
منحة الأحزاب السياسية؛ حق قانوني للأحزاب، أم ابتزاز سياسي من طرف الدولة؟
رصد المغرب /عبد المولى المروري
بهدوء أيها الأفاضل.. ولا داعي لا للاستعجال.. ولا للاستعداء .. الصراحة تكون أحيانا مؤلمة، وصادمة، والوضوح يكون في غالب الأحيان محرجا للبعض، لأنه يضعهم أمام مسؤولياتهم ويواجههم بالحقيقة التي يحاولون إخفاءها أو الهروب منها.. لذلك صبرا، ولا داعي للعجلة أو العداوة المجانية..
سوف أوضح الأمر ببساطة شديدة، بعيدة عن أي تشنج أو توتر.. ولكن بلغة صارمة تتناسب مع بعض التعليقات التي سمح أصحابها لأنفسهم التهكم أو السخرية، أو التشكيك.. أو غير ذلك من أساليب التهجم التي بدل أن ينفذ أصحابها إلى عمق الإشكال، لا الوقوف عند سطحه والاكتفاء بتناول قشوره..
هناك تعليقان ارتأيت تخصيصهما بالحديث، الأول عن القانون، والثاني عن الحق..
الأخ الذي قال إن المنح التي تسلم للأحزاب مؤطرة بالقانون، وإذا رجع الأخ الكريم إلى تدوينتي، سيلاحظ أنني أشرت إلى ذلك بوضوح تام، فهذا الأمر لا يمكن أن يفوتني أبدًا.. ولكن لنعد إلى القانون نفسه، ونطرح الأسئلة التالية:
هل كل ما نص عليه القانون هو فعلا قانوني بالمعنى العلمي للكلمة؟
هل كل قانون يكتسي هذه الصفة فعلا؟
هل كل قانون صادر عن الهيئات المختصة بالتشريع ووضع القوانين يضمن الديمقراطية؟
هل كل قانون يتم العمل به يضمن فعلا حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا؟
هل كل قانون يحقق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص؟
لنضرب أمثلة على ذلك؛
التعديلات التي همت القانون رقم 97.9 المتعلق بمدونة الانتخابات التي انصبت على أربع قوانين تنظيمية.. والتي صادق عليها البرلمان، التي كانت موضوع سخرية واستهجان من طرف العديد من المهتمين، وكانت موضوع طعن من طرف حزب العدالة والتنمية لدى المحكمة الدستورية… ألا يُعتبر ذلك قانونا؟ ماذا كانت النتيجة؟ المحكمة الدستورية رفضت طعن الحزب، وأقرت دستورية ذلك القانون المهزلة.. فهل يؤمن به من يشاطر الأخ تعليقه كقانون يحقق الديمقراطية على الوجه السليم؟ فهل كل قانون يحقق الديمقراطية؟
نأخذ مثالا آخر عن القانون؛ القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات المحلية، هل يحقق هذا القانون – الذي صادق عليه حزب العدالة والتنمية نفسه – الديمقراطية داخل المجالس الجماعية؟
كل من قال نعم، فإنه لا يفقه شيئا في هذا المجال!
يكفي العلم أنه لو صادق المجلس الجماعي بالإجماع على نقطة معينة، ثم عارضها ممثل السلطة (قائد، باشا أو عامل، أو حتى الكاتب العام) فإنها لن تمر أبدًا، كما أنه لو صادق المجلس المنتخب كله بالإجماع على الميزانية فإنها لن تصرف ما لم يؤشر عليها رجل السلطة المعين، بمعنى أن المجلس الجماعي المنتخب برمته لا يساوي شيئا أمام رجل سلطة واحد معين!! هل هذا القانون يسمح للتدبير الجماعي أن يمارس عمله ودوره بشكل ديمقراطي؟
رجل السلطة المعين يخول له هذا القانون تعطيل أعمال المجلس أثناء اشتغاله في حالة ما ذهب إلى المرحاض أو إجراء مكالمة هاتفية، ويصبح انعقادها وقراراتها في غيابه باطلة ومخالفة للقانون..
وللتذكير لمن نسي.. وللعلم لمن لا يعلم، فإن جماعة الرباط منعت من ميزانيتها لمدة سنتين بسبب رفض الوالي التأشير على هذه الميزانية رغم حصولها على أغلبية أعضاء المجلس.. تم تعطيل مصالح العاصمة باسم القانون هذا!! وما يزال رئيسها السابق تحت رحمة متابعة جنائية لم يغلق ملفها بعد.. كما هو الشأن بالنسبة لرئيس جماعة سلا لمريسة السابق الذي ما يزال ملفه موضوعا على مكتب قاضي التحقيق.. والعديد من مستشاري الحزب ورؤساء الجماعات والمقاطعات ما يزالون تحت المصير نفسه في انتظار المجهول القادم..
يمكن لرجل السلطة المعين توقيف مستشار خرج عن طوعه، وله أن يطلب عزله من المحكمة التي غالبا ما تستجيب لهذا الطلب.. ولقد قمت بالدفاع عن العشرات من مستشاري الحزب ورؤساء الجماعة الذين تم عزلهم ظلما وعدوانا ومن غير وجه حق، وكنت شاهدا على الابتزاز والمضايقات التي كانوا يتعرضون لها باسم هذا القانون..
في المغرب، المستشار الجماعي المنتخب لا يساوي شيئا أمام عون السلطة أو القائد المعين، ورئيس الجماعة لا يساوي شيئا أمام العامل، ورئيس الجهة لا يساوي شيئا أمام الوالي، والبرلماني لا يساوي شيئا أمام وزير الداخلية، والحكومة بجميع وزراءها لا تساوي شيئا أمام الدولة، ورئيس الحكومة لا يساوي شيئا أمام الملك.. هذه حقيقة واقعية بطعم قانوني لا يمكن إنكارها.. وكل المنتخبين والسياسيين تجرعوا من كأس رجال السلطة ورجال الدولة جرعات من الإهانة والتضييق والملفات المفبركة.. فلا داعي للمكابرة أو التحرج من هذه الحقيقة!!
ونضرب مثالا آخر عن القانون؛ وهو قانون المسطرة الجنائية، هل فعلا يحقق ما يكفي من ضمانات للمتهم حتى يستفيد من محاكمة عادلة؟
فبحكم الممارسة والتجربة التي تغيب عن العديد من الذين يعجبهم التشبث بالقانون والإدلاء به كحجة في مواجهة من ينتقد أمرًا معيبا في القانون نفسه، وليس في مجال تطبيقه، أقول لهم إن قانون المسطرة الجنائية الحالي يقوض شروط المحاكمة العادلة ويقلل من ضماناتها إلى أدنى مستوى يمكن تصوره، شأنه شأن القانون التنظيمي المتعلق بالجماعات المحلية الذي يقوض العملية الديمقراطية في هذا المجال..
حرمان المتهم أو المشتبه فيه من الاستفادة من حضور دفاعه أثناء مجريات البحث التمهيدي يتم بمقتضى قانون المسطرة الجنائية، والبحث التمهيدي هو الذي يحدد مجرى المحاكمة ومصير المتهم.. وهذا ما تواجهك به النيابة العامة.. ولا يخفى على اللبيب أن مرحلة البحث التمهيدي وصياغة محاضر معيبة ومختلة ومفبركة دمرت حياة العديد من الأبرياء..
الدفع بقانونية الإجراء ليس حجة على صحة وسلامة وصوابية هذا القانون، ونضرب أمثلة أخرى عن هذا..
أليس باسم القانون تم إعفاء الوزير مولاي حفيظ العلمي الطلابي من مبلغ 40 مليون دولار بعد إدخال مادة الإعفاء الضريبي في قانون المالية خلال ترأس حزب العدالة والتنمية للحكومة؟
أليس في إطار القانون تم تهريب مهمة الأمر بالصرف المتعلق بصندوق التنمية القروية من يد عبد الإله ابن كيران في عهد ترؤسه للحكومة ليستقر في يد غريمه عزيز أخنوش، وباقي القصة معروفة؟
ألم يتم صرف الدعم الذي المقدر ب 13 مليار الذي ابتلعه 18 من شناقة عيد الأضحى باسم القانون وفي إطاره؟
أليس المنح التي تعطيها وزارة الاتصال للصحافة المغربية هي منح قانونية؟ كيف هو حال هذه الصحافة اليوم منذ بداية صرف هذه المنح إلى اليوم؟ أليس وضعا كارثيا مخزيا ومؤسفا؟ إلا من رحم الله وقليل جدا ما هم؟ علما أن الصحافة اليوم أصبحت عبارة عن شركات ومقاولات خاصة، في حين أن الأحزاب والنقابات هي تنظيمات مدنية تعتمد بالأساس على التطوع وتضحيات أعضاءها والمتعاطفين معها، وعلى اشتراكاتهم وتبرعاتهم..
الدول المغرقة في السلطوية، والتي تعيش على وقع تضخمها لا تعطي هذه المنح مجانا أو من أجل دعم الأحزاب والنقابات، أو من أجل سواد عيونها، فنحن لسنا في السويد أو الدنمارك أو النورويج للاستشهاد بهم في هذا المجال، فهناك في تلك الأنظمة احترام حقيقي للقانون، تحت رقابة فعلية لبرلماناتها، ورقابة قوية استقصائية لصحافتها… حيث القضاء مستقل حقيقة، ولا مجال في بلدانهم لمناورة الدولة أو ابتزازها أو استبدادها..
هذه القوانين التي تعطي منحا مالية في الدول الاستبدادية ما هي إلا وسيلة لمساومة وابتزاز الأحزاب والنقابات، أكثر منها وسيلة لدعمها وتقويتها.. من يصدق أن دولة مثل المغرب يكون من بين أهدافها تقوية أحزابها ونقاباتها؟ هل بلغت السذاجة بالبعض إلى هذا الحد؟ أفيقوا من غفلتكم يرحمكم الله!!
أما كما تفضل أخي العزيز عزيز بنبراهيم بأن «الحزب يطالب بحقه القانوني ولا يستجدي أحدًا ولكن يستنكر عدم صرف مستحقاته في وقتها»، فهذا هو المبتغى ومربط الفرس..
الدولة تسن قانونا يسيل له لعاب الأحزاب، ثم تطبقه حسب مصالحها وأولوياتها وشروطها، ثم تجود به لبعض الأحزاب بسهولة ويسر.. وقد تمنعه عن البعض، ثم يتحرك المتضرر الذي يعتبره «حقا مكتسبا» للمطالبة به، بعدها يجلس الجميع على طاولة التفاوض أو الشروط أو المساومة أو الابتزاز حسب الظروف والحالات.. وقد تندرج هذه المنحة عند بعض الأحزاب كرشوة سياسية للقيام بأدوار تخدم مصلحة الدولة.. هكذا هو الأمر في الدول التي ضلت طريقها نحو الديمقراطية، وخرجت عن مسار الشفافية والنزاهة والحياد السياسي.. لا تتوهموا شيئا غير هذا..! ولا تكونوا مغفلين إلى درجة يرثى لها..!
لقد أصبح هذا القانون حقا مكتسبا، وهذا هو الفخ الذي تسقط فيه «جل» الأحزاب والنقابات إن لم يكن «كلها» التي لم تفطن لهذا الفخ.. هذه التنظيمات تطلب حقا (أو حبلا) يطوق عنقها، ويكبل يديها، ويعرقل حركتها، ويدخلها طوعا أو كرها إلى بيت الطاعة.. طبعا ليست كل الأحزاب والنقابات سواء في هذا، وإنما بنسب متفاوتة.. والتساوي بينها في أنه لا أحد منها سيسلم من الابتزاز والمساومة، والاختلاف فقط في نسبة نجاح ذلك بالنسبة للأطراف.. حسب قوة وضعف كل حزب أو نقابة..
وبالمختصر المفيد، وفي الحقيقة، هذا القانون «حق» أُريد به المساومة والابتزاز، وليس الدعم وتقوية الأحزاب والنقابات كما يتوهم البعض..
فالدولة التي تتلكأ في صرف الدعم، أو ربما إنها (الآن) تتجه إلى حرمان الحزب منه، لن تعدم وسيلة قانونية إذا أرادت ذلك.. ولن يخفى عليها إيجاد وسيلة قانونية أخرى من أجل التعجيل بصرفه.. المشكلة إذن ليست في القانون، فالقانون طَيِّع ليِّن وحمَّال أوجه، يؤوله القوي وفق هواه ومصالحه.. المشكلة في خلفيات هذا التماطل أو (ربما) هذا المنع المرتقب!؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نمتلك الشجاعة للإجابة عنه!!
إذن، هناك احتمالان؛ الأول هو أن تماطل الدولة في صرف هذا الدعم، الأمر الذي سيواجهه الحزب بالاستنكار العلني والاحتجاج المؤدب.. وهي مناسبة لفتح حوار سياسي أكثر منه قانوني بين الدولة والحزب.. (هذه هي الحقيقة التي يجب الإقرار بها وقبولها على حالها ولا مفر منها). هذا الحوار قد يأخذ شكل تفاوض، أو وضع شروط من طرف الدولة (الممثلة بوزارة الداخلية)، أو قد يأخذ شكل ابتزاز ومساومة، وهذا هو الخطير في الأمر.. أما الجانب القانوني أو التقني أو الإداري في هذا الموضوع فهو مسألة شكلية وثانوية وعلى هامش «الصراع»!
كيف سيكون تعامل الحزب حينها؟ وكي أكون دقيقا جدا، كيف سيكون تعامل قيادة الحزب حينها.. ؟ وقيادة الحزب هنا ليست الأمانة العامة بكل أعضاءها، بل دائرة ضيقة جدا ومحدودة العدد.. ليبقى السؤال في جميع الحالات، هل سيتفاوض الحزب؟ هل سيخضع للمساومة والابتزاز؟ أم سيقاوم؟ ما هي الشروط التي ستقدمها الدولة؟ وما هي الضمانات التي سيعطيها الحزب؟
علينا أن نطرح هذه الأسئلة المشروعة دون حرج في حالة صرف المنحة المعلقة على الشروط.. نحن في عالم السياسة، وفي دولة انحرفت كثيرا عن مسار الديمقراطية، وتعيش حالة مفرطة من تضخم السلطة، ولسنا في عالم المثل وفضاءات الطهرانية.. فإذا كان الحزب يمارس السياسة بأخلاق عالية ومبادئ سامية، فإن الدولة على النقيض من ذلك تماما.. فلا داعي للاستغراب، ولكم سوابق خطيرة لم تندمل جراحها بعد..
الاحتمال الثاني هو رفض صرف هذه المنحة لأسباب يُراد لها أن تبدو قانونية يتم رفعها على سطح الخلاف قصد التضليل والتمويه والترويج الإعلامي، وأسباب حقيقية سياسية وأمنية خفية، تملأ باطن هذا الخلاف بكل أشكال التعسف والابتزاز والسلطوية والحقد «الرسمي» والمتأصل الموجه إلى الحزب..
هذا الاحتمال لا يبدو بعيدا، إلا إذا قبلت قيادة الحزب بما لا نعلم، أو قد نعلم، ولكن بعد حين.. هذا الاحتمال الذي قد يبدو ضعيفا له مبرراته بعد الخطابات التي خرجت بها الإدارة الإمريكية الجديدة برئاسة ترامب.. فهدف هذه الإدارة هو تجفيف منابع التيارات الإسلامية، إلى جانب المضي قدما وبقوة نحو المزيد من التطبيع مع الكيان.. هذا الهدف لن يتحقق إلا بإضعاف الجبهة التي تعارضه وتتصدى له.. كما أن هذا الأمر لن يتحقق إلا عبر الضغط على المغرب وابتزازه بقضيته الوطنية الأولى؛ الصحراء المغربية، حينها لن تجد الدولة بد من الخضوع لإرادة ترامب الذي يتقن فن الابتزاز.. لتضحي بسهولة بكل من يقف في وجه التطبيع..
على كل مناهضي التطبيع والحركة الاسلامية – على وجه الخصوص – بجميع تياراتها الاستعداد للمرحلة القادمة، حيث المشروع الأمريكي/الصهيوني دخل مرحلة السعار وانفلات الأعصاب.. ومحاربة كل من يقف في مواجهة هذا المشروع، ولقد بدأت مؤشرات ذلك في خطاب محمود عباس للمقاومة الذي نعتهم بأولاد الكلب، وفي قرار ملك الأردن بحل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة جميع أملاكهم وإغلاق مقراتها.. والقادم أسوأ لا مفر من ذلك.. لأن هناك مشروعان وتوجُّهان يقفان على طرفي نقيض، ولا سبيل أبدًا للجمع بينهما، إلا إذا قدمت الحركة الإسلامية تنازلات مؤلمة جدا في سبيل الحفاظ على حضورها وتواجدها.. ولا إدري ما هي حدود تنازلات كل فصيل من فصائل الحركة الإسلامية بالمغرب.. الأيام القادمة هي التي ستسفر عن ذلك..
بالنسبة إلي، على الحزب أن يضرب صفحا عن هذه المنحة، ولا يطالب بها، فلا مفر له من وضع شروط مجحفة، أو ممارسة الابتزاز بأبشع أشكاله.. أو التفاوض في أحسن الأحوال.. فهذه المنحة المالية القليلة قد تتحول إلى محنة سياسية كبيرة جدا في قادم الأيام.. لذلك عليه أن يعتمد على ذاته وعلى تبرعات الأعضاء والمتعاطفين في تمويل مؤتمره، ولو اقتضى الأمر أن يحضر كل مؤتمر أكله معه، أو الاكتفاء بسوندويتشات خفيفة، وكذا الاكتفاء بالحد الأدنى من المصاريف المتعلقة بالمؤتمر، حتى يحافظ ما أمكن على استقلال قراره الحزبي، وذلك ليس للهروب من الضغط القادم، وإنما للتخفيف منه فقط، فللدولة العديد من الأساليب التي لا تخطر على بال أحد من أجل ممارسة الضغط والابتزاز..
إرسال التعليق