ليست علاقة سببية يتبع وفقها الفعل مقتضى القانون بناء على ضرورة خارجة عن اختيار الفرد الفاعل لان مفهوم الخلافة داخل الدولة الإنسانية ليس إلا تعبيرا عن تجسيد الاستخلاف السياسي ، لأنه وظيفة بناء نظام سياسي ، يعبر عن المفاهيم والمثاليات التي صاغتها معالم نور الوحي ، فالإسلام لم بفرض نموذجا أو شكلا سياسيا معينا ولكنه وضع مجموعة من المبادئ الكلية والأصول المحكمة التأسيسية ، كذلك مجموعة من القوانين التي تشكل في مجملها نسقا يعبر عن تلك المبادئ والأسس العالمية التوجه ، من ثم تصير أهم قواعد الوظيفة الاستخلافية في المجال السياسي هي بناء النظام القادر على تحقيق أو الاقتراب من ذلك النسق القياسي كما فرضته الأصول المنزلة ، انه نظام سياسي يستند على الحاكمية كأساس للشرعية وسياسة الدنيا بمقتضى الشرع ، بحيث يقوم هذا النظام السياسي الاستخلافي داخل دولة الإنسان على تحقيق مفهوم العدالة الشمولية ، حيث تتجسد حقيقة العدالة كمحور لنظام القيم الإنسانية الكونية والقيمة العليا ، فلا تفهم المساواة إلا في إطارها الصحيح ولايمارس الاختيار إلا بالتزاماتها ، وهي لا تشكل مجرد التزام على مستوى الأداة الحكومية إزاء الأفراد داخل المجتمع ، أو مجرد شرط يجب أن يتوفر في كل من يمارس السلطة ، بل هي واجب على الدولة لكونها دولة إنسان تقوم وفق ولاء تعاقدي داخل الأمة ، ولذلك فهذا المفهوم وهذا القيد في الممارسة لايتجه فقط نحو كل مسلم بل هو يتجه إلى كل الأمة ، مسلما كان أو يهوديا أو نصرانيا مادام يعيش على رقعة جغرافية دولة الإنسان ، ووظيفة السلطة في الدولة الإسلامية ن ترتكز حول تحقيق وظيفة العدالة في أوسع معانيها سواء فيما تعنيه من وظائف تترتب عليها مثل إقامة الحدود والتعزير وغيرها من العقوبات والحدود، نعم قد يلجأ المجتمع أحيانا لاستخدام الضغط لإجبار الفرد على إتباع مقتضى القواعد الاجتماعية بيد أن خضوع الفرد للقاعدة المفروضة ليس خضوعا آليا حتميا ، بحيث يمكن تفسيره وبناء على علاقة سببية ، يكون الحكم القانوني فيها سببا والفعل متسببا ، بل تبقى العلاقة بين الحكم والفعل ، علاقة مقصدية ، ذلك أن الضغوط الاجتماعية التي يطبقها المجتمع على الفرد لفرض سلوك معين لا تؤثر على إرادة الفرد تأثيرا مباشرا ، بحيث يلزم من تطبيق الحكم وممارسة الضغوط فإنها تشكل الفعل وفق مقتضيات الحكم ، بل تؤثر تأثيرا غير مباشر عبر وساطة القوى النفسية للإنسان ، فالمجتمع يحاول تشكيل سلوك الفرد باستخدام الثواب والعقاب ، لكن نجاحه في استخدام الضغوط أو الإغراءات يتعلق باختيار الفرد والخضوع لها ، وقد يختار الفرد عدم الخضوع لأيهما حتى لو أدى اختياره إلى حرمانه أو فنائه وبالتالي نجد أن الطبيعة المقصدية لشرعية القوانين التي تحكم سلوكيات الأفراد داخل دولة الإنسان ، تؤكد أهمية تطابق المقاصد الاجتماعية المتمثلة بالالتزامات الأخلاقية والتصورية ، والمقاصد القانونية ، فبدون هذا التلازم بين الاثنين تصبح التشريعات والقوانين لا جدوى لها ومنها ، وبدونه تصبح سلطة الدولة جلادا لمواطنيها ورعاياها ، فتلجأ إلى استعمال الضغط والقوة المحضة للحيلولة بين الأفراد والخروج على نظامها ، لذلك فعملية التطبيع هي ضرورية لأفراد المجتمع حتى يقبلوا تلك التشريعات والقوانين بعين الرضا ، وكذلك لابد للنظام السياسي الإسلامي داخل دولة الإنسان من اعتماد شراكة حقيقة من شأنها إشراك جميع فئات المجتمع في صياغة القوانين المنظمة وشرعتها من روح الوحي، وكذلك العمل على تحقيق الأمن النابع من انجاز وظيفة العدالة في شقيها الجزائي والتوزيعي (توزيع الثورة ) على مقتضى الشرع والمصالح الشرعية ، وباعتبار إرساء الأمن كوظيفة سياسية ، ووفق هذه التصورات المتناسقة والشاملة هي التي من شانها تحقيق وظيفة التغيير والتطوير وفق قواعد عملية الاستخلاف ، وفي إطار تلازم مقصدية العقيدة بتفرعاتها واختلافاتها ، والوظيفة الاستخلافية لدولة الإنسان بتنوعاتها العرقية وتلويناتها الدينية ، يمكن تحقيق المقاصد الشرعية في إطار تحقيق الكليات أو الضروريات الخمس وبما يؤكد منهاجية التغيير القائمة على أسس نبوغها من عقيدة التوحيد ، لذلك يمكن النظر إلى عناصر ومكونات النظام السياسي الإسلامي من منظور الاستخلاف على انه محصلة لنوعين من الآليات الموجهة للفعل الاجتماعي .
فالأولى : من الآليات والإحكام المؤيدة بالسلطة السياسية للدولة التي تتكفل بدورها بمهمة تطبيقها وإلزام الأفراد باحترام توجيهاتها ، بينما تتكون الآلية .
الثانية : من الأحكام المتعلقة بقرار الفرد الشخصي ، وبالتالي فان المساءلة المتعلقة في النوع الأول من الأحكام دنيوية وأخروية في آن واحد ، في حين تقتصر الثانية على المحاسبة الأخروية ، فتأثير الشريعة في السلوك الاجتماعي يتم ضمن الظروف النموذجية ، من خلال توجيه فعل الأفراد وهذا يتهم وتزويد المجتمع بإطار مرجعي لحل كل المشكلات وتنسيق الجهود ، ويعول على العقاب في مثل هذه الظروف لردع وتأديب الأفراد الغير المنضبطين ، ونقصد بالظروف النموذجية هنا نوعين من العوامل :
- إجماع جمهور المواطنين على احترام المبادئ الأساسية للقانون الشرعي .
- قيام قيادة سياسية تمثل المقاصد العامة والمصالح المشتركة لجمهور المواطنين ، وتعمل على تحقيقها على ارض الواقع .
وفي غياب هذين العاملين يصعب تطبيق الأحكام الشرعية ، ويتحول القانون الشرعي إلى أداة للقهر والإكراه المحض ، وهنا قد يقول قائل كيف نكره المجتمع على قبول الأحكام الشرعية ؟ وأنت تكلمت فيما سبق على أن دولة الإنسان ، تضمن للفرد العدل والكرامة والمساواة ومن مميزاتها عدم إكراه الأفراد ؟ نقول : إن الإكراه لا يكون قبل الولاء التعاقدي داخل الأمة ، أما بعده فقد رضي الفرد ما رضيه المجتمع ، في حين نجد أن مفهوم روح القوانين داخل دولة الإنسان ترد بالإجماع إلى مجتمع المؤمنين وأمتهم ، ولايقصر التشريع على العلماء وأهل الحل والعقد ، مهما يكن وزنهم في رجحان الرأي المتداول للأمة، على مستوى المنظومة السياسية ، والقرآن الكريم عندما ذكر طاعة أولي الأمر ، يعني بها مجتمع المؤمنين وأمتهم ، ويخاطب المؤمنين في أمر النزاع بغية رده إلى الله ورسوله بمعنى جماعة المؤمنين ، والى الاصول العليا والتي هي متجسدة في وظيفة الخلافة ( الإمام ) قال تعالى :” ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ن فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا “[18].
وقد اجمع علماء المسلمين من السلف والخلف على أن الحجة بعد الكتاب والسنة هي الإجماع في الصول الأحكام الشرعية بأدلة كثيرة ليس هذا موضعها ولكن نذكر منها قوله تعالى :” ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصليه جهنم وساءت مصيرا “[19] ، وقوله تعالى :” وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين “[20] ، وقوله تعالى :”سأصرف عن ءايتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وان يرو كل ءاية لايومنو بها وان يرو سبيل الرشد لايتخذوه سبيلا وان يرو سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بانهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين “[21] وقوله صلى الله عليه وسلم: ” لاتجتمع امتي على ضلالة “( الاحالة) ومجتمع المؤمنين امة وقوما أو شعبا يمارسون سلطتهم العليا في الأرض بمقتضى إرادتهم التي تعبر عما في نفوسهم من إعلاء كلمة الشريعة ، والرجوع إلى المجتمع كافة مصدر للأحكام تشريعا يفصل وينزل الشريعة في أمر هام ، هو في ما يؤثر المجتمع أن يتولاه مباشرة قرارا ذا خطر في مصيره أو في نظام أو في السياسية ، والقرآن الكريم يوجه بان يكون القرار بعد مجتمع المؤمنين مباشرة لأولي الأمر منهم ، إما عن طريق المؤمنين مباشرة لأولي الأمر منهم ، إما عن طريق الشورى أو جماعة مجلس القضاء … فالعلماء الأمراء أساسا للقيادة في دولة الإنسان وأهمية العلماء تكمن في ضرورة إدخال نوعية معينة من المؤسسات تصير عماد النظام المؤسس على العلم والخبرة ولما يعني العلم وفق مقصوده وشقيه الشرعي والتخصصي ، والأمة هي قاعدة الدولة الشرعية باعتبارها الجماعة السياسية المنوط بها ، حاكمية الشرع والعقيدة وانجاز الأمانة وتحقيق الاستخلاف وفق مقتضياتها ، وان تطوير بنى وممارسات الدولة تتناسب والظرف التاريخي الخاص ، والبيئة الاجتماعية الموافقة والمساومة للجهد التنظيري ، وبالتالي فان البنى والممارسات الناجمة عن عملية التنظير هذه مقيدة ومرتبطة بالظرف التاريخي المواكب ، كما ان تطوير نظرية دولة الإنسان يقتضي اعتماد مبادئ وقواعد كلية للفعل السياسي مستمدة من نصوص الكتاب والسنة ومعطيات الخبرة التاريخية للأمة ، لذلك فان قضايا المنهجية تتعلق أساسا بقواعد واليات استنباط المبادئ الكلية من مصادرها المعتمدة والتي من شانها انجاز نظام سياسي يقوم على الوحدة بين الحاكم والرعية ، بحيث تشكل أساسا التماسك للنظام السياسي بما تشكله من وحدة المفاهيم والقيم التي تجمع حولها الجماعة ، بحيث تصير قيمة الوحدة والتضامن والإخوة الإيمانية ، قيمة تنظيمية عليا في تكوين الجماعة وتأسيس الرابطة الإيمانية السياسية ، فنظام القيم يشكل في دولة الإنسان النموذج النظامي لنسق القيم في إطار حركي معين ، يتشكل التوحيد محوره وركيزته ، وتضم منظومة القيم السياسية والتي هي العدالة والحرية والاختيار والمساواة ، والتي لاتفهم جميعا إلا في إطار التوحيد من منظور استخلافي وظيفي للإنسان ، بحيث يسود منطق التوحيد في دولة الإنسان مجسدا في كيان الجماعة السياسية : ومن تم نجد أن ركائز دولة الإنسان كما تقدم هي : الكتاب والسنة ومعطيات الخبرة التاريخية .
فنصوص الوحي هي دون شك ، الأساس الأول والمعيار الرئيسي الذي ينطلق منه الإنسان المجتمع لبناء تصوراته واستقاء قيمه وتحديد قواعد فعله وسلوكه ، لكن فهم النص المنزل وتمييز أحكامه يتطلب دراسة الظرف التاريخي الذي واكب نزوله ، ومن هذا المنطلق كان اهتمام علماء السلف يتقصى أسباب النزول ، وبالتالي دراسة التجربة والسياقات التاريخية للدولة الأولى بالمدينة بقيادة رسول البشرية صلى الله عليه وسلم وتحليل الأحداث والممارسات السياسية التي أحاطت بقيام أو نظام سياسي في تاريخ الإسلام ، وكما يتطلب فهم النص دراسة الظرف التاريخي المواكب لنزوله ، فان تطبيق النص على الواقع الحياتي المغاير يتطلب قراءة متأنية للطرف الاجتماعي لتحديد أوجه الالتقاء والخلاف بين الطرفين ، إذ لايمكن تجاهل الاختلاف والتشابه بين الطرفين بتطبيق الأحكام الشرعية وتحقيق مناط الحكم الشرعي، لان عناصر الرابطة التكوينية هي تشكل مقومات وأركان دولة الإنسان وإحياء مفهوم الاستخلاف في الأرض ، ففكرة الخلافة أو الإمامة تجسد مفهوم السلطة من المنظور الإسلامي وتعتبر احد المقومات التأسيسية للدولة الشرعية ، والأمة بدورها كترجمة لمفهوم الجماعة من المنظور السياسي الإسلامي هي الجسد الحي للكيان الاجتماعي الحضاري الإنساني ، والمجال الحيوي لتجسيد مفهوم الاستخلاف والقيادة المتجلية في : الأمراء والعلماء ، حيث تعبر عن تفاعل الأمة في بوثقة الشرعية وتجسيدها في الجماعة والمجتمع بمعنى تطابق وتناغم الشرع وأحكامه ، للواقع الاجتماعي وتكييفه وفق مقتضيات الشرع ( أهل الحل والعقد ) ولقد انتبه الإمام الشاطبي رحمه الله منذ القدم الى العلاقة الجدلية بين النص القانوني والواقع ، فقال رحمه الله :” كل دليل شرعي فمبني على مقدمتين : احدهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم ، والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي ، فالأولى : نظرية ، اعني بالنظرية سوى النقلية ، سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالتدبر ، ولا أعني بالنظرية مقابل الضرورة .
والثانية : نقلية ، وبيان ذلك ظاهر في مطلب شرعي ، بل هذا جاز في كل مطلب عقلي أو نقلي ، فيصح أن نقول : الأولى : راجعة إلى تحقيق المناط ، والثانية : راجعة إلى الحكم ، ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية ، فإذا قلت : كل مسكر حرام ، فلا يتم القضاء عليه حتى يكون بحيث يشار إلى المقصود فيه ليستعمل أو لايستعمل… فلا بد من النظر في كونه خمرا أو غير خمر وهو معنى تحقيق المناط “[22].
إن الحاجة إلى دراسة الظرف الاجتماعي التاريخي ومعرفة حيثياته لتحديد السبيل لتنزيل الأحكام والقوانين على الواقع وهذا أوكد في الدراسات السياسية نظرا لتشابك البنية الاجتماعية وتعقيداتها ، وغموض خصائص الحياة الإنسانية قياسا على خصائص الأشياء المادية إلى ما يحقق أسس الاستخلاف لظاهرة السلطة السياسية من حيث ممارستها لسياساتها وفقا لمصادر الشريعة مبدأ ومسارا ومقصدا وهو ما يشكل جوهر ما حققته دولة الإنسان ، فحينما تمارس السلطة أو تزاول أسباب القوة والجبر من أجل إحقاق الحق وإعمال العزل وإبطال الباطل ودحر الظلم ، تجعل من التلازم بين القوة والشرعية عنصري تكوين الدولة ، فالشريعة دون قوة تدعمها تصبح مثالية غير محققة زمانا ومكانا ، والسلطة بدون نصوص : الشريعة والوحي تصير طغيانا محققا ، فالشريعة توفر للقوة المنهاج وتضمن لها القصد ، فتتحول القوة الى سلطة تكتمل فيها عناصر القدرة والبصيرة ، والقوة تضمن للشريعة ذلك السند المادي الفعال الذي يحول الطاقة الكامنة التي تنطوي عليها الشريعة الى فروض واقعة لازمة التطبيق نافذة المفعول لتقويم مسار المجتمع متجلية في حراسة الدين وهي في هذا وذاك انما تحقق جوهر الاستخلاف وتصير هذه القيمة المحققة في التأسيس.
اتساق الحركة وهي مناط الشرعية التي تضفي على السلطة صفتها ، فهي إما تصير سلطة غير شرعية حيث تفرط في معايير ومقاصد الشرعية ، وإما أن تصبح سلطة شرعية تلتزم بتلك المعايير والمقاصد في منهاجها وغايتها ، هذا التمييز الواضح الذي تقدمه الرؤية الإسلامية بين مضمون القوة كقيمة في ذاتها ودلالات القوة في مسار استخدامها ، لانجد له نظير في مفهوم السلطة كما هو متعارف في مفهوم الدولة المرتبة أو الديمقراطية ويستمد مفهوم الملاءمة بين القوة والسلطة من الخبرة التاريخية التي تعتبر المصدر التاريخي من قواعد بناء الاستخلاف في دولة الإنسان وتكمن أهميتها في حقيقتين :
أولاهما : إنها تمكننا من فهم المحتوى العملي للمفاهيم والقواعد النظرية ذات الطبيعة المجردة ، ذلك أن المفاهيم العامة والقواعد السلوكية الكلية التي يدعونا الوحي لبيانها لايمكن أن يلامس جوهرها إلا من خلال تجليها في سلوك إنساني ، ونموذج واقعي تاريخي ، ومن هنا اهتم كتاب الله بسرد قصص الأنبياء وبيان جهادهم ليكون نموذجا يوضح القواعد والمفاهيم ، ويجعل عملية الاعتبار ممكنة .
الحقيقة الثانية : هي أن الخبرة التاريخية تبين لنا حدود الفعل السياسي وسلطنته ، والشروط اللازمة لتحقيق المقاصد والأهداف : كما تمكننا من تقصي القوانين التاريخية التي تحكم تطور البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتميزيها ، ومن ثم تحديد الوسائل الأنجع لتنظيم الحياة السياسية وفق أحكام الشرع لاشك أن المؤرخين وفقهاء السياسة من السلف قد أدركوا أهمية دراسة الخبرة التاريخية للتنظير للحياة السياسية ، إلا أنهم صبوا جل اهتماماتهم على التجربة الراشدية بشكل خاص ، واعتبروها النموذج العام الذي يجب اعتماده في كل آن ومكان لتأسيس الحياة للمجتمع الإسلامي ، كما انحصر اهتمامهم عند دراسة هذا النموذج في تحليك بنيات السلوك الفردي للصحابة عموما والخلفاء الراشدين خصوصا ، متجاهلين القواعد والمبادئ العامة التي وجهت أفعالهم والظروف الاجتماعية والتقنية التي قيدت قراراتهم ، وهكذا تم تطوير نموذج الإمامة أو الخلافة وفق منهج تجزيئي واختزالي ، فاعتبرت الإمامة خلافة للنبوة ، وألحقت مهمة اختيار الإمام أو الخليفة بفريقين : أهل الإمامة ، وأهل الحل والعقد واشترط في الإمام شروط نظرية ، استخرجت من اعتبارات وحيثيات تاريخية ، وتم انتقاءها بطريقة اعتباطية أحيانا ، فالخليفة يعين إما باختيار أهل الحل والعقد أو بعهد من الخليفة السابق ، اتباعا لعمل الخليفتين الأول والثاني ، كما يعين أهل الحل والعقد وفق شروط نظرية ، ولايشترط اجتماعهم من مختلف أقاليم الدولة ، بل يكفي حضور من أقام منهم في عاصمة الخلافة ، بل يمكن الاكتفاء بفئة قليلة لاتزيد عن خمسة وقد تنقص إلى رجل فرد وفي هذا الإطار الذي يحدد للشرعية مناطها وللسلطة طبيعتها ووظيفتها يبقى التنويه في هذا المقام إلى استقاء الأصول الأساسية لدولة الإنسان روح الوحي ومنهاج الشريعة لإعادة بناء مفهوم السلطة وفق منظوره الإسلامي ومتابعة ذلك في إطار التنظير النبوي والخلافة الراشدة في تاسيس الدولة على بنى الشرع ، بحيث هذا لايعني أن يقتصر الاجتهاد من العلماء على هذا المجال فحسب احياء نمط تاريخي بعينه للدولة الإسلامية باعتباره نمطا تنظيميا عرفه أو عاشه الكيان الاجتماعي الحضاري في لحظة مضت ، ولكنها تتضمن وتنطوي على جوهر وطبيعة الطور الحضاري والاجتماعي المعاصر بكل ما تقتضيه من دواعي وما يتجه من انعكاسات ، وكذلك ما تعتريه من مآخد وما تنضوي عليه من تجاوزات وتوترات داخل النظم الوضعية ، القائمة اليوم ، والسير بها في إطار فقه الواقع إلى آفاق الممكن والمتاح بحكم إعمال جوهر ووظيفة النسق القياسي الذي يجد تأسيسه في الشرع ، وبحيث تتفاعل مناهجية الاجتهاد والتغيير ، وفقه الأحكام وفقه الواقع في طرح أنماط تنظيمية جديدة تسند إلى مبدأ الكتاب والسنة مسارا ومقصدا ووسيلة وغاية ، بحيث تتحول مفاهيم النسق القياسي وقيمه الاساسية الى تجسيد محقق يجعل من ممارسة مناهجية الاجتهاد حقيقة واقعة وليست لاجترتر الجهود التي تتسم بالتلفيق والترقيع ، ومن هنا لابد من تحليل أفعال الأفراد المشاركين في الحدث أو الخاضعين للظاهرة السياسية ، بغية إبراز محدداتها ، ونعني بمحدداتها في الفعل أمرين : مقاصده وقواعده ، فيقصد الفعل يتحدد بالهدف الذي تسعى الدولة الفاعلة لتحقيقه أو تحصيله ، أما قاعدته فتتعين بأمرين : احدهما: نعني هو الدافع الذي يقف وراء الفعل ويحفز الفاعل للقيام بالفعل ، والآخر ذهني عضوي وهو المهارة التقنية التي يملكها الفاعل ، والتي تيسر له مهمة تحصيل المقصد ، ولتوضيح مركبات الفعل السياسي وطريقة تحليله ، وان هذه المركبات ليست منفكة أو منفصلة عن بعضها البعض ، بل هي *** متشابكة ، فالقاعدة التقنية ليست منفكة عن القاعدة الأخلاقية أو المصلحية ، بل إن الثانية : منها تعين حدود الأولى ، لأن الفعل السياسي لايتم في فراغ ، بل في وسط اجتماعي ، وجب على النظام السياسي الإسلامي ربط أفعال الأشخاص المتفاعلين ضمن حدث أو ظاهرة معينة ، وهذا يتطلب تقسيم المجتمع الإنساني إلى جماعات سياسية وفق خطوط التشابه ، والاختلاف في مركبات أفعال هذا المجتمع .
إن تصنيف الجموع الهائلة من الأفراد في مجموعات وتوجهات متباينة ، يجعل دراسة الظاهرة السياسية أمرا ممكنا وميسرا ، لأنه يختزل الأعداد السكانية الكثيرة التي تشكل المجتمع الإنساني إلى وحدات متعددة ، ويمكن تحديد خصائصها السلوكية والقيمية ، من خلال تصنيف أفراد المجتمع إلى جماعات سياسية متجانسة داخليا ومتباينة خارجيا ، ومن هنا يمكن تحديد القوانين العامة لتفاعلها ورسم منحى علاقاتها ، وفي مقدمة هذه القوانين التي نجعلها كقواعد لدولة الإنسان بالمفهوم الاستخلافي ، مبادئ التعاون والتصادم أو الاتحاد والفرقة بين مختلف مكونات الجماعات ، وقوانين الهيمنة والخضوع ، إن تمييز القواعد والقوانين التي تحكم حركة الجماعات السياسية وتنظم علاقاتها ، هو الهدف الرئيسي لأي جهد تنظيري داخل دولة الإنسان ، إذ لايمكن تفسير الظاهرة السياسية بالمفهوم العام للأمن خلال معرفة القوانين التي تحكم حركة المجتمع الإنساني عبر الزمان والمكان ، ومن هنا نجد أن القواعد الكلية التي يشكل مجموعها قواعد الاستدلال الفعلي ، خطوات متكاملة ، يأخذ بعضها برقاب بعض ، فالأولى تدلنا على تحديد مقصد الفعل السياسي والياته وقواعده ، بينما تتعين الثانية من خلال البنى السياسية والوظيفية المنوطة بها لمختلف جماعات الأمة السياسية ، في حين تربط الآلية الثالثة، شتى مكونات الجماعات السياسية وتحدد أهدافها والقوانين التي تتحكم في فاعليتها حتى لاتسقط مفاهيم دولة الإنسان في نمطية التوجهات الاخوانية التي قادها الربيع العربي إلى الحكم في أكثر من بلد عربي وإسلامي ، ومن المؤكد هنا أن معظم من يمثل هذا التوجه لمفهوم دولة الإنسان ، يعتقد ضرورة دراسة الواقع ، كما انه يعلم ان صياغة القوانين يجب أن تلحظ سرعة تبدل الواقع ، إلا أنهم بنوع من التعنت المنهجي يطالبون بوضع هذه البرامج التفصيلية مسبقا ، بما يعني القفز على الواقع ومتطلباته ” بينما نجد في مقام محاربة الإسلام ونظامه السياسي بالحجة ونقيضها من يقرر جمود المشروع الإسلامي ( الاخوان خصوصا ) ، نظرا لأنه تعرض لتفاصيل نظامية ، وحقيقة الأمر أن هذا التوجه يعاني من مجموعة من الأخطاء تبرز تناقضه وفهمه المغلوط للواقع وأخيرا فهمه لطبيعة الإسلام كرسالة تشمل الروح والحياة ، وصلاحيته لكل زمان ومكان ومناطق الثبات والتغيير وهو مايجعله ضمن التوجهات التي تتصدى للنقد المشروع الإسلامي واتهامه بالتقصير في مجال صياغة النظام السياسي بلا بينة أو دليل ، حيث انه من المسلم فيه ان النظام السياسي الإسلامي داخل الأمة ، يختلف من حيث تكوينها وثقافتها وتصوراتها وقيمها عن الأمم الأخرى ، ولان البنى والممارسات السياسية ترتبط ارتباطا وثيقا بالمتغيرات الثقافية والقيمية ، فان النظام السياسي لأمة ما ، يرتبط بخصوصياتها التكوينية والتاريخية ، حيث نجد أن بعض الجماعات الاخوانية في بعض الحكومات داخل البلدان العربية اليوم ، والتي اقتبست واستعارت بالمؤسسات الغربية دون اعتبار الرابطة الوثيقة بين الوعي السياسي والتاريخي لأفراد المجتمع والمؤسسات السياسية المهيمنة فيه من خلال النظام الديمقراطي من مجالس نيابية وأحزاب سياسية وغيرها ، بطريقة تحقق المقصد والغاية المنشودة منها ، فالبنى والممارسات السياسية ليست منتجات وسلع استهلاكية يمكن الاستفادة منها في أماكن بعيدة ، عن موطنها الاصلي ، ولكنها افعال تبادلية وعلاقات انسانية تتبع من ضمير الجماعة السياسية ، وترتكز في وعيها التاريخي ، فلابد من تأسيس النظام السياسي للأمة على القواعد الأخلاقية والسلوكية بكل مكوناتها ، ويبقى الاجتهاد السياسي النظامي في إطار صياغة الآليات والقواعد والمؤسسة التنفيذية لكل مرحلة من مراحل النمو والتطور الحضاري ، فرض كفاية للاخصائيين من العلماء ، ذلك اذا لم تتم الصياغة والممارسة لمرحلة معينة ، فكيف تتم للمراحل التالية ، إلا وأن تصاب بضعف التجربة ولايستقيم لها أمر في أية مرحلة حين يهبط مستوى الإيمان والعلم والخبرة والكفاءة والأمانة المطلوبة والواجبات القائمة في كون أهل ذلك المستوى رمزا وشعارا فحسب دون أن يمثل للطاقة المتحركة والقدرة المناسبة ، ولكن يستقيم الأمر حين تأخد الطاقة المناسبة مكانها المناسب ومستواها الحق ، ذلك أن الجماعة السياسية من حيث إيمانها داخل دولة الإنسان بأن تضيع أسلوب اتخاذ القرارات والتنظيمات المؤهلة كذلك وفقا لاعتبار الواقع الذي تعيشه تلك الصيغة السياسية بحث لاتصطدم مع قاعدة الإيمان ولا تعطل حقا ولا حدا ولا طاقة ولا أمانة ومن ثم نجد أن هذه الآليات والنظم تختلف من مرحلة إلى مرحلة ومن عصر إلى عصر ، لأن أوجه التنوع و الاختلاف هي نتيجة طبيعية للجهد البشري، المؤمن الملتزم وهو يمارس إيمانه مع الواقع المتجدد، بيد أن تأكيدا لطبيعة الخصوصية للنظام السياسي لاتعني ، بأي حال ، أن دراسة الأنظمة السياسية والخبرة التاريخية للأمم المغايرة غير مجدية أو مفيدة ، ذلك أنه جانب البعد التصوري القيمي في التجارب السياسية للأمم الأخرى يمكن للراصد أن ليحظ تقنيا ابداعيا ، تتعلق بنجاعة الوسائل والخطط المستخدمة لتحقيق هدف ما ، بحث نجد أن الطبيعة الكلية لهذه الآليات والقوانين تعود بالأساس الى عملية الانتقال المشخصن إلى المجرد في سلسة متعاقبة من الإجراءات التجريدية ، يتم خلالها تحديد الأحكام النصية والقواعد السلوكية العامة ، ثم تعين المبادئ والآليات والتصورات التي تحكم الوحدة الداخلية لأصناف النصوص والأفعال والعلاقات بين الأصناف ، حتى نصل أخيرا إلى المقاصد الكلية للنصوص والأفعال بعد عملية الاستقراء.
قد تسهم منهاجية المقارنة في إبراز التميز والخصوصية لنسق المشروع الاسلامي في انجاز دولة الإنسان ، وهو مايعني أنها تتميز عن مختلف الأنساق والنماذج التي قدمها خبراء تاريخية مغايرة ، خاصة الخبرة الغربية مثل : الدولة الدينية او المدنية … ومن هنا نجد أن الفرق شاسع بين دولة الإنسان وغيرها من الدول والاصطلاحات خصوصا ماعرفته أوروبا في القرون الوسطى ، رغم أن كلا من المدنية والدينية تنطلق من الدين كمرجعية وتتخذه الإطار العام للتنظيم السياسي إلا أن الدولة الدينية قد افتقرت إلى المرونة واتسمت بالجمود النابع من ارتباطها بمؤسسة معينة ( الكنيسة أو رجال الدين ) التي تحكمت بشكل أو بآخر بمصدر صياغة القواعد التي تسير عليها الدولة ، وحملت هذه القواعد صفات القداسة التي تحول دون التطور أو الاستجابة للتطور الاجتماعي ، بحيث أخفقت المؤسسة صاحبة الحق في تفسير هذه القواعد والتصورات في القيام بهذه المهمة التطويرية وعلى خلاف ذلك يقف نموذج دولة الإنسان ، الذي يجعل منطلقه وقاعدته نورا الوحي ومفهوم الاستخلاف ، كإطار للتأسيس تحدده عقيدة سماوية تضع المبادئ العامة دون الأشكال التطبيقية والتفاصيل التي تتركها لظروف ومتطلبات المجتمع الزمانية والمكانية بمختلف تلويناته وتجلياته ، كما نجد انه داخل دولة الإنسان ، حق تفسير القواعد : بمعنى استنباط الأحكام من الأصل ==== ليس حكرا على احد ، وإنما هو ملك لمن يكتسب أهلية الاجتهاد والاستنباط ، كما أن الحاكم ليس معصوما ، وتشكل فيه الشورى قاعدة تنظيمية أصولية في دولة الإنسان ، كما نجد أن هذه الأخيرة تختلف عن غيرها من مفاهيم “الدولة” خاصة فيما تتسم بها قواعدها من جمود أو افتقار إلى الذاتية في التطور لمجابهة التطور الاجتماعي ، ويعود ذلك إلى مصدر وطبيعة هذه القواعد ذاتها ، فهو مصدر بشري وضعي قاصر ومحدود الرؤية ، بينما دولة الإنسان تنتفي منها صفة الجمود ، بحكم الأصل الإلهي لهذه القواعد وتاسيسها كما يضفي عليها طابع الصلاحية بكل وقت وحين ، لاسيما حكم الأهلية والشروط المنوطة بعملية الاجتهاد والتي يتعين فيها فقه الواقع والإلمام بمنطق العصر بصورة متلازمة مع فقه القواعد والأحكام والأصول الفقهية ، بحيث يمكن القول ان حدوث صفة الجمود في دولة الإنسان وان وجدت لاتعود بحال إلى عوامل هيكلية راسخة في النظام السياسي الإسلامي ذاته ، بل تعود إلى ضعف الية الاجتهاد وقوى الدفع فيها حيث يرد ذلك إلى تصور المجتهدين للقيام بأعباء الاجتهاد ومناط التكليف وفق شروطه ومقتضياته ومدى اجتهاد المجتهد في تقييم الواقع وفهم خصوصيته ومتطلباته ، لاشك ان هذه الفوارق والاختلافات رغم تباينها تبقى نظرية الاستخلاف في دولة الإنسان على قدر كبير من العموم ، لانها تاخد بيعن الاعتبار كافة الجزئيات المتعلقة بالنظام السياسي ، متمثلة في مصدري التشريع والمعرفة ، الوحي ومقتضيات الخبرة الإنسانية ، وبالتالي ارتباط صوابية الأحكام واتساق القاعدة مع استمرار هذه الأنساق إلى المستقبل ، بمعنى أن أي تغيير في انساق الفعل أو بالتركيب الاجتماعي تقتضي تعديل القواعد ، بما يتوافق مع طبيعة التغيير وكذلك اعتماد النظرية على قدرات المنظر الفكرية ومهاراته التحليلية إلى متطلبات الواقع والتركيبة الاجتماعية ، فإذا أخدنا بعين الاعتبار فقدان الفكر البشري للعصمة من الوقوع في الخطأ أو الوهم ، وانحصاره في حدود زمان ومكان معينين ، اركنا أن ناتج هذا الفكر يحتاج دوما إلى النقد والتعديل ، كما نجد إن الاختلاف بين مفاهيم دولة الإنسان مع غيرها وخصوصا الدولة المدنية أو اليدمقراطية التي برزت في خضم الخبرة الحضارية الغربية كمقابل لنموذج دولة الكنيسة أو الدولة الدينية ، وقيمتها العليا للحرية ، وضماناتها البيانية للقانون ، وأساسها الفلسفي : الفردية ، والمنطلق الذي يسودها : العقلانية أو الزندقة أحيانا ، وهي لهذا إذ تفرض التعددية في بنية المجتمع حيث يصير لتضارب بين المصالح الحقيقية الأولية فيها ودور القانون ضرورة لازمة لترويض التضارب بين هذه المصالح إلا أن القانون و القواعد والسياسات والقرارات ليست في النهاية إلا انعكاسا لميزان القوى بين أطراف الصراع وربما تلقى الدولة بحقلها الى جانب اخذ الأطراف ، بين الدولة الإنسانية ، تعد المصالح فيها شرعية منظبطة بالشروط والحدود ويتحكم فيها إلى الشرع ومقاصد الوحي الإلهي ، كما أنها تحمل سمات التنوع ولكن في إطار الوحدة ومن باب اختلاف التنوع لا التضاد ، بحث لايعد هذا التنوع في الدولة الشرعية انحرافا يبرر العنف ، حيث تهمة الهرطقة والعقائد تصبح عمليات تطهير ، وهي من حيث كونها دولة عالمية كما تقدم مختلف عن الديمقراطية او المدينة التي تفرض الصراع كأساس للوجود الاجتماعي ، فإذا كانت الدولة المدنية تتميز بارتباطها بالعقيدة والوظيفة التوحيدية ، فإنها في ذات الوقت نسق متكامل في منظومة ، وان تشابه مع بعض مظاهر الأنماط الأخرى ، فانه تشابه يأتي عرضا لا اتفاقا ، فضلا عن ذلك فان رؤية هذه الخصائص في شكل منظومة هو أمر يجعل من عملية الجمع ، عملية كيف ، تحقق أغراضها في تجنب معايب ، كل نموذج في إطار فهم تميز دولة الإنسان من منطلق الاستخلاف باعتباره نسقا كليا متكاملا ، ومن ثم نجد أن إخضاع نظرية دولة الإنسان من حيث نظامها السامي الإسلامي ، للنقد والتعديل ، هو السبيل الوحيد لحفظ وتكريس طبيعتها العمومية ، وبدونهما لايمكن للنظام السياسي الإسلامي داخل دولة الإنسان بعالميته ، أو أي نظرية أخرى أنتجها جهد بشري ، من الاحتفاظ داخل دولة الإنسان تعاليمه ، أو أي نظرية أخرى أنتجها جهد بشري ، من الاحتفاظ بصيرورتها وحيويتها ، بل لا تلبث أن تتحول إلى نظرية منفكة عن التصور التاريخي للحياة البشرية ، وغير قادرة على إنتاج سياسات اجتماعية أو اقتصادية … على توجيه الفعل وتنظيم الحياة السياسية ، وإذا نظرنا إلى واقعنا العربي المعاصر اليوم ، لايمكن أن تقوم له قائمة ولو بعد الربيع العربي إلا بمعرفة أهم سمة تميزه فيما يمكن ان نطلق عليه بالسلطة العلمانية ، وهي من حيث المفهوم والمظهر والمضمون تشكل أسس السيطرة على هذا الواقع العربي المعاصر بجوانبه المتناقضة ، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية وعلى العموم الحضارية ، وبعد تسليط العلمانية اللادينية من اخطر المراحل من حيث الآثار السلبية على منظومة الحكم والتبعية للغرب حتى أصبحت العلمانية غربية أكثر من الغرب نفسه ، مما يستدعي ضرورة تحليلها و تفسيرها وتقويمها ، حيث تتميز بالتشابك تارة وانفصام الشخصية تارة أخرى ولاسيما أن الدين قد ظل له دورها مشي ، مما جعل الالتباس والقصور في الحكم على سلطة العلمانية أمر شائعا خاصة بصدد مسالة الشرعية ، وهو أمر يفرض بدوره التحرز المنهجي بما يعني : التأني في الحكم على الأنظمة العربية بالشرعية من عدمها ، ذلك أن الحكم على الواقع العربي والنظم المرتبطة به بعدم الشرعية لايقل خطورة عن الحكم بشرعيتها وبما يعني أن مسألة الشرعية برمتها مزلق خطير يفترض ضرورة اليقظة ، فلهذا نجد أن دولة الإنسان من منطلق الاستخلاف لابد أن ترتكز على مبادئ يمكن إجمالها فيمايلي :
- شرعية التأسيس من حيث مبدأ الالتزام بالإطار الفكري والعقدي وان مصدر التشريع والقانون هو روح الوحي ومقاصد الشريعة.
- شرعية ممارسات السلطة التنفيذية من حيث تكييفها الشرعي وفقا لعناصر التأسيس بما يحقق الفصل التام بين السلطة ودور الخليفة الوكيل عن الأمة .
- شرعية استناد السلطة و ” الولاية ” الإمامة من حيث توافر الشروط والطريقة و الكيفية التي تعد مثلا حقيقيا لحقائق الاختيار والرضا والبيعة والعقد.
- شرعية الخروج على الحاكم والإمام بما يحقق تأسيس العقد وممارسة الطاعة على الوجه الأكمل ويتيح حراسة الدين على الوجه الأمثل.
- النظام السياسي من حيث السلطة والنظام العالمي .
- مؤسسة العلماء والقيام بوظيفتهم واستقلاليتهم المادي والمعنوي
- شرعية الرعية في حركة أفرادها واختلافها نوعا وعقيدة من حيث حركية الجماعة في الأمة وتقصيرها من عدمه وفي هذا الإطار فان إثارة هذه المبادئ من شانه تمييز طبيعة وخصائص كل من الحاكم الكافر، والعادل والجائر والفاسق و المستبد بشرع الله وفقا لما تناولته مفاهيم دولة الإنسان في المنظور القرآني من حيث أنها تجمع عقدي قيمي ناجم عن تفاعل أفراد من التريع مبادئ كلية وقيم عامة تتجاوز الخصوصيات الطبيعية التي تمايز بين الأفراد داخلها من كون أو عرف أو لغة أو إقليم .
[1] – سورة القصص الاية 05.
[2] – سورة الأعراف الآية 185 .
[3] – سورة الأعراف الآيات 9-10
[4] – سورة المؤمنون الاية 71.
[5] – سورة ص الاية 26.
[6] – سورة البقرة الاية 30.
[7] – سورة النور الاية 55.
[8] – انظر الاحكام السلطانية ص 05.
[9] – سورة البقرة الاية 267.
[10] – سورة البقرة الاية 278.
[11] – ال عمران الاية 118.
[12] – سورة التوبة الاية 122.
[13] – سورة ال عمران الاية 104.
[14] – سورة البقرة الاية 143.
[15] – سورة المائدة الاية 48.
[16] – انظر مقدمة ابن خلدون
[17] – سورة البقرة الآية 90
[18] – سورة النساء الآية 59.
[19] – سورة النساء الآية 115.
[20] – سورة الاعرف الآية 142.
[21] – سورة الاعراف الآية 146.
[22] – انظر الموافقات في أصول الشريعة : 3/43-44 للامام ابي اسحاق الشاطبي اللخمي.
إرسال التعليق