آخر الأخبار

من المعارضة إلى الحكومة: دراسة في تحولات الإسلام السياسي في المغرب

من المعارضة إلى الحكومة: دراسة في تحولات الإسلام السياسي في المغرب

رصدالمغرب / عبدالفتاح الحيداوي


مقدمة

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل مسار الإسلام السياسي في المغرب، مع التركيز على تجربة حزب العدالة والتنمية كحالة دراسية محورية. تتناول الدراسة التحولات التي طرأت على هذا التيار من مشروع مقاومة إلى مشروع سلطة، مع الأخذ في الاعتبار التحديات التي واجهها بعد وصوله إلى الحكومة، وتأثير ذلك على مكانته وهويته. كما تستعرض الدراسة التيارات البديلة التي ظهرت في المشهد السياسي المغربي، مثل جماعة العدل والإحسان والتيار السلفي، وتحليل مواقفها وتأثيرها في ظل التغيرات الراهنة.

تعتمد هذه الدراسة على إطار نظري متكامل يجمع بين نظريات الفرصة السياسية، وتعبئة الموارد، ونظرية الأطر، لتفسير ديناميكيات التكيف والتحول التي خضعت لها الحركات الإسلامية في المغرب. وتستخدم الدراسة المنهج الكيفي، وتحديدًا دراسة الحالة، مع تحليل مضمون الخطابات الرسمية للحزب وكتابات منتقديه، بالإضافة إلى مقارنة موجزة مع تجارب أخرى في المنطقة.

الفصل الأول: الإطار النظري والمنهجي للدراسة

مقدمة الفصل

يهدف هذا الفصل إلى بناء الأساس المنهجي والنظري الذي تستند إليه الدراسة. سيتم أولاً تحديد المفاهيم الإجرائية الأساسية لضمان الوضوح والدقة التحليلية. ثانيًا، ستتم مناقشة واستعراض الأطر النظرية المستمدة من علم الاجتماع السياسي ونظرية الحركات الاجتماعية، والتي تفسر ديناميكيات التكيف والتحول التي خضعت لها الحركات الإسلامية. وأخيرًا، سيتم تحديد المنهجية المتبعة في هذه الدراسة.

المبحث الأول: تحديد المفاهيم الأساسية

1.الإسلام السياسي: لا يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى الإسلام كدين، بل كإيديولوجيا سياسية حديثة تسعى إلى تنظيم الدولة والمجتمع وفقًا لتفسير معين للمبادئ الإسلامية. في هذه الدراسة، يشير المصطلح تحديدًا إلى الحركات المنظمة التي تتبنى العمل السياسي لتحقيق أهدافها، مثل حزب العدالة والتنمية.

2.البراغماتية السياسية: تُعرّف إجرائيًا بأنها “تبني استراتيجيات وخطابات مرنة تتكيف مع الواقع السياسي وموازين القوى القائمة، حتى لو أدى ذلك إلى تقديم تنازلات إيديولوجية أو التخلي عن أهداف تأسيسية، وذلك بهدف تحقيق مكاسب سياسية ملموسة أو ضمان البقاء التنظيمي.”

3.بنية الفرص السياسية): يشير المفهوم إلى مجموعة العوامل في البيئة السياسية الخارجية للحركة، والتي إما أن تشجع أو تكبح جماح النشاط السياسي. تشمل هذه العوامل: درجة انفتاح النظام السياسي (قوانين الأحزاب، الانتخابات)، وجود حلفاء محتملين، قدرة الدولة على القمع، والاستقرار النسبي للنخب الحاكمة.

4.نظرية الأطر: هي العملية التي تقوم من خلالها الحركات الاجتماعية ببناء وتعميم تفسيرات للواقع تهدف إلى حشد الأنصار وتبرير أفعالها. في سياق دراستنا، سنحلل كيف قام حزب العدالة والتنمية بـ”تأطير” مشاركته السياسية كـ”إصلاح من الداخل”، بينما قامت التيارات السلفية بـ”تأطيرها” كـ”خيانة للمبادئ”.

المبحث الثاني: الأطر النظرية المفسرة للتحول

تعتمد هذه الدراسة على إطار نظري تكاملي يجمع بين ثلاث نظريات رئيسية لتفسير مسار حزب العدالة والتنمية:

1.نظرية الفرصة السياسية: تفسر هذه النظرية لماذا قررت الحركة الإسلامية في المغرب التحول نحو المشاركة. فالنظام المغربي، بتقديمه “فرصة سياسية” محسوبة (نظام ملكي يسيطر على مجالات السيادة، مع سماحه بتنافس سياسي على المستوى الحكومي)، شجع الحركة على الانخراط في اللعبة السياسية كوسيلة لتجنب القمع الذي واجهته حركات أخرى (مثل جماعة العدل والإحسان)، ولتحقيق حضور رسمي ومأسسة لوجودها.

2.نظرية تعبئة الموارد: تفسر هذه النظرية كيف تمكنت الحركة من النجاح في هذا التحول. فقد كانت قدرة “حركة التوحيد والإصلاح” (الذراع الدعوي للحزب) على حشد الموارد البشرية (قاعدة تنظيمية متعلمة ومنضبطة) والاجتماعية (شبكة واسعة من الجمعيات الخيرية والتعليمية) عاملًا حاسمًا في نجاح حزب العدالة والتنمية انتخابيًا، خاصة في مراحله الأولى.

3.نظرية الأطر: تفسر هذه النظرية التحديات الإيديولوجية التي واجهها الحزب. فقد كان نجاحه مرهونًا بقدرته على تقديم “إطار” مقنع يجمع بين هويته الإسلامية ومتطلبات المشاركة في نظام علماني بحكم الواقع. ومع وصوله إلى الحكومة، أصبح هذا “الإطار” متناقضًا، حيث فشل في التوفيق بين خطاب “محاربة الفساد والاستبداد” وممارسة السلطة ضمن حكومة يقودها الملك فعليًا، مما خلق فجوة استغلتها خطابات أكثر راديكالية.

الفصل الثاني: من التأسيس إلى الحكومة: حزب العدالة والتنمية المغربي

مقدمة الفصل

يتناول هذا الفصل بالتحليل المعمق مسار حزب العدالة والتنمية، من نشأته كحركة اجتماعية ذات طابع دعوي، إلى تحوله إلى حزب سياسي براغماتي، ووصوله إلى رئاسة الحكومة، ثم تراجعه الكبير. سيتم تطبيق الإطار النظري الذي تم تقديمه في الفصل الأول لفهم كل مرحلة من هذه المراحل.

المبحث الأول: النشأة في سياق “الفرصة السياسية” المحسوبة (1997-2011)

لم يكن تأسيس حزب العدالة والتنمية حدثًا معزولًا عن مسار التحولات السياسية بالمغرب، بل جاء في إطار فرصة سياسية مدروسة أتاحها النظام السياسي المغربي في منتصف التسعينيات. فقد شهدت البلاد خلال هذه المرحلة بداية انتقال تدريجي من أجواء الاحتقان السياسي المعروفة بـ”سنوات الرصاص”، نحو الانفتاح النسبي وتعزيز المشاركة السياسية. وقد مثّل هذا الانفتاح جزءًا من استراتيجية الملك الراحل الحسن الثاني لتجديد شرعية النظام وتوسيع قاعدة التمثيل السياسي، من خلال إدماج أطراف كانت سابقًا خارج دائرة الفعل السياسي الرسمي.

1. الاندماج المحسوب وتبني البراغماتية السياسية

في هذا السياق، قبلت حركة التوحيد والإصلاح، وهي إطار دعوي وحركي إسلامي، عرض الاندماج داخل حزب سياسي قائم هو “الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية”، الذي سيصبح لاحقًا “حزب العدالة والتنمية”. وقد شكّل هذا الخيار نقطة تحول محورية، إذ عبّر عن استعداد الحركة للتخلي عن بعض طموحات الصدام مع النظام، لصالح تبني مقاربة إصلاحية تدريجية من داخل المؤسسات. وقد تمثل هذا التحول البراغماتي في إعلان الالتزام بـ”الملكية الدستورية” واحترام “الثوابت الوطنية” وعلى رأسها الوحدة الترابية والمرجعية الإسلامية للدولة.

2. بناء إطار مزدوج يخاطب جمهورين مختلفين

نجح الحزب في هذه المرحلة في صياغة خطاب سياسي مركب يخاطب فئتين رئيسيتين:

• القواعد المتدينة والشرائح المحافظة: حيث قدّم نفسه كأداة للإصلاح من الداخل، وحامٍ للهوية الإسلامية للمجتمع في مواجهة تحديات التغريب والعلمنة.

• النظام السياسي والدولة: حيث عمل على تقديم نفسه كقوة إسلامية معتدلة، تقبل بقواعد اللعبة السياسية، وتتميز بالانضباط المؤسساتي، بما يجعله شريكًا موثوقًا وأقل خطورة من التيارات الإسلامية الراديكالية (مثل جماعة العدل والإحسان) أو من بقايا اليسار الراديكالي.

3. تعبئة الموارد وبناء القوة التنظيمية

استفاد الحزب بشكل واسع من الموارد التنظيمية والبشرية التي وفرتها حركة التوحيد والإصلاح. فقد شكلت الحركة خزّانًا للكفاءات والكوادر المؤهلة، ووفرت شبكة علاقات اجتماعية ممتدة عبر الجمعيات الدعوية والخيرية والثقافية. هذا التماهي بين الذراع الدعوي والذراع السياسي مكّن الحزب من تحقيق حضور متنامٍ في الساحة الانتخابية، حيث انتقل تدريجيًا من موقع القوة الصاعدة إلى فاعل سياسي مؤثر.

خلاصة المرحلة

يمكن القول إن الفترة الممتدة بين 1997 و2011 مثّلت مرحلة التأسيس والبناء، التي تميزت ببراغماتية عالية وقدرة على التكيف مع الشروط التي فرضها النظام السياسي. ومن خلال هذا المسار، استطاع الحزب أن يراكم الشرعية السياسية والانتخابية، وأن يمهّد الطريق للتحولات الكبرى التي ستشهدها الساحة المغربية مع انطلاق ديناميات الربيع العربي سنة 2011.

المبحث الثاني: ذروة النجاح والوصول إلى الحكومة (2011-2016)

أولاً: الربيع العربي و”الفرصة السياسية” لحزب العدالة والتنمية

يُعتبر الربيع العربي، بما فيه حركة 20 فبراير في المغرب، لحظة فارقة في إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع. فقد أوجد هذا الحراك ما يُعرف في أدبيات التحليل السياسي بـ”الفرصة السياسية)، أي تلك اللحظات التي تضعف فيها قدرة النظام السياسي على الضبط والتحكم، وتُتاح فيها مساحات جديدة للمشاركة والتأثير. بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، الذي كان آنذاك يتموضع في المعارضة، شكّل هذا الحراك فرصة لإعادة التموضع كقوة سياسية شرعية، لكن بطريقة مغايرة لما فعلته الحركات الإسلامية في تونس أو مصر. إذ اختار الحزب نهج “التحفظ التكتيكي”، فلم يشارك رسميًا في مظاهرات 20 فبراير، لكنه استفاد بشكل غير مباشر من الضغوط التي أحدثها الحراك على النظام السياسي، خاصة بعد خطاب الملك محمد السادس في 9 مارس 2011 الذي أعلن عن إصلاحات دستورية جوهرية.

ثانياً: الاستثمار السياسي والانتقال إلى السلطة

لقد مثّلت انتخابات 2011 أول اختبار حقيقي للحزب في موقع القيادة الحكومية. فقد مكّنه السياق الجديد، بما فيه دستور 2011 الذي عزز مكانة رئيس الحكومة، من أن يتصدر المشهد السياسي ويقدّم نفسه كقوة إصلاحية تحمل خطاب “النزاهة ومحاربة الفساد”، وهو أحد المطالب المركزية للحراك الشعبي. غير أن هذا الانتقال من المعارضة إلى السلطة كشف سريعًا عن إشكالية التوازن بين الخطاب والممارسة. فالوجود في الحكومة فرض على الحزب التعامل مع مؤسسات قائمة وتحالفات سياسية مع قوى يعتبرها جزءًا من “بنية التحكم” أو ما يُطلق عليه في الأدبيات المغربية “الدولة العميقة”. كما اضطر الحزب إلى تبني سياسات تقشفية وإصلاحات غير شعبية مثل رفع الدعم التدريجي عن المواد الأساسية (إصلاح صندوق المقاصة) وإصلاح أنظمة التقاعد، مما ولّد حالة من الارتباك لدى القاعدة الاجتماعية التي منحته الثقة.

ثالثاً: تآكل الصورة والخطاب المزدوج

أدّى التباين بين خطاب الحزب في المعارضة وممارساته في السلطة إلى ما يمكن وصفه بـ”تآكل الإطار الرمزي” الذي بنى عليه شرعيته. فالحزب حاول أمام قواعده تبرير قراراته بكونها “إكراهات بنيوية” أو ضرورات لإنجاح التجربة الديمقراطية الوليدة، فيما ظهر أمام الرأي العام الأوسع كحزب يمارس سياسات اقتصادية ليبرالية لا تختلف كثيرًا عن الأحزاب التقليدية. هذا التحول أدى إلى تآكل جزء مهم من رأسماله الرمزي باعتباره حركة احتجاجية بديلة، وأعاد إنتاج صورة الحزب كفاعل سياسي عادي محكوم بموازين القوى والاعتبارات الواقعية أكثر من ارتباطه بخطاب التغيير الجذري.

المبحث الثالث: الأزمة الشرعية والتراجع (2016-2021)

رغم أن حزب العدالة والتنمية المغربي نجح في تجديد ولايته الحكومية عقب فوزه في انتخابات 2016، فإن هذه المرحلة مثلت في الواقع بداية أفول هيمنته السياسية وانحسار قدرته على التأثير في المشهد العام. فقد كشفت التطورات اللاحقة عن حدود “الفرصة السياسية” التي أُتيحت للحزب منذ نهاية التسعينيات، وأظهرت أن مسار اندماجه في النظام السياسي المغربي لم يكن بلا قيود أو خطوط حمراء.

أولاً: أزمة تشكيل الحكومة وإعادة ضبط موازين السلطة (“البلوكاج” الحكومي:

أعقبت انتخابات 2016 أزمة سياسية عُرفت إعلاميًا بـ”البلوكاج”، حيث فشل الأمين العام للحزب، عبد الإله بنكيران، في تشكيل أغلبية حكومية متماسكة، رغم تصدر حزبه النتائج. استمر هذا التعثر لعدة أشهر وانتهى بتدخل ملكي مباشر أدى إلى إعفاء بنكيران وتكليف سعد الدين العثماني بالمهمة. هذا الحدث كان له دلالات سياسية عميقة؛ إذ أكد أن مركز الثقل في صناعة القرار ظل في يد المؤسسة الملكية، وأن موقع رئيس الحكومة، حتى لو جاء عبر صناديق الاقتراع، يظل محدود الصلاحيات. كما أضعف “البلوكاج” موقع الحزب التفاوضي وأجبره على تقديم تنازلات في تشكيل الائتلاف، مما انعكس على قدرته على تنفيذ برنامجه السياسي.

ثانياً: التحول الأيديولوجي والتنازلات الكبرى:

شهدت الفترة الممتدة بين 2017 و2021 سلسلة من القرارات التي اعتبرها قطاع واسع من القواعد الحزبية خروجًا عن هوية الحزب ومبادئه المرجعية. من أبرزها:

1. إقرار قانون “فرنسة التعليم”: حيث تم تبني تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، وهو ما كان الحزب يعارضه سابقًا باعتباره تهديدًا لمكانة اللغة العربية ودورها الرمزي في الهوية الوطنية.

2. تقنين زراعة القنب الهندي لأغراض طبية وصناعية، وهو ملف اعتبره البعض متعارضًا مع خطابه الأخلاقي والمحافظ.

3. التطبيع مع إسرائيل 2020: حيث وقع رئيس الحكومة سعد الدين العثماني اتفاق استئناف العلاقات الرسمية مع إسرائيل ضمن سياق إقليمي ودولي، وهو ما مثّل صدمة لقاعدته الإسلامية والقومية التي طالما اعتبرت القضية الفلسطينية قضية مركزية.

هذه التنازلات عززت صورة الحزب كفاعل “مؤدلج سابقًا” انتقل تدريجيًا إلى موقع “المنفذ لسياسات الدولة”، وهو ما أضعف شرعيته المبدئية التي تأسست على خطاب الإصلاح والممانعة.

ثالثاً: الانهيار الانتخابي في 2021 واستفتاء القاعدة الشعبية:

شكّل الاستحقاق الانتخابي لسنة 2021 نقطة تحول حاسمة، حيث تكبد الحزب هزيمة مدوية بخسارته نحو 90% من مقاعده البرلمانية، منتقلاً من 125 مقعدًا إلى 13 فقط. هذه النتائج لم تكن مجرد خسارة ظرفية، بل كانت بمثابة استفتاء شعبي على تجربة عشر سنوات من المشاركة في الحكم. فقد خسر الحزب قاعدته الاحتجاجية التي أوصلته إلى الصدارة عام 2011، ولم ينجح في استبدالها بقاعدة جديدة قائمة على “شرعية الإنجاز”. كما فشل في التوفيق بين المرجعية الأيديولوجية وبين ضرورات التسيير الواقعي، فانتهى به الأمر إلى فقدان المصداقية لدى كل مناصريه السابقين.

تكشف تجربة حزب العدالة والتنمية خلال هذه المرحلة أن الانخراط في المؤسسات الرسمية في الأنظمة السياسية شبه السلطوية يفرض على الفاعلين الإسلاميين أو غيرهم اختبارات صعبة بين المبدأ والواقعية. فقد أظهرت هذه التجربة أن الهيمنة الانتخابية لا تعني بالضرورة السيطرة على القرار السياسي، وأن “الفرصة السياسية” الممنوحة قد تتحول بسرعة إلى “فخ استيعاب”، حين يتجاوز الحزب حدود اللعبة المرسومة له.

الفصل الثالث: ما بعد “العدالة والتنمية”: صعود الخطابات البديلة

إن تآكل مشروع “الإسلام السياسي المعتدل” الذي مثله حزب العدالة والتنمية لم يخلق فراغًا سياسيًا فحسب، بل إيديولوجيًا أيضًا. فقد فتح فشل تجربة “الإصلاح من الداخل” الباب أمام خطابات بديلة كانت تنتظر على الهامش لتقدم نفسها كحامل حقيقي للأصالة الإسلامية أو كبديل أكثر راديكالية. يتناول هذا الفصل بالتحليل أبرز هذه البدائل في السياق المغربي، وهي: جماعة العدل والإحسان كنموذج للمقاطعة الراديكالية، والتيار السلفي بأطيافه المختلفة كنموذج للرفض الإيديولوجي.

. المبحث الاول: جماعة العدل والإحسان وموقعها في المشهد الإسلامي المغربي: من المقاطعة الاستراتيجية إلى الاستثمار في فشل التجربة الإصلاحية

1. مقدمة

تُعد جماعة العدل والإحسان، بقيادتها التاريخية للشيخ عبد السلام ياسين (1928-2012)، أحد أبرز الفاعلين الإسلاميين في المغرب وأكثرهم تأثيرًا على المستويين الإيديولوجي والتنظيمي. وإذا كان حزب العدالة والتنمية قد اختار مسار المشاركة السياسية التدريجية من خلال القبول بقواعد اللعبة المؤسسية والانخراط في مؤسسات النظام، فإن العدل والإحسان تبنّت منذ نشأتها خيار المقاطعة الجذرية، رافضة أي تسوية مع السلطة السياسية القائمة، ومؤسِّسة شرعيتها على خطاب شامل يدعو إلى التغيير الجذري وإقامة نظام حكم إسلامي قائم على “الشورى الكاملة” و”العدل”. هذه المفارقة تجعل الجماعة المنافس الإيديولوجي والتنظيمي الأبرز للحركة الدعوية والسياسية التي انبثق عنها حزب العدالة والتنمية، أي حركة التوحيد والإصلاح.

2. المقاطعة كخيار استراتيجي وإيديولوجي

تعتبر جماعة العدل والإحسان أن أي مشاركة في المؤسسات القائمة هي “تزيين لواجهة الاستبداد” و”شهادة زور”، بحسب تعبيرها. فهي ترى أن النظام السياسي المغربي قائم على مرتكزات سلطوية لا تسمح بممارسة حقيقية للسلطة أو بترسيخ العدالة الاجتماعية والسياسية، وأن المشاركة من شأنها أن تُكسبه شرعية لا يستحقها. بناءً على ذلك، ترفض الجماعة الانخراط في الانتخابات أو تولي أي منصب رسمي، معتبرة أن الشرعية الحقيقية تنبني على إقامة مؤسسات حكم راشدة تستند إلى المرجعية الإسلامية. هذا الخيار جعلها في موقع ناقد دائم لتجربة الإسلاميين المشاركين في السلطة، وعلى رأسهم حزب العدالة والتنمية.

3. استثمار فشل تجربة حزب العدالة والتنمية

كلما قدّم حزب العدالة والتنمية تنازلات سياسية أو أقر سياسات لا تنسجم مع المرجعية الإسلامية أو مع توقعات قواعده (كالتراجع عن وعوده الإصلاحية، فرنسة التعليم، توقيع اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل)، كانت الجماعة تُصدر بيانات وتصريحات تؤكد صحة خيارها الاستراتيجي في المقاطعة. هذا الخطاب وجد صدى واسعًا لدى شريحة من الشباب المحبط والناقم على الأداء السياسي، وكذلك لدى القواعد الإسلامية التي شعرت بخيبة أمل إزاء الحزب الذي اعتبرته يوماً ممثلًا لتطلعاتها. وبذلك، استطاعت الجماعة تحويل فشل الحزب إلى أداة لتعزيز مكانتها الفكرية والتنظيمية، ولتأكيد سرديتها حول محدودية العمل السياسي داخل الإطار الرسمي.

4. خطاب “الطوفان” والتوقعات المستقبلية

يرتكز خطاب الجماعة على مفهوم “الطوفان” الذي بشّر به مؤسسها، والذي يُفترض أن يأتي لتغيير النظام السياسي جذريًا وإقامة “دولة الخلافة على منهاج النبوة”. هذا الخطاب الذي كان يُنظر إليه سابقًا بوصفه طوباويًا أو بعيد التحقق، اكتسب زخمًا متجددًا في ظل الإحباط من النماذج الإصلاحية الجزئية. فهو يمنح الأتباع أفقًا للتغيير الشامل والأمل في قطيعة تاريخية مع البُنى السياسية القائمة، مما يزيد من جاذبيته لدى شرائح تبحث عن البديل.

5. التنظيم والتربية الروحية: مصدر القوة والاستمرارية

من نقاط القوة الأساسية لجماعة العدل والإحسان قدرتها على الحفاظ على تماسكها الداخلي بعيدًا عن ضغوط السلطة وإكراهات التدبير الحكومي. فهي تعتمد استراتيجية طويلة الأمد تركز على “التربية الروحية”، أي إعداد الفرد المسلم تهيئة شاملة من الناحية الإيمانية والفكرية والتنظيمية، مما يعزز الولاء للجماعة ويُبقيها جاهزة للتفاعل مع أي تغيرات في السياق السياسي. وبذلك، ظلت الجماعة محافظة على قدرتها التعبوية والتنظيمية، وهو ما يجعلها قوة كامنة قادرة على ملء أي فراغ سياسي أو اجتماعي في المستقبل.

إن جماعة العدل والإحسان تمثل الوجه الآخر للتيار الإسلامي المغربي؛ فهي مرآة تعكس حدود المشاركة السياسية ضمن نظام سلطوي، وفي الوقت نفسه تعبّر عن البديل الراديكالي الذي يُغري بعض الفئات بخطاب شمولي تغييري. وبقدر ما يُحسب لحزب العدالة والتنمية إنجاز تجربة المشاركة، يُحسب للجماعة صمودها في المقاطعة وإعادة إنتاج خطابها الدعوي والتنظيمي. وهو ما يجعلها فاعلًا لا يمكن تجاهله في أي تحليل لمستقبل الحركات الإسلامية في المغرب.

المبحث الثاني: التيار السلفي: بين “السلفية العلمية” و”السلفية الجهادية”

برز التيار السلفي في المغرب باعتباره فاعلًا دينيًا واجتماعيًا مهمًا في مرحلة تراجع الإسلام السياسي التقليدي، وإن كان تيارًا غير متجانس تتباين داخله المرجعيات والخطابات. ويمكن التمييز ضمنه بين اتجاهين رئيسيين:

أولًا، السلفية التقليدية (أو العلمية)، التي يمثلها عدد من الشيوخ البارزين مثل محمد المغراوي، وتقوم على مرجعية عقدية صارمة ترفض المشاركة السياسية باعتبارها “بدعة” تنقل السيادة من الله إلى الشعب، وتنتقد الأحزاب بوصفها سببًا في تفتيت الأمة. ومن الناحية العملية، يتبنى هذا التيار موقفًا أقرب إلى التحالف الضمني مع السلطة، إذ يستند إلى مبدأ “طاعة ولي الأمر” ويبتعد عن الصدام السياسي المباشر، مما يجعله أقل تهديدًا من منظور الدولة. كما يتميز بقدرة نسبية على استقطاب فئة من الشباب المحافظ الباحث عن نموذج ديني “نقي” وصارم، بعيدًا عن المساومات البراغماتية التي ميزت الإسلام السياسي الحركي.

ثانيًا، السلفية الجهادية، وهي تيار محدود الحجم لكنه أكثر راديكالية، يتبنى خطابًا تكفيريًا مستلهمًا من تنظيمات مثل القاعدة والدولة الإسلامية، ويرى أن المشاركة السياسية خيانة للمبدأ الإسلامي، ويكفر النظام القائم ويدعو إلى العنف المسلح كخيار وحيد للتغيير. يستند هذا الاتجاه إلى ما يصفه بـ”الفشل المزدوج”، أي إخفاق حزب العدالة والتنمية في تحقيق مشروعه الإصلاحي من داخل المؤسسات، وعجز الدولة عن توفير العدالة الاجتماعية والتنمية. وتجد هذه السلفية صداها خصوصًا في أوساط الشباب المهمش اجتماعيًا واقتصاديًا في الضواحي الحضرية، حيث يعم الإحباط وانسداد الأفق. ورغم أن القبضة الأمنية القوية في المغرب تحد من تمدد هذا التيار، إلا أن استمرار أزمات الشرعية والتنمية قد يشكل بيئة خصبة لعودة أو تصاعد هذا النمط من التطرف في المستقبل.

. خاتمة عامة واستنتاجات

تصل هذه الدراسة إلى ختام مسارها التحليلي الذي تناول تحولات الإسلام السياسي في المغرب، مع التركيز على التجربة المغربية باعتبارها حالة دراسية أساسية. أظهرت نتائج التحليل أن مسار الإسلام السياسي لم يكن انعكاسًا لاختيارات أيديولوجية صرفة، بقدر ما كان نتاجًا لتفاعلات معقدة بين الفاعلين الإسلاميين وبنية النظام السياسي وإكراهات الواقع. انطلاقًا من هذه المعطيات، يمكن استخلاص الاستنتاجات الرئيسية التالية:

1. البراغماتية كآلية مكّنت وأضعفت في آن واحد: بينت تجربة حزب العدالة والتنمية أن البراغماتية كانت أداة حاسمة للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها، لكنها شكلت في الوقت نفسه السبب الجوهري لفقدان الهوية والشرعية الأيديولوجية. فالحزب نجح في تحقيق مستوى متقدم من “المأسسة”، لكنه فشل في إنجاز “التغيير”، ليجد نفسه وقد فقد جزءًا كبيرًا من قاعدته المحافظة دون أن يتمكن من كسب ثقة الدولة العميقة أو النخب الحداثية بشكل كافٍ.

2. محدودية نظرية “الإصلاح من الداخل”: بالمقارنة مع التجربتين التونسية والمصرية، تكشف الحالة المغربية عن حدود نموذج الإصلاح التدريجي ضمن بيئة سياسية شبه سلطوية. إذ احتفظ النظام المغربي بقبضته على مجالات السيادة الحقيقية (الدين، الأمن، السياسة الخارجية)، الأمر الذي جعل الحزب الفائز انتخابيًا يؤدي دور “المدبر الإداري” لواجهة حكومية، في حين بقيت السلطة الفعلية خارج متناوله. وهو ما جعله يتحمل كلفة قرارات لا يملك السيطرة الكاملة عليها.

3. دينامية البدائل الراديكالية: أثبتت الدراسة أن فشل “الإسلام المعتدل” لا يفسح المجال بالضرورة لصعود التيارات العلمانية أو الليبرالية الديمقراطية، بل يميل إلى تغذية البدائل الأكثر راديكالية و”أصالة”. وقد ظهر ذلك من خلال صعود جماعات مثل العدل والإحسان بخطابها السلمي المقاطع، أو التيارات السلفية الجهادية برفضها الصدامي. هذه البدائل تقدم إجابات حاسمة وسريعة لشباب محبط فقد الثقة في مسار الإصلاح التدريجي.

4. استمرارية المعضلة البنيوية: خلصت الدراسة إلى أن كلا النموذجين، البراغماتي والراديكالي، عجزا عن تقديم إجابة مستقرة لمعضلة الحكم في السياقات العربية. فالنموذج البراغماتي اصطدم بتناقضات الهوية والسلطة، بينما انتهى النموذج الراديكالي إلى مشاريع إقصائية أو عنيفة (كما في حالة داعش) أو إلى عزلة سياسية واجتماعية (كما في حالة العدل والإحسان.

انطلاقًا مما سبق، تؤكد هذه النتائج أن الإشكالية الجوهرية المتعلقة بإمكانية التوفيق بين الهوية الإسلامية ومنطق الدولة الوطنية الحديثة، بما يتطلبه من تنازلات وبراغماتية، لا تزال مفتوحة أمام البحث والتأمل. ويبدو أن المشهد السياسي المغربي، والعربي عمومًا، يتجه إما نحو بروز جيل جديد من الفكر السياسي القادر على تجاوز الثنائيات التقليدية بين الهوية والسلطة، أو نحو تعميق مسار الفصل بين الدين والسياسة، مع بقاء الحركات الراديكالية كعنصر ضغط مستمر أو كـ”قنابل موقوتة” تتفجر كلما عجزت النخب الحاكمة عن تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية.

المراجع

•حزب العدالة والتنمية المغربي: مسار الخروج من أزمات متراكبة. الجزيرة نت، 25 مايو 2025. https://studies.aljazeera.net/ar/article/6225

•المغرب. جماعة العدل والإحسان تضع النظام الملكي على المحك. Orient XXI، 9 أبريل 2024. https://orientxxi.info/magazine/article7224

•السلفية الجهادية في المغرب: خلايا عابرة أم تنظيم مهيكل؟ العمق المغربي، 31 مايو 2025.

 

 

 

 

 

 

 

 

إرسال التعليق