
التحول الراديكالي في خطاب التكفيروالهجرة محمد بن سعيد الأندلسي نموذجا
رصد المغرب
رغم التباينات الفكرية والمنهجية بين رموز التيار التكفيري الا ان هذا التيار الجديد فاق جميع التيارات الاخرى ، حيث يجمع على تكفير المجتمعات العربية والإسلامية كافة، لا على سبيل الردة، وإنما باعتبارها مجتمعات كافرة كفراً أصلياً لم تدخل الإسلام من الأصل، حسب تصورهم العقدي. ويستندون في هذا الطرح إلى جملة من المقالات والدراسات والمحاضرات التي أصلوا فيها ما يُسمى “الكفر المجتمعي”، وهو تصور يقوم على أن الشعوب المسلمة، بنظرهم، قد تبنت أنظمة وقوانين وضعية، وخضعت لطواغيت الحكم، ورضيت بثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما يعد عندهم مظاهر صريحة للشرك الأكبر.
. ومن أبرز المنظرين لهذا الخط التكفيري المتطرف، محمد بن سعيد الأندلسي، الذي يُعد من الأصوات البارزة في التنظير لظاهرة “تكفير المجتمعات”، حيث خصص عدداً من كتاباته، الصوتية والكتابية، لتأصيل هذا الموقف ضمن ما يعرف عند التيارات التكفيرية بـ”الولاء والبراء” و”تحكيم الشريعة”. ومن أبرز هذه الأعمال مقاله الموسوم بـ”البراهين الجلية في كفر الشعوب العربية”، والذي يمثّل وثيقة تعكس مدى التحول في مسار التفكير التكفيري من استهداف الأنظمة الحاكمة فحسب إلى تعميم الحكم بالكفر على عموم الشعوب.
في هذا المقال، يجادل الأندلسي بأن الشعوب العربية، في عمومها، لم تعد تنتمي إلى الإسلام لا اسماً ولا حكماً، بل دخلت في “دين الطاغوت” أفواجاً، بحسب تعبيره. ويصرح بأن الكفر الذي يحيط بهذه الشعوب ليس حكماً عاماً قابلاً للتأويل، بل هو كفر تعييني صريح، ينزل بالأفراد والمجتمعات دون استثناء، ما لم يثبت منهم براءة عملية وفكرية من هذه الأنظمة ومن مناهجها، وفق شروط صارمة لا تنفك عن رؤيته الخاصة للإسلام الصحيح. وقد بنى أطروحته هذه على عدد كبير من النصوص القرآنية، التي قام بتأويلها تأويلاً تجزيئيًا وانتقائيًا، بما يخدم تصوره الإيديولوجي، دون مراعاة لسياقاتها العامة أو المقاصد الكلية للشريعة.
وتجدر الإشارة إلى أن المقال يخصص أكثر من 15 صفحة في عرض ما يراه أدلة على “كفر الشعوب”، مستعيناً بمنهج ظاهري حرفي في قراءة النصوص، متجاهلاً الإجماع الفقهي والمقاصدي الذي يميز بين الفعل الكفري وبين تكفير المعين، فضلاً عن الشروط والضوابط الدقيقة التي وضعها العلماء في باب “التكفير”. ومن أبرز المظاهر التي يدرجها ضمن أدلة الكفر: المطالبة بالديمقراطية، والمشاركة في المظاهرات، والقبول بالقيم الكونية، والانفتاح على الغرب، واعتبار ذلك خروجاً عن الدين الحق ووقوعاً في الشرك الأكبر. وهذا ما يُظهر اتساع دائرة التكفير لديه إلى حدّ يشمل أغلب مكونات المجتمعات العربية المعاصرة.
إن هذه الرؤية التكفيرية لا تكتفي بتكفير الأنظمة السياسية بل تتعداها إلى تكفير المجتمعات بكاملها، وهو ما يمثل خطراً بالغاً، من حيث كونه يؤسس لشرعنة العنف ضد الشعوب، ويخلق حالة من العزلة الفكرية والاجتماعية لدى معتنقي هذا الفكر. كما أن هذه المقولات تتقاطع مع ما عرف تاريخياً بظاهرة “تكفير العاذر”، والتي تجعل من عدم تكفير الآخرين كفراً بحد ذاته، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام دوائر لا نهائية من التكفير والتفسيق.
ينطلق الأندلسي في مقاله “فصل المقال…” من تصور عقدي حاد يتبنى رؤية تكفيرية متشددة تجاه المجتمعات المسلمة المعاصرة، ويعتمد في استدلاله على تأصيلات جماعة التكفير والهجرة ترى أن مجرد الانتماء الظاهري للإسلام – كحمل الأسماء الإسلامية، وأداء بعض الشعائر – لا يكفي للحكم بالإسلام ما لم يقترن ذلك بتحقيق التوحيد الخالص، كما يفهمه هو وفقًا لمنهجه.
ويقوم طرحه على مقدمة مفادها أن كثيرًا من المجتمعات المسلمة اليوم لم تدخل في الإسلام “الصحيح” أصلًا، بل نشأت منذ أجيال على ما يسميه “الكفر والشرك”، مما يعني – في نظره – أن توصيف “الردة” لا ينطبق عليها، لأن الردة تقتضي سبق الدخول في الإسلام ثم الخروج عنه، بينما هذه المجتمعات – بحسب تعبيره – هي في حقيقتها “أحفاد المرتدين” الذين لم يُجددوا الإسلام في أنفسهم.
يرتبط الحكم بالإسلام في الفقه الإسلامي بجملة من الظواهر الظاهرة، منها النطق بالشهادتين، أداء الشعائر، الانتماء لجماعة المسلمين، وعدم إتيان ناقض من نواقض الإيمان. وقد اتفق جمهور أهل السنة على أن من أظهر الإسلام، جرت عليه أحكام الإسلام في الدنيا، ما لم يظهر منه ما يناقضه.
أما الأندلسي، فيعتمد على مفهوم “الإسلام الصحيح” كما تُصاغ في أدبيات التكفير والهجرة، وهو مفهوم يربط الإسلام بتحقيق “الولاء والبراء”، ورفض الأنظمة القائمة، والحكم على المجتمعات التي تعيش تحتها بأنها مجتمعات جاهلية خارجة عن الإسلام. وهذا التكييف هو اجتهاد غير معتمد عند جمهور العلماء، بل يصطدم بمبدأ “الظاهر” في الفقه، ويخالف الحديث النبوي:…» أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ.
إن وصف فئة من الناس بأنهم “أحفاد المرتدين” هو توصيف سياسي-عقدي أكثر من كونه توصيفًا فقهيًا دقيقًا. فالردة – كما هو مقرر في كتب الفقه – هي فعل فردي، يتعلق بمكلف مسلم خرج عن الإسلام بقول أو فعل. ولا يُورَّث الكفر في الفقه الإسلامي كما تورث الجينات، بل يحاسب كل إنسان على معتقده وسلوكه. وقد جاء في قوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى} ما يدل على رفض التوريث العقدي للمسؤولية الدينية.
ومن ثم، فإن وصف الأندلسي لهذه المجتمعات بأنها “لم تدخل الإسلام أصلًا” و”ورثت الكفر جيلاً بعد جيل” يتجاهل أن الفقهاء فرّقوا بين المرتد والكافر الأصلي، كما لم يجعلوا مجرد ولادة الفرد في بيئة غير ملتزمة معيارًا لخروجه عن الإسلام.
إن مثل هذا التكييف العقدي يقود – كما هو واضح – إلى تسويغ استباحة دماء وأعراض وأموال المسلمين، بدعوى أنهم “كفار أصليون”، وهو المسلك الذي اتبعته جماعات كانت تتواجد بمصر كجماعة شكري مصطفى او جماعة المسلمين الجدد التي تتبع الشيخ البرقاوي المقيم ببريطانيا، حيث أسقطوا أحكام الإسلام عن جماعات وشعوب بأكملها، واستباحوا استهدافها تحت ذرائع تكفيرية عامة لا تقوم على تحقق الشروط وانتفاء الموانع، وهو ما خالف به إجماع الأمة وعقيدة أهل السنة والجماعة.
. ففي مقاله “طاغوتية الشعوب العربية”، ينقل أبو عمر الليبي التصور الجذري الذي يتبناه هذا التيار عن مفهوم “الطاغوت”، إذ لا يقتصر توصيفه للأنظمة الحاكمة بالطاغوتية، بل يمد هذا الحكم ليشمل المجتمعات برمّتها، معتبراً أن المشاركة في الحياة العامة، والانخراط في مؤسسات الدولة، أو مجرد الولاء للمجتمع القائم هو في حد ذاته ولاء للطاغوت، مما يجعله موجباً للحكم بالردة.
ويُلاحظ هنا تطور خطير في التنظير الفقهي داخل هذا التيار، حيث يتم نفي الإسلام عن عامة المسلمين المعاصرين من غير أن يُشترط فيهم شرط واضح أو بيّنة قطعية، بل يكفي – في نظرهم – مجرد الانتماء للمجتمع المسلم أو عدم معاداته الصريحة للنظام القائم. وهو ما يتنافى مع الضوابط الشرعية المتفق عليها في باب التكفير، التي تشترط التحقق من الشروط وانتفاء الموانع، وتوجب التثبت والتأني، وتحذر من التسرع في إطلاق الأحكام.
ويزداد هذا التصعيد خطورة حين يمتد حكم الكفر، في تصور هؤلاء، ليشمل حتى أطفال المجتمعات التي يعتبرونها “طاغوتية”. وهذا ما يظهر جليًا في المقال المعنون بـ”التأصيل المبين في حكم أطفال المشركين”، حيث يتم تأصيل فكرة خطيرة تقوم على لحوق “الكفر الأصلي” بالأطفال، في استدعاء واضح لأقسى مقولات “التكفير العيني الجماعي”، والتي لا تميز بين البالغين والمكلّفين وغيرهم من الفئات المستضعفة، على خلاف ما قرره فقهاء الإسلام قديماً وحديثاً من احتراز بالغ في التعامل مع الأطفال والجاهلين.
ويمثل هذا الخطاب امتدادًا لنزعة “التكفير العنيف” التي تشكّلت في ظل تحولات تنظيمية وفكرية داخل تيار التكفير، لا سيما بعد صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي رفع منسوب التكفير ليشمل كل من لم يبايعه أو يظهر العداء الواضح لمن سماهم “المرتدين”. ويعد هذا النوع من التأصيل الفقهي من أخطر ما يهدد وحدة المجتمعات الإسلامية، إذ إنه يشرعن العنف والاقتتال الداخلي، ويحول الصراع السياسي أو الفكري إلى صراع وجودي تكفيري.
كما يُظهر هذا التوجه تأثراً واضحًا بما يُعرف بـ”مدرسة النفي والاستئصال”، وهي التيارات التي تتعامل مع الواقع الإسلامي من منطلق القطيعة الكلية، وترى أن التغيير لا يمكن أن يبدأ إلا من خلال هدم الكيانات القائمة وتكفير كل من ينتمي إليها، وهو ما يتناقض كليًا مع مناهج الإصلاح والتجديد التي عرفها التاريخ الإسلامي، والتي اعتمدت على التدرج، والموعظة، والاحتكام إلى ضوابط الشرع والواقع.
. ومما تجدر الإشارة إليه، أن هذا الاتجاه التكفيري الجديد يُمثّل مرحلة متقدمة من الراديكالية داخل الحقل الجهادي، يتجاوز في خطورته حتى أكثر التنظيمات تطرفًا كتنظيم “داعش”، الذي – رغم تطرفه الشديد – كان يحتكم إلى معايير محددة (وإن كانت شكلية وانتقائية) في تصنيف الأفراد والكيانات إلى “أعداء” أو “أنصار”، بناءً على محددات عقدية وتنظيمية واضحة نسبياً. فقد اعتمد “داعش” في خطابه على معايير البيعة، والولاء التنظيمي، والموقف من “الخلافة”، ورؤية سياسية دينية محكومة بمفاهيم الولاء والبراء وموانع التكفير.
أما الاتجاه التكفيري الجديد، الذي يمكن تصنيفه ضمن ما يُعرف اصطلاحًا بـ”التيار التكفيري ما بعد داعش”، فيتسم بتجاوز هذه المحددات الشكلية، لينتقل إلى مستوى أكثر راديكالية في التعاطي مع الآخر، حتى داخل الدائرة الإسلامية. فبدلاً من الاقتصار على تكفير الأنظمة الحاكمة أو التيارات الإسلامية المخالفة، أصبح هذا التيار يُشيطن الشعوب ذاتها، ولا يرى فيها مجرد “مخدوعة” أو “مُقصّرة”، بل يعتبرها كتلًا بشرية خارج إطار الإسلام، ويصنفها ضمن “الكفار الأصليين”، لا المرتدين فقط، وهو تحول مفاهيمي خطير يعكس نزعة استئصالية عميقة الجذور.
هذا التحول لا يمكن فهمه بمعزل عن السياقات الاجتماعية والسياسية التي مرت بها المنطقة خلال العقدين الأخيرين، حيث فشل المشاريع الجهادية في إقامة كيانات حاكمة قابلة للاستمرار، وتعرضها لانهيارات عسكرية وتنظيمية متكررة، دفع بعض عناصرها إلى تبني مقاربات أكثر تطرفًا، في محاولة لتفسير هذا الفشل وإعادة إنتاج مشروعية جديدة عبر توسيع دائرة “العدو” واستسهال “الحكم بالكفر” على فئات أوسع من المجتمع. كما أن هذا التوجه يعكس أزمة تأصيلية داخل الفكر الجهادي نفسه، الذي لم يعد قادرًا على إنتاج خطاب تعبوي جامع، بل أصبح مرتعًا للصراعات المرجعية والفتاوى المتضاربة.
ومن الناحية السوسيولوجية، يُعبّر هذا الاتجاه عن ميل متزايد نحو “التقوقع العقدي”، حيث تنكمش الجماعات الجهادية على نفسها، وتبني هويتها على النفي والإقصاء، لا على المشروع والبديل. وهذا ما يؤدي بالضرورة إلى مزيد من الانقسامات الداخلية، إذ إن منطلقات هذا الفكر لا تحتمل التعدد أو الاختلاف، مما يجعل أي اجتهاد أو مخالفة عرضة للتكفير والطعن في العقيدة، وهو ما نشهده اليوم في حالات كثيرة.
وإذا استمرت هذه النزعة في التصاعد، فإن ذلك سيؤدي إلى تفتيت المشهد الجهادي إلى جماعات صغيرة ومُغلقة، تتبنى مواقف أكثر عنفًا، ولكن بفعالية ميدانية أقل، حيث يغلب عليها الطابع النخبوي المغلق، وتفقد قدرتها على الاستقطاب الجماهيري، وهو ما قد يفتح الباب أمام تحولات جذرية في مسار الحركات الجهادية، من حركات ذات مشروع سياسي إلى كيانات هامشية متصارعة، تعيش على هامش الفوضى والصراع.
إرسال التعليق