من نهاية العولمة إلى بداية “الحمائية العالمية”: كيف تعلن سياسات ترامب التجارية موت الاقتصاد المعولم ولماذا على المغرب بناء منظومته الاقتصادية السيادية قبل فوات الأوان
رصد المغرب / عبد الكبير بلفساحي
منذ تسعينيات القرن الماضي، كان الخطاب الاقتصادي العالمي يدور حول “العولمة”، تلك الأيقونة النيوليبرالية التي بشرت بعالم بلا حدود اقتصاديا، تتحرك فيه السلع ورؤوس الأموال بحرية، وتنتفي فيه الحواجز الجمركية وتسحق فيه المفاهيم الكلاسيكية للسيادة الاقتصادية. لكن هذا الحلم بدأ يتآكل تدريجيا منذ الأزمة المالية العالمية سنة 2008، قبل أن يتلقى الضربة القاتلة مع صعود دونالد ترامب إلى الحكم. ترامب، الذي يفاخر بتفكيره “الصفري” وعدائه للمنظومات متعددة الأطراف، لم يكتف بإعادة تعريف السياسة الأمريكية داخليا، بل أعاد توجيه البوصلة الاقتصادية للعالم: من “التكامل” إلى “التصادم”، من “الانفتاح” إلى “الحمائية”، ومن “العولمة” إلى “التوطين القومي للمصالح”.
الحرب الجمركية.. بداية النهاية
سياسات ترامب القائمة على فرض رسوم جمركية تصاعدية ضد الشركاء التجاريين التقليديين للولايات المتحدة – من الصين إلى الاتحاد الأوروبي، ومن كندا إلى المكسيك – ليست مجرد إجراءات تقنية، بل تعبر عن منعطف حضاري عالمي، حيث يعاد تعريف العلاقات الدولية على أسس المصالح الاقتصادية القومية بدل “المصلحة الجماعية للنظام الليبرالي”.
وفي عمق هذه السياسة، تكمن قناعة أمريكية جديدة ، مفادها أن العالم لم يعد يدار بآليات السوق المفتوح، بل بمنطق الصفقات الفردية والضغوط الثنائية والعقوبات، وهي رؤية تصب في إطار أوسع من الانعزالية الجديدة، حيث كل دولة مدعوة للاعتماد على ذاتها، وتأمين سلاسل توريدها، وإعادة تموقعها في الخريطة الصناعية العالمية.
وما يحدث ليس انزلاقا ظرفيا، بل إعادة هيكلة للنظام العالمي، تتسارع فيها ديناميات “فك الارتباط الاستراتيجي” بين القوى الكبرى. الصين تطور أسواقا بديلة وتعزز اكتفاءها الذاتي، أوروبا تعيد التفكير في أمنها الصناعي والغذائي، وروسيا تنسج تحالفات اقتصادية موازية. ونحن نشهد تآكل “العولمة كنظام شامل”، وبروز أقطاب اقتصادية مغلقة نسبيا، تتعامل فيما بينها بمعايير مزدوجة: تبادل محدود، وحماية قصوى للمصالح الاستراتيجية.
المغرب، الذي بنى خلال العقدين الأخيرين جزءا كبيرا من مشروعه التنموي على فكرة الاندماج في الاقتصاد العالمي عبر المناطق الحرة، كالاستثمارات الأجنبية، واتفاقيات التبادل الحر، يجد نفسه الآن أمام تحدي وجودي اقتصادي. فإذا كان العالم يتجه نحو الانكفاء والحمائية، فإن الرهان على الأسواق الخارجية لم يعد كافيا ولا آمنا. فأوروبا نفسها – شريكنا الرئيسي – تعيد بناء سياساتها الصناعية، وتفرض قيودا بيئية وتكنولوجية صارمة على الواردات. و الأسواق الإفريقية، رغم إمكاناتها، لا تزال تعاني من الهشاشة والتقلبات السياسية. والصين، المنافس الشرس، لم تعد شريكا سهلا في زمن تحوله نحو الأسواق الداخلية.
وإذا كان العالم يعيد بناء ذاته على أسس “الاعتماد الذاتي”، فالمغرب مطالب بدوره ببناء منظومة اقتصادية وطنية سيادية قادرة على الصمود، والتكيف، والمبادرة. وهذه المنظومة تستدعي مجموعة من التدابير التقنية والواجب تطبيقها مع الجدية في الإلتزام بالغستمرار في تحديثها ، وهي تبني سياسة صناعية وطنية دقيقة، تقوم على استهداف سلاسل القيمة المتقدمة وليس فقط التركيب والتجميع، خصوصا في قطاعات الطاقات المتجددة، والصيدلة، والأغذية، والإلكترونيات الدقيقة.
وإعادة صياغة اتفاقيات التبادل التجاري بما يخدم مصالح المغرب أولا، لا الشركات متعددة الجنسيات. ثم الاستثمار في رأس المال البشري كقاطرة للابتكار والسيادة التكنولوجية. و خلق نظام مالي وتمويلي مرن، يخفف من الارتهان للمؤسسات المالية الخارجية، ويوجه الادخار الوطني نحو الإنتاج المحلي. و مما يتيح بناء سوق داخلية قوية ومتماسكة، وذلك من خلال دعم الإنتاج المحلي، وضبط الاستيراد، وإعادة هيكلة منظومة الدعم والضرائب.
فالمغرب يواجه صناعة القرار في عالم متحول ، فالعالم لا ينتظر. وما كان يعتبر حتى الأمس القريب من البديهيات (مثل التجارة الحرة، سلاسل الإمداد العالمية، وشبكات الاستثمار العابرة للقارات) أصبح اليوم محل شك وتساؤل في زمن تتغير فيه قواعد اللعبة الدولية بسرعة الضوء، ومن لا يصنع مشروعه الاقتصادي بيده، سيستعمل كمجال لتجارب مشاريع الآخرين.
وقد نقول وبدون تردد بأن المغرب أمام فرصة تاريخية ، إما أن يكون جزءا من المعادلة العالمية الجديدة بفضل مشروع سيادي واقعي ومرن، أو أن يتحول إلى هامش اقتصادي تتقاذفه رياح الصراع بين الكبار.
فهل نستعد للعصر الجديد… قبل أن يفرض علينا بشروط لا نملك تغييرها .
إرسال التعليق