
من الاستفزاز إلى الإلهاء: حين تتحول المعارك الصغيرة إلى ستار على الكوارث الكبرى
رصد المغرب/عبد المولى المروري
ليس جديدًا أن يلجأ بعض الأفراد أو الجهات إلى افتعال مواقف صادمة أو مثيرة للجدل، لكن الجديد أن تتحول هذه المواقف إلى “قضايا رأي عام” تُستهلك فيها طاقة النقاش المجتمعي، وتتصدر العناوين، بينما تتوارى خلفها أحداث وقرارات أكثر خطورة على حاضر البلد ومستقبله.
في أيام قليلة، وجدنا أنفسنا أمام ثلاث قضايا مثيرة تنافست على احتلال واجهة النقاش العمومي:
1. قضية ابتسام لشكر: صورة لامرأة ترتدي قميصًا مسيئًا للذات الإلهية، تلتها تدوينة للمصطفى الرميد يطالب فيها بتطبيق القانون، ورسالة مفتوحة من النقيب عبد الرحيم الجامعي، ثم ردّ شديد اللهجة من الرميد.
2. قضية مايسة مع أخنوش، وما رافقها من حديث عن “مائة مليون من أجل الصمت”.
3. قضية انقسام الزاوية البوتشيشية.
هذه القضايا الثلاث – رغم اختلاف مواضيعها – تشترك في كونها قضايا هامشية من حيث الأولوية الوطنية، لكنها صاخبة إعلاميًا، واستحوذت على النقاش العام، بينما ظلّت قضايا كبرى، مثل تورط المغرب في تسهيل حصول الكيان الصهيوني على الأسلحة، وغزة بما فيها من مجازر وإبادة وتجويع وصمت رسمي مغربي، غائبة عن صدارة الاهتمام. ولهذا لن نخوض في تفاصيل القضيتين الثانية والثالثة لعدم استحقاقهما وزنًا تحليليًا في هذا السياق.
أولًا: التوجيه القرآني أمام الاستفزازات:
القرآن والسنة وضعا منهجًا واضحًا في التعامل مع المواقف الاستفزازية، خاصة تلك التي يكون هدفها إرباك الموقف أو صرف الانتباه، يقول سبحانه وتعالى : ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (الفرقان: 63)، وقال: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199)..
هذه النصوص وغيرها ليست دعوة إلى اللامبالاة، بل إلى ترتيب الأولويات وتحديد متى يكون الرد ضرورة، ومتى يكون السكوت حكمة، وأكتفي بهذا الحد لوضوح هدفه ومعناه…
ثانيًا: حين يتحول الاستفزاز إلى أداة سياسية:
في علم الاجتماع السياسي، الإلهاء ليس مجرد صدفة، بل هو استراتيجية: افتعال أو تضخيم قضية عاطفية، غالبًا ما تمس الدين أو القيم أو الهوية، لضمان انقسام المجتمع حولها، بينما تمر في الظل قرارات أو تحالفات أو صفقات لا يريد أصحابها أن تخضع للتمحيص.
وهكذا، بدل أن يناقش المغاربة ملفًا بحجم تورط بلدهم في تسهيل حصول الكيان الصهيوني على أسلحة – وهو حدث يستحق أن يكون قضية وطنية كبرى – أو أن يتوقفوا عند ما يقع في غزة من مجازر وإبادة وتجويع يرافقها صمت مغربي رسمي فضل التطبيع على المقاطعة، وارتضى السكوت المفجع عن التجويع والإبادة، خاصة وأن الكيان مقبل على جريمة تجريف غزة وأهلها واجتياحها بشكل كامل.. انشغلوا أيامًا بقميص ابتسام لشكر، وتحول النقاش من السياسة والسيادة إلى الشتائم والتخوين على منصات التواصل الاجتماعي.
وقبل التفصيل في ما يروج حاليا على الساحة الإعلامية، لابد أن نقف هنيهة على مربع جانبي نفسر فيه ماهية الإلهاء السياسي ودوره في التأثير على الرأي العام:
الإلهاء السياسي هو إعادة توجيه انتباه الجمهور من ملفات جوهرية (سيادة، حقوق، فساد) إلى قضايا رمزية مثيرة للعاطفة، وذلك عبر آلية تضخيم حدث صادم/مستفز، وتغذيته بتصريحات متقابلة، وفتح منابر الجدل، وذلك بهدف ترك “الخبر الأهم” في الظل.
وتُستعمل لهذا الغرض قضايا دينية/هوياتية، أو شخصنة النقاش، أو تسريبات منتقاة، أو هاشتاغات انفعالية، الأمر الذي يؤدي إلى قفزات مفاجئة في الاهتمام، واستقطابات حادة، وطغيان الخطاب الأخلاقوي على السياسي، ثم غياب المعطيات الصلبة.
ولمواجهة هذه الاستراتيجية لابد من فرز الأولويات، والاقتصاد في الانفعال، وتحويل البوصلة نحو الملف الجوهري والقضايا الحقيقية والمصيرية.
ثالثًا: خطأ الفاعلين العموميين في تغذية الإلهاء:
لا أحد ينكر أن ما قامت به ابتسام لشكر يعد عملاً منكراً ومستفزاً ومخالفاً للدين والقانون، ولا أستبعد أن هذا العمل الشنيع كان بإيعاز وتخطيط جهات ما داخل المغرب أو خارجه لإدخال المغاربة في موجة جديدة من الإلهاء لإشغال انتباههم استعداد لواقع قادم أو قرارات خطيرة في الطريق..
كما لا أحد يشك في حسن نوايا الأستاذ الرميد، وقد يقول قائل إن ما قام به هو عين الصواب. فإذا كنا لا نختلف حول هذا المبدأ، فإن المؤاخذة تنصرف إلى التوقيت والظروف غير الملائمين، ناهيك عن الطريقة التي هيجت الرأي العام وقسمته بدل أن يبقى موحداً حول قضايا جوهرية، وعلى رأسها مناهضة التطبيع، ويستمر مركزا على إحراج الدولة التي يبدو أنها مصرة على تسهيل مرور الأسلحة إلى عصابة الاحتلال لقتل أهلنا في غزة.
فمع الاحترام والتقدير الواجبين للأستاذ المصطفى الرميد، لابد من الإشارة إلى الخطأ الكبير الذي وقع فيه الأستاذ الفاضل، وهو حقوقي وسياسي ووزير عدل سابق، فمن حيث نحسن الظن بدوافعه التي كانت بدون شك نبيلة وصادقة، إلا أنه فتح بابًا واسعًا على كل أشكال التفاهة والإسفاف، وقدّم خدمة إلى الدولة كي تداري فضيحتها باستقبال موانئها للسفن المحمّلة بالسلاح، وتشغل المغاربة عن هذه الفضيحة، وصرف انتباههم عن صمتها تجاه الإبادة والتجويع، والآن الاجتياح الذي ينوي الكيان القيام به في غزة.. وقدّم (الرميد) هدية على طبق من طين لجوقة المطبعين من الصهاينة المغاربة، عبارة عن بركة ماء عكرة ليصطادوا فيها، وفتح الباب للعلمانيين المتطرفين لتصفية حساباتهم السياسية ونشر حقدهم الإيديولوجي على كل ما يمت للإسلام بصلة.
كان الأجدر بالأستاذ الرميد أن يتعامل مع الواقعة بهاتفٍ هادئ أو إحالة بروتوكولية صامتة على الجهة المختصة بتقديم شكاية مكتوبة أو مذكرة سرية بدل إعلان الموقف في الإعلام أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك من أجل الحفاظ على السرية والهدوء في المعالجة، وتجنب تحويل الموضوع إلى قضية رأي عام، أو إلى مادة للتجاذبات والتقاطبات ؛ لكنه لجأ – للأسف الشديد – إلى تدوينة علنية مشحونة بالعاطفة، ما منح القضية شرعية إعلامية وأخرجها من الهامش إلى الواجهة. وكانت النتيجة أن مَنَحَ امرأة نكرة وتصرفها المقيت والتافه قيمة أكبر من حجمها، وساهم – من حيث لا يدري – في تمرير أجندة الإلهاء التي استفادت منها الدولة في لحظات حرجة تمر منها.
رابعا: سجال الرميد–الجامعي: حالة تطبيقية على تصعيد الإلهاء:
ورُبَّ قائل إن الجدل بين الرميد والجامعي صحي ومفيد فكريا وقانونيا وسياسيا..، وإذا كنا لا نشك – من حيث المبدأ – في ذلك أيضًا، فإننا نعترض – مرة أخرى – على توقيته وظروفه، لأنه أُطلق في لحظة حساسة كانت تحتاج إلى جمع الكلمة حول قضايا كبرى، لا إلى تشتيتها في معارك جانبية.
رسالة النقيب عبد الرحيم الجامعي الذي نحتفظ له هو الآخر بواجب التقدير والاحترام، انتقدت تدوينة الرميد بوصفها تحريضًا غير لازِم وتحويلًا للقضية إلى محكمة الشارع بدل مسارها القانوني، وفي نظري المتواضع كان رده عبارة عن مزايدة مجانية في الزمن الخطأ على الموضوع الخطأ.. ولا أدري سببا مقنعا يدفع السيد النقيب إلى اقتراف هذا الأمر والسقوط بهذه الطريقة في مستنقع المزايدات، وكأنه يصفي حسابا قديما مع الرميد!!
أما ردّ الرميد فقد انصرف إلى الشخصنة والجدل القانوني المطوّل واستدعاء أمثلة خارجية، فأعطى الموضوع وزنًا رمزيًا زائدًا. فكانت المحصلة؛ بدل إخماد الشرارة، تضاعف دخان الجدل بين رجلين حكيمين ومُتعقِّلين (وهكذا نحسبهما)، وخَسِرنا وقتًا كان ينبغي أن يُستثمر في الملفات الجوهرية والكبيرة.
فالأستاذ المصطفى الرميد والأستاذ النقيب عبد الرحيم الجامعي جمعهما نضال طويل، ورافعا جنبا إلى جنب في قضايا كثيرة عبر محاكم المغرب تهم قضايا حقوق الإنسان وقضايا سياسية أخرى كثيرة، فكيف نفهم هذا السجال الذي طفا فجأة على سطح المغرب بين شخصيتين كبيرتين على حساب قضايا أخرى أهم وأخطر؟
1/ سقوط شخصيتين كبيرتين في نقاش يوجد على هامش القضايا الكبرى:
فحتى الشخصيات ذات الرصيد المهني والسياسي قد تقع في فخّ “المعارك الصغيرة” لعدة أسباب:
أ- استفزاز الأنا: في لحظة مواجهة أو انتقاد علني، يشعر الشخص البارز بأن مكانته مهددة، فيميل إلى الردّ دفاعًا عن صورته، لا عن جوهر القضية، هذا يسمى أحيانًا “رد الفعل النرجسي الدفاعي”، حيث تُستثار الحاجة لحماية الذات من النيل الرمزي.
ب- تأثير “النفق الضيق” في الأزمات: حين يكون الشخص منغمسًا في ملف مثير للجدل، يُضَيِّق مجال رؤيته فيركّز على الردّ اللحظي بدل قراءة المشهد الاستراتيجي الأشمل، فتكون النتيجة أن يُضَيِّع إدراك الأولويات، فيتعامل مع قضية ثانوية وكأنها مركزية.
ج- ضغط الصورة العامة: شخصيات بحجم وزير سابق أو نقيب محامين تحمل عبء الحفاظ على صورتها كمدافع عن القانون أو القيم، وأي اتهام بالتقاعس قد يُفسَّر جماهيريًا كضعف أو تواطؤ، الأمر الذي يدفعهم للتدخل حتى في قضايا هامشية، حيث اعتبر الرميد نفسه مسؤولا عن الدفاع عن القيم الإسلامية والثوابت الوطنية، واعتبر الجامعي نفسه مسؤولا عن حق الآخر في التعبير عن رأيه وإظهار معتقداته.
خامسا: انحياز الأنصار للشخص بدل الفكرة:
كان من نتائج هذا السجال الثنائي أن يظهر فريق يناصر الرميد، وآخر يناصر الجامعي، هذه الظاهرة تفسرها عدة آليات معروفة في علم النفس الاجتماعي والسياسي:
1. التحيز الجماعي:
يميل الناس إلى الدفاع عن عضو من “مجموعتهم” (حزبية، أيديولوجية، مهنية) لمجرد الانتماء، بغض النظر عن مضمون الموقف. هنا الأنصار ينحازون للرميد أو للجامعي لأنهم “من فريقنا” أو يمثلون رموزًا مألوفة، دون أخذ مسافة موضوعية من الطرفين للتأمل العميق والنقد البناء والهادف.
2. الولاء للشخصية:
في المجتمعات التي تضع الأشخاص فوق المؤسسات، يصبح الولاء للفرد أهم من الولاء للمبدأ، وهذه الظاهرة ما تزال مهيمنة على شعوب المجتمعات المتخلفة أو التي عاشت ردحا طويلا تحت الاستبداد، حيث تُختزل الفكرة في صاحبها؛ إذا كان هو من قالها فهي صواب، وإذا قالها الخصم فهي خطأ. والكثير من المتعاطفين ساندوا الرميد لا لشيء إلا لأنه الرميد، وآخرون ساندوا الجامعي لا لشيء إلا لأنه الجامعي، ولم يحتفظ كل طرف – كما قلت – لنفسه بمسافة موضوعية من أجل التأمل العميق والنقد البناء والهادف..
3. التنافر المعرفي:
إذا كان أحد الرمزين قد أخطأ، يُعاني المناصرون من صعوبة الاعتراف بخطئه لأن ذلك يهدد صورة الذات المرتبطة به، ولحل هذا التوتر النفسي، فإنهم يبررون سلوكه أو يتجاهلون عيوبه، ويتمسكون بموقفه كما هو دون نقد أو تحليل، وهذه أحد أخطر آفات الحزبية الضيقة، وأقبح سوءات التعصب الإيديولوجي..
4. الاصطفاف العاطفي:
الموقف يصبح محركًا بالعاطفة أكثر من العقل: الدفاع عن “رمزنا” والهجوم على “رمزهم” حتى لو كانت القضية نفسها تافهة. فالعاطفة تضع حجابا سميكا على العقل فتمنعه من رؤية الأبعاد الأخرى للقضية موضوع السجال، وتجعل النظر ضبابيا وضعيفا لا يتجاوز حدود الأنف..
سادسا: الخلاصة في التفسير النفسي السياسي:
للأسف الشديد، الرميد والجامعي انجرّا إلى نقاش هامشي لأن الدافع اللحظي (حماية الأنا + ضغط الصورة العامة) غلب على الحسابات الاستراتيجية، وأنصارهما اصطفوا اصطفافا ميكانيكيا لأن الثقافة السياسية السائدة هي ثقافة شخصانية أكثر منها مبدئية، ولأن الانتماءات العاطفية تغلب على المسافة الموضوعية.
خامسًا: كيف يقرأ علم النفس السياسي هذا المشهد؟
وكما سبق توضيحه أعلاه، حتى الشخصيات الكبيرة، بوزن وزير عدل سابق أو نقيب محامين سابق، يمكن أن تنجرّ إلى معارك هامشية حين تتوافر ثلاثة عوامل متداخلة:
– استفزاز الأنا والرغبة في حماية الصورة العامة أمام الجمهور.
– ضيق الأفق اللحظي الذي يجعل القضية الثانوية تبدو كأنها معركة مبدئية.
– ضغط الرأي العام الذي يفسر الصمت على أنه ضعف أو تواطؤ.
أما أنصار كل طرف، فقد اصطفوا وراء “الشخص” لا وراء “الفكرة”، وهو ما يفسّره:
– التحيز الجماعي: الدفاع عن من ينتمي إلى مجموعتنا بغض النظر عن جوهر موقفه.
– الولاء للشخصية بدل الولاء للمبدأ.
– التنافر المعرفي: صعوبة الاعتراف بخطأ الرمز المفضل، فيلجأ المناصرون إلى تبريره.
– الاصطفاف العاطفي: تحريك المواقف بالانفعال لا بالتحليل.
هذه الدينامية النفسية – حين تلتقي مع قضايا تافهة – تجعل الإلهاء السياسي ينجح في أداء مهمته، لأن النخب الكبرى وجماهيرها تسهم في تضخيمه أحيانًا من دون وعي أو تعقل.
خاتمة
إذا أردنا حماية وعي المجتمع، فلنستحضر دائمًا توجيه القرآن الكريم: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾، ولنتذكر أن أقصر طريق لهزيمة أمة هو أن تُغرقها في صراعات تافهة بينما تُسلب مقدراتها في الخفاء.
والإعراض هنا ليس ضعفًا ولا تنازلاً، بل قوة وذكاء استراتيجي: أن تعرف أين تضع جهدك، وأين توفّر طاقتك، وأين تُحوّل استفزازًا تافهًا إلى عدمية تامة في تأثيره.
وأهم ما يجب الاستفادة منه من خلال هذه القضية وما رافقها من سجال هو:
أن الوعي المجتمعي لا يُقاس بسرعة الغضب تجاه الاستفزاز، بل بالقدرة على فرز المعارك الحقيقية من الوهمية..
أن المعارك الحقيقية هي القضايا التي تمس السيادة، الأمن القومي، الحقوق، والعدالة الاجتماعية..
وأن المعارك الوهمية هي قضايا جانبية تضخّمها العاطفة أو الإعلام، وتستهلك وقت الناس وأعصابهم..
وفي الختام، أستسمح الجميع بطرح سؤال قد يبدو قاسيا وأليمًا للبعض:
ما هي القيمة المضافة أو الفائدة العامة – على المستوى الفكري والقانوني والسياسي – التي أضافها هذا السجال إلى قضايانا الوطنية الكبرى؟ وماذا استفاد منه المغاربة؟ وماذا حقق لأهل غزة على مستوى التطبيع وتسهيل مرور أسلحة العدو؟
إرسال التعليق