آخر الأخبار

ميركاتو الأندية.. سطوة المال و سؤال القيمة

ميركاتو الأندية.. سطوة المال و سؤال القيمة

٢


مع انتهاء كل فترة انتقالات للرياضيين بالخصوص لاعبي كرة القدم وكرة السلة على وجه الخصوص المعروفة إعلاميا “بالميركاتو”، تتصاعد أسئلة عن تأثير التغول الرأسمالي على سوق انتقالات اللاعبين العالمي، وكيف تحولت مثلا كرة القدم من مجرد رياضة شعبية إلى صناعة ضخمة تُدار بعقلية ربحية بحتة، مع التضخم الهائل في أسعار اللاعبين.

تحويل اللاعب من “رياضي” إلى “سلعة”، والنادي من “كيان رياضي” إلى “شركة”، والرياضة من “نشاط” إلى “صناعة”. هذه التحولات هي تجليات مباشرة لتأثيرات الرأسمال على جوهر اللعبة.

ومع التضخم الكبير لسوق اللاعبين والرياضيين، يعاد التفكير في القيمة الاجتماعية للرياضة، ووضعها في سياقها الصحيح كنتاج ثقافي يخضع لقوى السوق يؤثر ويتأثر بالتحولات الاجتماعية.

فالسنوات الأخيرة لم يعد اللاعب مجرد “رياضي” يمارس مهارة، بل تحول إلى سلعة أو أصل مالي، هذا التحول يثير أسئلة وجودية وفلسفية حول القيمة.

، القيمة الجوهرية (Intrinsic Value) كانت قيمة اللاعب تُقاس في الماضي بمهارته الكروية، وانتمائه لناديه، وولائه للمشجعين، هذه قيمة جوهرية ترتبط باللاعب كإنسان وكرياضي.

القيمة السوقية (Market Value) في العصر الرأسمالي، أصبحت قيمة اللاعب تُقاس بقدرته على تحقيق الأرباح. هذا يشمل مبيعات القمصان، وحقوق الصورة، وجذب عقود الرعاية. هنا، القيمة ليست جوهرية، بل هي قيمة مبنية على عوامل خارجية، أي افتراضات سوقية.

هذا التحول طرح تساؤلاً فلسفياً: هل القيمة حقيقة موضوعية أم أنها بناء اجتماعي؟ التضخم في سوق الانتقالات يشير إلى أن القيمة هي بناء اجتماعي بامتياز، مدفوع بآليات السوق وليس بحقيقة موضوعية.

.فالحقيقة اليوم في السوق الرياضي هي ما يتفق عليه الفاعلون إذا اتفق جميع اللاعبين والوكلاء والمدارء الرياضيون على أن 100 مليون يورو هو سعر “مقبول” للاعب معين، فإن هذا السعر يصبح “حقيقة” سوقية، هذه ليست حقيقة جوهرية، بل هي حقيقة توافقية.

المعرفة هنا ليست مجرد وصف للواقع، بل هي صناعة للواقع، عندما تتوقع وسائل الإعلام أن سعر لاعب معين سيرتفع، فإن هذا التوقع يساهم فعليًا في رفع سعره، ولنا مؤخرا في صفقات تجاوزت 100 مليون يورو أو صفقات البريميرليغ التي تضخمت وأسقطت مفهوم القيمة.

تضخم سوق انتقالات اللاعبين ليس مجرد ظاهرة اقتصادية، بل هو ظاهرة معرفية تعكس تحولاً في كيفية بناء وتحديد القيمة.

القيمة لم تعد تُستمد من الحقيقة التجريبية لأداء اللاعب، بل أصبحت تُبنى بشكل رئيسي على التوقعات، والاتفاقات الاجتماعية، والرهانات المستقبلية التي تشكل حقيقة السوق.

يعتبر قانون بوسمان الذي صدر عام 1995 نقطة تحول كبيرة، هذا القانون سمح للاعبين بالانتقال مجاناً بعد انتهاء عقودهم، مما زاد من قوتهم التفاوضية.

أصبحت الأندية الآن مجبرة على تقديم عقود طويلة الأمد برواتب عالية للحفاظ على لاعبيها، أو دفع مبالغ ضخمة لشرائهم قبل انتهاء عقودهم، هذا الأمر ساهم في رفع الأجور وقيمة الانتقالات بشكل ملحوظ.

فالأندية الرياضية لم تعد كيانات اجتماعية تعبر عن مدنها، بل أصبحت شركات كبرى تهدف إلى تحقيق الأرباح، هذا التحول جعلها تتصرف كأي شركة تجارية في السوق، حيث تنظر إلى اللاعبين على أنهم أصول قابلة للبيع والشراء، وتُقيّم قيمتهم بناءً على مردودهم التجاري وقدرتهم على جذب الرعاة والمتابعين، وليس فقط على أدائهم الفني في الملعب.

أصبحت المنافسة لا تقتصر على الفوز بالمباريات والبطولات فقط، بل امتدت لتشمل المنافسة على النجومية العالمية وزيادة القيمة التسويقية للنادي، حيث يساهم امتلاك لاعبين نجوم يساهم في زيادة مبيعات القمصان والمنتجات، وجذب عقود رعاية ضخمة، توسيع قاعدة المشجعين عالمياً.

كرة القدم بالتحديد دون غيرها من الرياضات تحولت إلى سوق مفتوح حيث تُعدّ الأندية شركات، واللاعبون منتجات، والمنافسة تتم على الاستثمار الأكثر ربحية. هذا التحول، إلى جانب تدفق الأموال من حقوق البث والاستثمارات الخارجية، هو العامل الرئيسي وراء التضخم الكبير في أسعار انتقالات اللاعبين.

وتنتقد المدرسة النقدية بتحويل الرأسمالية للرياضة “كمنتج كما حوّلت الفن والثقافة، من تعابير إنسانية حقيقية إلى منتجات قابلة للاستهلاك الجماهيري، فكرة القدم لم تعد ظاهرة ثقافية حية، بل أصبحت منتجاً مُعلباً يُصمّم ليُستهلك.

المدرسة النقدية ترى في الرياضة الحديثة مفرغ من المحتوى الأخلاقي والجمالي، وتحولها إلى مجرد أداة لتخدير الجماهير وتشتيت انتباههم عن مشاكلهم الحقيقية، كما حدث مع السينما والتلفزيون، لتصبح الرياضة مجرد أداة لتعظيم الربح بدلاً من أن تكون وسيلة للتعبير عن الروح الإنسانية.

باعتبار الرياضة الحديثة ظاهرة اجتماعية واقتصادية وثقافية جد معقدة، لا يمكن فهمها إلى بالجمع بين الرؤيتين النقدية والرأسمالية، لتفكيك البنى الرمزية.

بالمقابل فصيغة الاحتراف الحالي والانتشار العالمي لكرة القدم لم يكن ليتحقق بالشكل الذي نراه اليوم دون ضخ الأموال الهائل من الرأسمال، فالملاعب الحديثة، والتدريب المتقدم، والتقنيات الرياضية، كلها نتاج استثمارات رأسمالية.

في الوقت نفسه، لا يمكننا تجاهل التأثيرات السلبية. يجب الإقرار بأن التجربة الجماهيرية تغيرت، فقد تحولت من تجربة محلية متجذرة إلى منتج استهلاكي. كما أن الفوارق المالية الكبيرة بين الأندية أصبحت تهدد التنافسية وتجعل البطولات في كثير من الأحيان مملة ومتوقعة.

سيطرة عدد قليل من الأندية الكبرى على ألقاب الدوريات الأوروبية الكبرى لعقود، حد من فرص الأندية الأصغر للتألق أوروبيا، مثلا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي تألقت أندية شتيوا بوخارست النجم الأحمر لبلغراد وأيندهوفن وفازت بلقب وري أبطال أوروبا بصيغتها القديمة الشيء الذي لم يعد ممكنا أو صعب المنال اليوم.

خلق التوازن بين الكفاءة الرأسمالية والعدالة الاجتماعية، والاستفادة من الإدارة الاحترافية والاستثمار، لكن في نفس الوقت يجب وضع قوانين تضمن أن الأموال لا تتركز في أيدي عدد قليل من الفرق.

بتفعيل صارم للوائح اللعب المالي النظيف (Financial Fair Play)، التي تهدف إلى الحد من الإنفاق غير المسؤول، يمكن اعتبارها محاولة لتحقيق هذا التوازن.

وتلعب الجماهير والمؤسسات المحلية دورا مهما في الحفاظ على هوية الأندية، حيث تضمن مشاركة المشجعين في القرارات الكبرى المتعلقة بالأندية، وليس فقط اعتبارهم مستهلكين.

مثال: النموذج الألماني، الذي يمنح الأندية الأغلبية في ملكية الأندية (قاعدة 50+1)، يمكن أن يكون نموذجًا يجمع بين الإدارة الرأسمالية ومشاركة الجماهير.

إعادة تعريف النجاح في الرياضة اختلف ، بحيث لم يعد النجاح مقتصرًا على الفوز بالألقاب فقط، بل يشمل أيضًا الاستدامة المالية، والتأثير الاجتماعي الإيجابي، والحفاظ على القيم الرياضية الأصيلة.

لا يمكن لفظ الرأسمالية بشكل كامل، ولا تبنيها بلا حدود، بل الطريق الثالث هو الاستفادة من نقاط قوتها مع وضع ضوابط تحد من آثارها السلبية، بهدف تحقيق رياضة أكثر عدالة، وتنافسية، وقربًا من جمهورها.

إرسال التعليق