
فوضى السلاح في سوريا: بناء جيش موحّد في دولة مفكّكة
رصد المغرب/حايد حايد اكاديمي وباحث
المقدّمة
في أعقاب صراعٍ مسلّح استمرّ أكثر من 13 عاماً، تحوّلت سوريا إلى نسيج مفكّك من المناطق المعزولة الخاضعة لقبضة فصائل متنافسة. إلا أنّ سقوط نظام الأسد المفاجئ في ديسمبر 2024 أتاح فرصة نادرة لإعادة توحيد الدولة تحت مظلّة سلطة واحدة.
سرعان ما فرضت هيئة تحرير الشام، القوة المهيمنة وراء سقوط الأسد، نفسها كجهة مسؤولة عن توحيد الجيش. فقد تفاوضت الهيئة، مستفيدة من الزخم السياسي آنذاك، على اتفاقيّات لدمج الفصائل المسلّحة المختلفة، بما في ذلك مجموعات المعارضة السابقة والفصائل الدرزية وقوات سوريا الديمقراطية ذات القيادة الكردية، في جيش وطني موحّد.1 وللمرّة الأولى منذ أكثر من عقد، بدا أنّ احتكار الدولة لاستخدام العنف المشروع أصبح ممكناً.
ومع ذلك، فقد كشفت أعمال العنف اللاحقة، التي أشعلها إما فلول النظام السابق، كما حدث في اللاذقية، وإما الأجهزة الأمنية المتنافسة، كما في ريف دمشق والسويداء، مدى ابتعاد هذه الرؤية عن الواقع.2 كما أظهرت محدودية سلطة الحكومة الانتقالية على عددٍ من الفصائل المسلّحة التي تدّعي أنّها تُسيطر عليها.
وعلى الرّغم من أنّ عملية التوحيد قد حقّقت إنجازات رمزيّة، مثل إنشاء الهياكل التنظيميّة، والتقسيمات الرسمية، وسلسلة القيادة، إلا أنّ تنفيذها لا يزال هشًا. إذ لا تزال أربعة عوامل رئيسية تُقوّضها: 1) انعدام الثقة المتجذّر، 2) والعجز المالي، 3) والانقسامات الأيديولوجية، 4) واستمرار التدخّل الخارجي.3 وفي ظل غياب جيش موحّد وخاضع للمساءلة فعلياً، تُواجه عمليّة الانتقال السياسي الهشّة أساساً خطر الانهيار في سوريا.
الزخم الضعيف نحو توحيد الجيش
عقب انهيار نظام الأسد، سارع الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى تفكيك شبكة الفصائل المسلّحة المتأصّلة في سوريا منذ زمنٍ بعيد. وقد تمثّلت أولى أولويّات الحكومة الانتقاليّة بتوحيد الميليشيات المختلفة في البلاد، وجمع السلاح، ووضع الأسس لجيش وطني مركزيّ. ومع ذلك، وعلى الرغم من التصريحات الرسمية الرفيعة المستوى، كان التقدم بطيئاً وشكلياً إلى حدّ كبير، إذ عرقله التنافس المزمن وانعدام الثقة المتبادل والانقسامات الأيديولوجيّة المتجذّرة.
لإطلاق العملية، بادر الشرع إلى عقد سلسلة مكثّفة من الاجتماعات مع قادة الفصائل من شتّى أنحاء البلاد. وعلى الرغم من أنّ مضمون هذه المفاوضات لم يُعلن رسمياً، أعلنت الحكومة في 24 ديسمبر 2024 أنّ الفصائل الثورية كافة قد وافقت على حلّ نفسها والاندماج تحت مظلّة وزارة الدفاع.4
تلت ذلك اتفاقات مشابهة في السويداء وشمال شرق سوريا، وهما منطقتان معارضتان للسلطات الانتقالية منذ البداية. فقد أبدت القوى المهيمنة على كلّ من المنطقتين موافقتها المبدئية على الانضمام إلى الجيش الموحّد الجديد، على الرغم من أنّ المباحثات بشأن تفاصيل عمليّة الاندماج كانت لا تزال جارية لدى كتابة هذا التقرير.5
بالإضافة إلى ذلك، اتّخذ الشرع خطوات متعدّدة لتعزيز القيادة العسكريّة في سوريا، حيث عيّن مرهف أبو قصرة وزيراً للدفاع، وعلي النعسان رئيساً لهيئة الأركان؛ وهما قائدان عسكريّان في هيئة تحرير الشام اضطلعا بدور بارز في الهجوم الذي أدّى إلى هزيمة الأسد.6 وفي ظلّ هذه القيادة، أنشأت السلطات الانتقالية فرقاً عسكرية، وكلّفت القادة المعيّنين حديثاً بتنظيم الوحدات المسلّحة المتشرذمة في البلاد.7
لكن على الرغم من المظاهر، لا تزال عمليّة التوحيد الحقيقي بعيدة المنال، إذ تكشف مصادر مطّلعة على عملية الاندماج أنّ معظم الفصائل المسلّحة لا تزال تعمل بشكل مستقل، محتفظةً بهياكل قيادتها السابقة وبسيطرتها على الأراضي.8 والأهمّ أنّ عناصر من الجيش الوطني السوري، وهو ائتلاف مسلّح مدعوم من تركيا، يستمرّون في العمل بشكل مستقل في شمال غرب البلاد.9 ولا يقلّ الوضع تعقيداً في شمال شرق سوريا كما في جنوبها، حيث لا تزال قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد والمجموعات الدرزية المسلّحة خارج سلطة دمشق، على الرغم من أنّها سبق وأعربت عن استعدادها للانضمام إلى الجيش الموحّد الجديد.10
انعدام الثقة المتجذّر
يتمثّل العائق الرئيسي الأول أمام توحيد الفصائل المسلّحة في سوريا بانعدام الثقة المتجذّر في صفوف هذه المجموعات – وتحديداً تجاه هيئة تحرير الشام. فقد خلّفت سنوات من الصراع المسلح والانقسامات الأيديولوجيّة بالإضافة إلى سجّل هيئة تحرير الشام الحافل باستخدام العنف لإخضاع الفصائل المنافسة، إرثاً مثقلاً بمشاعر الاستياء والريبة. ولا يزال من الصعب تقبّل فكرة أنّ الفصائل التي كانت متنازعة في السابق يجب أن تصبح خاضعة لسلسلة قيادة موحّدة، خاصّة إذا كانت هيئة تحرير الشام مسؤولة عن تشكيلها، في غياب مصالحة حقيقية أو إصلاح مؤسّساتي شامل.11
فمنذ بدء المرحلة الانتقالية، تأجّجت هذه المخاوف في ظلّ تعيين قادة من هيئة تحرير الشام في مناصب عسكرية رفيعة .12 وعلى الرغم من أنّ الجهود الأخيرة أسفرت عن تنوّع في القيادات على مستوى الفرق، إلّا أنّ الشكوك تساور عدداً من القادة من خارج نطاق الهيئة، الذين يخشون أن يؤدّي الاندماج الكامل إلى تهميشهم وفقدان نفوذهم، وفي نهاية المطاف تجريدهم من أيّ دور فاعل على الأرض أي.13
وتجسّدت هذه المخاوف في خطوات ملموسة، إذ رفضت فصائل متعدّدة تفكيك هياكلها الداخليّة أو تسليم أسلحتها الثقيلة. ولا يزال المقاتلون في كثير من الأحيان يتلقون الأوامر من قادتهم الأصليين بدلاً من وزارة الدفاع، وغالباً ما تقوم المجموعات بإخفاء الأسلحة وتخزينها تحسّباً لأيّ خيانة مستقبلية أو لنزع سلاحها بالقوة.14
أمّا في جنوب سوريا فقد أصرّت بعض الفصائل على الانضمام إلى الجيش الوطني كوحدات متكاملة بدلاً من تفكيكها وتوزيعها ضمن تشكيلات جديدة، بينما رفضت فصائل أخرى، مثل اللواء الثامن، التعاون بشكل كامل بانتظار الحصول على ضمانات رسمية بشأن سلسلة القيادة في الجيش، واستقلال العمليّات، والسلطة في صناعة القرار.15
ويُعدّ الخوف من المساءلة في المستقبل عنصراً هاماً أيضاً، إذ يخشى عددٌ من المقاتلين احتمال ملاحقتهم قضائياً بسبب الانتهاكات التي ارتكبوها في خلال الحرب في حال سلّموا أسلحتهم ومواقعهم. ولا تزال معالم العدالة الانتقالية غير واضحة، فيما يخيّم شبح الانتقام، لا سيما بالنسبة إلى الفصائل المتّهمة بارتكاب انتهاكات خطيرة، على عمليّة الدمج.16
العجز المالي
يعتبر النقص الحاد في القدرات المالية واللوجستية العامل الرئيسي الثاني الذي يعيق توحيد الفصائل المسلّحة في سوريا. فبناء جيش محترف ومتماسك يتطلّب استثمارات ضخمة في التجنيد والتدريب واللوجستيات والمعدّات والرواتب – وهي موارد لا تملكها الحكومة الانتقالية.17
وتعاني البنية التحتية العسكرية الموروثة من نظام الأسد من التشتّت والإستنزاف، بعد أن عصفت بها حربٌ على مدى أكثر من عقد من الزمن. وفي الوقت نفسه، تواجه سوريا أزمة اقتصادية خانقة واحتياجات إنسانية هائلة.18وفي ضوء هذه الأولويات المتنافسة، يجب على السلطات الانتقالية تحقيق توازن بين محنة المدنيين المُلحّة وتكلفة بناء قوة دفاع وطنية موثوقة والحفاظ عليها.
حتى الآن، لم ترقَ المساعدات الخارجية إلى مستوى التحديات. فعلى الرغم من أنّ دولاً مثل الأردن وتركيا أعربت عن دعمها لتوحيد الجيش في سوريا، إلّا أنّ هذا الدعم لم يُترجم إلى تمويل فعليّ، إذ لا تزال الجهات المانحة الدولية متردّدة في تمويل جهود دفاعية تضمّ مجموعات متّهمة بارتكاب انتهاكات لحقوق الانسان أو مرتبطة بأطراف متطرّفة.19
لقد بدأت تداعيات هذا النقص في التمويل تظهر فعلاً. لا تزال فصائل متعددة تتلقى رواتبها عبر قنوات غير رسمية أو من رعاة خارجيين مثل تركيا، متجاوزةً بذلك وزارة الدفاع،20 ما يُقوّض سلطة الحكومة المركزية، ويُؤخّر عمليّة الإدماج الحقيقي، ويساهم في بقاء مراكز القوى المتنافسة.
وتُعيق الحوافز الاقتصادية أيضاً عملية التوحيد. فقد أتاحت سنوات الحرب للمجموعات المسلّحة إنشاء مصادر دخل خاصّة بها توازي مصادر دخل الدول، من خلال فرض رسوم على نقاط التفتيش، والسيطرة على طرق التهريب، وفرض ضرائب على الأسواق المحليّة. وقد يستلزم الانضواء تحت لواء جيش مركزي التخلّي عن مصادر الدخل هذه والخضوع للرقابة، وهو ثمنٌ لا يرغب عددٌ من القادة في دفعه.21 ونتيجةً لذلك، ينخرط البعض في عملية الادماج ظاهرياً فقط، سعياً وراء الشرعية ومن دون التخلّي عن الحكم الذاتي.
وفي حين أنّ القرارات الأخيرة الصادرة عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا بالكامل قد تساهم في تسهيل تقديم دعم مالي أكبر للحكومة الانتقالية، فإنّها على الأرجح لن تكون كافية لتلبية احتياجاتها العسكرية والمالية، لا سيما أنّ هيئة تحرير الشام ما زالت مصنّفة كمنظمة إرهابية، فضلاً عن المخاوف القائمة من انتهاكات محتملة لحقوق الإنسان في المستقبل.22
الانقسامات الأيديولوجية
تتمثّل العقبة الرئيسيّة الثالثة أمام توحيد الفصائل المسلّحة في سوريا في الخلافات السياسية والأيديولوجية العميقة، لا سيما تلك التي تضع دمشق في مواجهة مع مجموعات في السويداء والقوات التي يقودها الأكراد في شمال شرق البلاد. ولا يعكس تردّد هذه المجموعات في الاندماج ضمن جيش وطني تشكيكاً في نوايا الحكومة الانتقالية فحسب، بل يعبّر أيضاً عن تصادم بين رؤى متنافسة حول مستقبل سوريا.23
وتنبع هذه التوتّرات من انقسام أيديولوجي جوهري، إذ تدعو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والميليشيات الدرزية إلى قيام نظام سياسي علماني لامركزي يضمن الاستقلاليّة المحلية في الشؤون الإدارية والأمنية والعسكرية. وتتصوّر قوات سوريا الديمقراطية، على وجه الخصوص، هيكلاً لامركزي متعدد الأعراق في ظلّ حكم ذاتي قوي للأكراد في الشمال الشرقي. ويتناقض هذا النموذج بشكل حاد مع الرؤية المركزية ذات التوجه الإسلامي التي تروّج لها هيئة تحرير الشام.24
تخشى كلٌّ من قوات سوريا الديمقراطية والفصائل الدرزية الانصهار في نظام سياسي تُهيمن عليه أغلبيّة سنيّة، على غرار الأنظمة السابقة التي دأبت على تهميش الأقليّات تاريخيّاً. وقد تفاقمت هذه المخاوف بسبب استبعاد هذه الفصائل من التعيينات العسكرية المبكرة والعمليّات السياسيّة والمناصب الحكوميّة الرئيسيّة. وقد أدّى فشل السلطات الانتقالية في توفير الحماية الكافية للمجتمعات المحليّة والاستجابة لحوادث العنف الطائفي الأخيرة – ولا سيّما ضد العلويين والدروز – إلى تعميق انعدام الثقة لدى هذه المجتمعات.25
رداً على ذلك، أصرّت كلّ من المجموعتين على الاحتفاظ بسيطرتها على قوى الأمن المحليّة وإمكانية الوصول إلى الأسلحة الثقيلة، أقلّه إلى حين توفّر ضمانات موثوقة لتمثيلها السياسي وحماية مجتمعاتها.26 ويعكس رفض أعضاء هاتين المجموعتين للاندماج كأفراد في وحدات خاضعة لقيادة مركزية مخاوف أوسع حول الحفاظ على التماسك الداخلي والقدرات الردعية، فيما تتفاوضان على النفوذ في ظلّ المشهد السياسي المتغيّر.
كما انتقدت قوات سوريا الديمقراطية والفصائل الدرزية قرارات وزارة الدفاع المتعلّقة بالموظفين، لا سيما هيمنة مسؤولين من طائفة واحدة، وتعيين رعايا أجانب في مناصب قيادية. وعلاوة على ذلك، أدانت ترقية قادة إشكاليين من فصائل مسلّحة متورّطة في انتهاكات بحق مدنيّين، بمن فيهم مدنيّون أكراد.27
استمرار التدخّل الخارجي
تكمن العقبة الرئيسيّة الرابعة أمام توحيد الفصائل المسلّحة في سوريا في استمرار تدخّل القوى الإقليميّة. لطالما أعاقت الصراعات غير المحسومة والأجندات المتنافسة بين القوى الخارجية جهود دمشق الرامية إلى بناء جيش وطني متماسك وشامل، ما أجّج حالة انعدام الثقة واستمرار التشرذم.
ولا تزال تركيا، التي تمثّل لاعباً أساسياً في شمال سوريا، حذرة من أيّ ترتيب يُضفي الشرعية على قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد أو يمنحها حكماً ذاتياً رسمياً.28 وقد ساهم ذلك على الأرجح في تردّد أنقرة في الضغط على الفصائل التركمانية المتحالفة معها، مثل فرقة السلطان مراد، والحمزات، والعمشات (العاملة تحت مظلة الجيش الوطني السوري المذكور أعلاه)، للاندماج الكامل في الهيكل العسكري السوري الجديد. ويبدو أنّ صناع القرار الأتراك ينتظرون موقفاً واضحاً حول وضع قوات سوريا الديمقراطية المستقبلي قبل الموافقة على دمج وكلائهم بشكلٍ كامل.29
في غضون ذلك، زادت الحملة العسكرية الإسرائيلية المتصاعدة في جنوب سوريا من تقويض جهود التوحيد. فمنذ سقوط الأسد، نفّذت إسرائيل أكثر من 600 غارة جوّية استهدفت مواقع في دمشق ودرعا والسويداء. وتستند هذه العمليّات إلى حدّ كبير إلى أهداف إستراتيجيّة، أبرزها إنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح بمحاذاة هضبة الجولان المحتلّة، والتي يُحتمل أن تديرها جهات فاعلة غير حكوميّة، مثل المجموعات المسلّحة الدرزية، التي تعتبرها إسرائيل أقلّ عداءً للمصالح الإسرائيليّة من الجهات الفاعلة الأخرى.30 نتيجة لذلك، باتت الفصائل الدرزية تتفاوض من موقع قوة، ما زاد من توتّر العلاقات مع الحكومة الانتقالية.
عواقب استمرار التشرذم
يُشكّل استمرار تشرذم الفصائل المسلّحة في سوريا خطراً شديداً ومتعدّد الأوجه على نجاح العملية الانتقاليّة في البلاد، ومن أحد أبرز تداعياته تآكل سلطة الحكومة الانتقالية. ففي حين تدّعي دمشق رسمياً السيطرة على معظم الأراضي السوريّة، إلا أنّها في الواقع تحكم من خلال هيكل مفكّك من المجموعات المسلّحة شبه المستقلّة التي تختلف في درجات ولائها. ويؤدي مشهد التشرذم هذا إلى تآكل احتكار الدولة لاستخدام القوة، الذي يُعدّ ركيزة أساسية لشرعية الحكم – ويعزّز قيام هياكل موازية للسلطة تُقوّض التماسك الوطني ومصداقية مؤسّسات الدولة.
يُعرّض هذا الوضع استقرار سوريا للخطر، إذ تصبح الفصائل المسلّحة التي تعمل خارج هياكل قيادة موحّدة أكثر عرضة للاقتتال الداخلي، والصراعات على السلطة، والعنف العشوائي. وغالباً ما تُلحق الاشتباكات حول الأراضي أو الموارد أو النفوذ أضراراً بالمدنيّين، إمّا بشكل مباشر من خلال الصراع المسلّح أو بشكل غير مباشر من خلال الانتهاكات التي يرتكبها مقاتلون غير منضبطين. وتسفر هشاشة الوضع المستمرّة عن زعزعة ثقة الرأي العام بالسلطات الانتقالية وتعميق الانقسامات الاجتماعية، ما يزيد من احتمال تجدّد الصراع.31
بالإضافة إلى ذلك، يقف التشرذم عائقاً في وجه تحقيق العدالة الانتقالية. ففي حال حافظت الفصائل على سلاسل قيادة داخلية مستقلة وشبكة من الولاءات، ستواجَه الجهود المبذولة للتحقيق في الانتهاكات المرتكَبة في خلال الحرب أو مقاضاة مُقترفيها بالمعارضة أو بالتحدي الصريح. وبما أنّ القادة يستطيعون حماية مرؤوسيهم من المساءلة القانونية، فهُم يكرّسون ثقافة الإفلات من العقاب، وهذا لا يعيق جهود المصالحة فحسب، بل ينفر المجتمعات التي عانت من الانتهاكات، لا سيّما عندما يبقى الجناة في مواقع السلطة.32
ويهدّد غياب دمج الأجهزة الأمنية بإحباط مسار تعافي الاقتصاد السوري. حيث يرى المستثمرون والجهات المانحة الدولية أنّ استمرار التشرذم العسكري يدلّ على عدم الاستقرار السياسي وخطر اندلاع الصراع. ففي غياب بنية أمنيّة موحّدة وموثوقة، تظلّ الاستثمارات طويلة الأجل في البنى التحتية والإعمار والتنمية أهداف بعيدة المنال، لا سيما وأنّ الدول المانحة تتردّد في ضخّ أموالها في نظام حيث قد تُستغل مساهماتها من جانب فصائل غير خاضعة للمساءلة، أو تُعيد إطلاق شرارة العنف عن غير قصد.33
الخاتمة
لدفع سوريا قدماً نحو الاستقرار الدائم، لا بدّ من أن تُعالج الحكومة الانتقالية بشكل عاجل التحديّات الجذرية التي تشكّل حجر عثرة في عمليّة توحيد الجيش وهذا يتطلّب بناء أُطر مؤسساتية واضحة لعملية الإدماج، وضمان الشمولية الحقيقية، وإعطاء الأولوية للكفاءة على الولاء في القيادة العسكرية، والانخراط في حوار صادق ومستدام، لا سيّما مع الفئات المهمّشة تاريخياً.
لا يمكن فرض الثقة بالقوّة، بل يجب بناؤها على أُسس الشفافية والمساءلة وسيادة القانون وفي إطار عملية موثوقة لتحقيق العدالة الانتقالية. ولا بدّ من أن يخضع الدعم المالي واللوجستي لمراقبة واضحة وخطوات إصلاحية. وفي الوقت عينه، يعدّ الحدّ من التدخّل الأجنبي ضرورياً لاستعادة السيادة الوطنية.
كما يجب أن يعكس الجيش السوري تنوّع الأمة، لا في بنيته فحسب، بل في أهدافه أيضاً، بحيث يلتزم برؤية موحّدة فلا يخضع لأجندات الفصائل. فوجود جيش وطني متماسك وشامل وخاضع للمساءلة ليس مجرّد هدف أمني بل هو أساس التعافي السياسي والسلام الطويل الأجل.
الواقع أنّ ما هو على المحك ليس الإصلاح العسكري فحسب، بل أُسس بناء دولة سورية موحدّة وسياديّة تمثّل الجميع.
الهوامش
1 “الشرع يتفق مع قادة الفصائل السورية على الاندماج في وزارة الدفاع”، الجزيرة، 24 ديسمبر 2024 https://aja.ws/01wlqb
2 Haid Haid, “Syria’s sectarian violence is a ticking time bomb,” Al-Majalla, May 3, 2025, https://en.majalla.com/node/325422/politics/syrias-sectarian-violence-ticking-time-bomb.
3 Syrian researcher, interview by author, Damascus, Syria, February 4, 2025.
4 الجزيرة، “الشرع يتفق”
5 Jaidaa Taha and Menna AlaaElDin, “Syria’s interim president signs deal with Kurdish-led SDF to merge forces,” Reuters, March 11, 2025, https://shorturl.at/VTqMD.
6 “مرهف أبو قصرة.. وزير الدفاع السوري بعد خلع الأسد” الجزيرة، 31 ديسمبر 2024 https://bit.ly/4mJmrrE؛ “علي نور الدين النعسان رئيس هيئة الأركان السورية الجديدة، الجزيرة، 11 يناير 2025 https://shorturl.at/CdxKR
7 محمد الشيخ، ” تشكيل جيش سوريا الجديد سيتم عبر مراحل..وللمنشقين دور بارز”، المدن، 19 يناير 2025 https://bit.ly/3T5QOLm
8 Syrian military commander (Major), interview by author, Damascus, Syria, April 12, 2025.
9 Syrian military commnader, interview
10 جوان سوز، “رغم التفاوض مع الشرع .. قسد ترفض حل قواتها وتسليم السلاح”، العربية، 22 يناير 2025، https://ara.tv/gazvu
11 Defected military officer (Colonel), interview by author, Damascus, Syria, February 5, 2025.
12 عمر زقزوق، “ترقيات الضباط تثير جدلاً بين السوريين”، الجزيرة، 30 ديسمبر 2024، https://aja.ws/3yu7c3
13 Military commander (Captain), interview by author, Damascus, Syria, April 14, 2025.
14 Defected military officer (Colonel), interview by author, Damascus, Syria, February 5, 2025.
15 محمد أمين، جمع السلاح في سورية… فصائل الشمال الشرقي والجنوب تعقّد مهمة الإدارة الجديدة”، العربي الجديد، 10 يناير 2025، https://edgs.co/b2idu
16 Military commander (Major), interview by author, Damascus, Syria, April 12, 2025.
17 Military commander (Major), interview by author, Damascus, Syria, April 12, 2025.
18 Syrian researcher, Damascus, interview by author, Syria, April 14, 2025.
19 Military commander (Captain), interview by author, Damascus, Syria, April 14, 2025.
20 Military commander (Major), interview by author, Damascus, Syria, April 12, 2025
21 Syrian researcher, interview by author, Damascus, Syria, April 13, 2025.
22 “EU lifts economic sanctions on Syria, following US move last week,” Al Jazeera, May 20, 2025, https://aje.io/so4het; Syrian researcher, interview by author, Damascus, Syria, April 13, 2025.
23 Haid Haid, “Unity or conflict: Where are fragile HTS-SDF talks headed?,” Al-Majalla, February 3, 2025, https://rb.gy/xls2gt.
24 Haid, “Unity or Conflict.”
25 Military commander (Captain), interview by author, Damascus, Syria, April 14, 2025.
26 Syrian researcher, interview by author, Damascus, Syria, April 13, 2025.
27 زقزوق، ترقية الضباط؛ علي الكرملي “أبو حاتم شقرا” عميدا بالجيش السوري: ترقية ملطخة بالدم تفتح جراح الكرد!”، الحلّ، 13 مايو 2025، https://7al.net/?p=370953.
28 Haid, “Unity or conflict.”
29 Military commander (Captain), interview by author, Damascus, Syria, April 14, 2025.
30 Rob Geist Pinfold, “Why is Israel Escalating its Strikes Against Syria?” RUSI, May 9, 2025, https://rb.gy/3sccf7.
31 Syrian researcher, interview by author, Damascus, Syria, April 14, 2025.
32 Syrian researcher, interview.
33 Syrian researcher, interview by author, Damascus, Syria, April 13, 2025.
إرسال التعليق