من يُصلح قطاعًا تأكله الفوضى ويحاصره الريع؟

آخر الأخبار

من يُصلح قطاعًا تأكله الفوضى ويحاصره الريع؟

رصد المغرب / مراد مجاهد


يُطرح هذه الأيام في أروقة البرلمان المغربي سؤال بالغ الأهمية، يهمنا كسائقين مهنيين كما يهم عموم المواطنين، وهو هل آن الأوان لإحداث وكالة وطنية لتدبير قطاع سيارات الأجرة؟، سؤال لا يفتقد إلى الجرأة، ولا إلى الوجاهة، لكنه يُواجه واقعًا نقابيًا واجتماعيًا لا يقل تعقيدًا عن تعقيدات القطاع ذاته.

من حيث المبدأ، لا خلاف على أن القطاع يعاني منذ عقود من انعدام التأطير المؤسساتي. فما زال يُدبّر استنادًا إلى ظهير شريف يعود إلى سنة 1963 (1.63.260)، نص قانوني تجاوزته التحولات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية التي عرفتها المملكة. هذا الظهير لم يكن في يوم من الأيام موجّهًا لتنظيم العلاقات المهنية أو لضمان جودة الخدمة العمومية، بل كان في جوهره أقرب إلى ترخيص فردي بالتنقل، تمنحه الدولة لشخص معين، دون رؤية متكاملة لمسؤولية النقل كحق من حقوق المواطن أو كمرفق يجب أن يُنظم بعقود، وضمانات، ومراقبة.

ومنذ ذلك الحين، تطور المغرب في مجالات عديدة: دستور جديد، جهوية موسعة، قانون الشغل، ميثاق المرافق العمومية، بل وحتى تغطية اجتماعية للسائقين، دون أن يمس أحد جوهر هذا الظهير أو يُعيد النظر في شرعيته الزمنية والقانونية. وهكذا نشأ قطاع غير مهيكل، تتحكم فيه عقليات الريع، ومنطق الوساطة، والعلاقات الزبونية، وتُديره سلطات محلية بقرارات عالمية متفاوتة من إقليم لآخر، دون وجود سياسة عمومية موحدة، أو مؤسسة واحدة تتحمل المسؤولية.

ولذلك، فإن فكرة إحداث وكالة وطنية لتدبير القطاع – كما جاء في السؤال الكتابي للنائب محمد عواد – تُعد من حيث المبدأ خطوة في الاتجاه الصحيح، شرط أن تُبنى على أساس القانون، وتستجيب لمبدأ الخدمة العمومية، وتضمن الإنصاف بين جميع الفاعلين. لكن – وهنا جوهر الإشكال – لا يمكن لأي فكرة، مهما كانت نبيلة، أن تُنفذ في ساحة يملؤها التنازع، وتحتكرها هيئات نقابية لا تمثل إلا نفسها.

فالواقع أن قطاع سيارات الأجرة في المغرب مخترق بنقابات يتجاوز عددها 30 تنظيما، تتعدد مسمياتها، وتتضارب مصالحها، وتفتقد أغلبها لأي قاعدة شرعية من المهنيين. هذا التعدد الشكلي لا يُعبر عن تنوع ديمقراطي، بل عن تشتت منهجي يعرقل كل إصلاح. والأسوأ من ذلك، أن جزءًا من هذه التنظيمات لا يمانع من توظيف ورقة الفوضى ضد أي مبادرة لا تتماشى مع مصالحه الضيقة، مما يجعل من مشروع الوكالة الوطنية – رغم وجاهته – مشروعًا مهددًا بالإجهاض قبل أن يولد، إذا لم يُرافقه حوار حقيقي، وجرأة سياسية، وإرادة واضحة لتطهير القطاع.

فكيف يمكن إحداث وكالة وطنية في ظل غياب معيار واضح للتمثيلية؟ من سيجلس على طاولة التشاور؟ من يمثل السائق المهني الحر الذي يدفع الروسيطة ويشتغل دون غطاء قانوني؟ من يمثل أرملة السائق التي حُرمت من التغطية الاجتماعية لأن زوجها كان “مستغلا” لا “أجيرًا”؟ من سيحمل صوت من أنهكته “الشفرة”، والبيروقراطية، والتعسف الإداري، والعقود الشفهية، والعشوائية في التسيير؟

إن أي إصلاح حقيقي لا بد أن ينطلق أولاً من القانون. لا يمكن بناء وكالة فوق ظهير متجاوز، ولا يمكن ضبط القطاع بمذكرات وزارية وقرارات عاملية تُكتب وتُعدل حسب الظروف. نحن بحاجة إلى قانون إطار جديد لقطاع سيارات الأجرة، قانون يُحدّد طبيعة العلاقة بين صاحب الرخصة والمستغل والسائق غير المالك، بين المهني والإدارة، بين المواطن والخدمة. قانون يُرسّخ العدالة ويقطع مع الريع، ويُعلي من المردودية والكفاءة والمهنية.

أما إحداث الوكالة، فيجب أن يكون لاحقًا، لا سابقًا، ومبنيًا على هذا الإطار القانوني، لا أن يُفرض فوق تناقضاته. كما يجب أن يكون اختيار من يمثل القطاع في هذه الوكالة خاضعًا لدفتر تحملات ديمقراطي: بالانتخاب، وبالتصريح بالانتماء، وبالمحاسبة، لا بالتعيين العشوائي ولا بالمحاباة.

وفي الأخير، نقولها بصدق وبلا مزايدة: نحن لا نعارض الإصلاح، ولا نقف ضد فكرة الوكالة، بل على العكس تمامًا. نراها فرصة تاريخية لإنقاذ القطاع من الغرق. لكننا نرفض أن يتم تمرير مشروع نبيل فوق أرضية فاسدة، وبين أيدي تنظيمات فاسدة، وعلى حساب كرامة السائق المهني المزاول الذي ظل لعقود الحلقة الأضعف في منظومة لا ترحم.

إذا أرادت الدولة إصلاح هذا القطاع، فلتبدأ أولًا من الاعتراف بوجوده كقطاع مستقل ومهني وحيوي، ثم تُطهر ساحته من الدخلاء والمفسدين، وبعدها تبني، فوق أسس القانون، وكالة وطنية تليق بالمغاربة، وتخدم الوطن والمواطن.

ذلك هو الإصلاح الحقيقي، وما عداه ترقيع مؤقت… لن يصمد أمام أول هزة.

إرسال التعليق