تسريبات حديثة أعادت إلى الواجهة ما يوصف بأنه تورط بريطاني مباشر في التواصل مع هيئة تحرير الشام، في سياق لا يمكن التعامل معه كحادثة منفصلة أو خطأ استخباراتي عابر، لأن المعلومات المسربة، وفق رواية منتقدي الدور البريطاني، تشير إلى بنية كاملة صيغت على مدى عقد في سوريا، عنوانها هو، “استخدام جماعات مسلحة كأدوات نفوذ، ثم إعادة تأهيل بعضها ليلعب دور السلطة التي تضبط المرحلة الانتقالية وتمنع تشكل قوة سيادية مستقلة عن الإرادة الغربية”.
هذا المسار، بحسب من يهاجم السياسة البريطانية، ليس جديدا، بل يعد امتدادا لنهج تاريخي يقوم على صناعة «وكلاء محليين» يتمتعون بقوة محدودة تسمح لهم بالحكم، لكنها في الوقت نفسه لا تجعلهم قادرين على الفكاك من الدول التي صنعتهم.
وفي هذا الإطار، بدت هيئة تحرير الشام من وجهة نظر هؤلاء الفاعلين، الخيار الأنسب، حيث سجل جهادي قابل لإعادة التدوير إعلاميا، وجهاز أمني مركزي، وكذلك قدرة على ضبط المعارضين بالقوة، وانضباط تنظيمي يؤهلها للعب دور سلطة أمر واقع قابلة للتفاوض.
لم يكن الهدف برأي المنتقدين، البحث عن طرف معتدل، بل جهة قادرة على فرض الاستقرار بالقوة وتقديم نفسها لاحقا بلباس سياسي يمكن تسويقه غربيا، حيث كل محاولات تلميع صورة الجولاني، وإبرازه كشخص “براغماتي” ابتعد عن القاعدة، تقرأ في هذا السياق بخطوات منظمة لإدخال الهيئة تدريجيا في بنية الحكم المأمول.
وأما المعارضة السورية، فيرى أصحاب هذا الطرح أنها تعاملت مع التسريبات بقدر كبير من الصمت أو التبرير. المعارضة التقليدية خشيت فقدان دعم العواصم الغربية، والفصائل العسكرية خافت أن تستبعد من اللعبة، بينما ساهم جزء من الإعلام المعارض في ترسيخ فكرة أن الجولاني “تغيّر” وأنه لا يوجد بديل، في انعكاس لشبكة مصالح تدفع الجميع إلى تجنب مواجهة الحقائق المقلقة حول هندسة السلطة الجديدة خارج الإرادة الشعبية.
داخل بريطانيا نفسها، جاءت ردود فعل المعارضة سطحية ومحصورة في الاتهامات السياسية المعتادة، فالعمال يتهمون المحافظين بانعدام الشفافية، والاسكتلنديون يطالبون بتحقيقات، والليبراليون يركزون على ازدواجية المعايير، إلا أنه لا أحد وفق قراءة المنتقدين، تجرأ على الاقتراب من جوهر استراتيجية MI6 ودورها التقليدي في بناء شبكات تعتمد على فصائل محلية لضبط توازنات النفوذ ومنع نشوء قوة مستقلة في سوريا. ولذلك لا يتوقع أي مسار مساءلة حقيقي، لأن السياسة ذاتها ليست “إنحرافا” بل قاعدة عمل.
الدور البريطاني كما يراه أصحاب هذا الخط، لم يقتصر على التواصل مع الجماعات المسلحة، بل كان جزءا من مشروع أوسع للهيمنة غير المباشرة، حيث هناك تمويل مجالس محلية، والتأثير في الإعلام، وإدارة تناقضات القوى السورية، وصناعة سلطة تمثل أمر واقع بلا شرعية داخلية لكنها مفيدة للخارج لعدم امتلاكها قدرة على الاستقلال السياسي.
ومن هنا تقرأ التحركات الشعبية التي ظهرت في مدن كحمص وجبلة واللاذقية ليس فقط كاحتجاج على حكومة، بل كتمرد على هندسة دولية للسلطة في سوريا وعلى بنية سلطوية تشكلت خارج الإرادة الشعبية وبعيدا عن تطلعات الثورة الأولى، لأن بريطانيا وفق هذا السرد، كانت لاعبا مركزيا في إعادة تدوير القوى، والمعارضة السورية شاركت بالصمت، والمعارضة البريطانية وظفت القضية إعلاميا دون المساس بالبنية الاستخباراتية نفسها.
والنتيجة كما يخلص المقال، هي سلطة بلا شرعية، ودولة تدار أكثر بشبكات مخابراتية من مؤسسات وطنية، حيث ما يحدث اليوم في الشارع محاولة لاستعادة المسار الذي اختطف لعقد كامل، حين استبدلت الثورة بسلطة مصنعة، والإرادة الشعبية بتوازنات دولية مفروضة من الخارج.
إرسال التعليق